إنّ تعزيز مسعانا العربي الى الديمقراطية يستوجب التمسك بروح الديمقراطية واستلهام دلالاتها العميقة، التي تقوم على حرية الانسان وكرامته، وتسمح بالتعددية السياسية التي تتيح المجال للتناوب على السلطة. ويبدو أنّ الحل الصحيح لمسألة التعددية السياسية يفتح الأفق واسعاً أمام حلول وفاقية للتعدديات الأخرى، خاصة منها القومية والثقافية والدينية والطائفية. وخاصة إذا ما تجاوزت التيارات الفكرية والسياسية انعزالها، واتجهت نحو بلورة توافق على مشروع مجتمعي بناء على رباط المواطنة في إطار مجتمع مدني، تطلق فيه مبادرات الأفراد والجماعات لما يخدم وحدته التوافقية.
وفي هذا السياق، وكي لا تبقى دعوتنا الى الديمقراطية فضفاضة، ندرج المعايير والمواصفات التي اتفق عليها أكثر المشاركين في ” ورشة عمل ” عن كيفية تعزيز المساعي الديمقراطية في العالم العربي، لعلها تساعدنا على تعزيز مسعانا إلى الديمقراطية:
1 ـ احترام حقوق الإنسان باعتبار أنه هو هدف وغاية أي نظام مجتمعي.
2 ـ التأكيد على المشاركة الشعبية في الحكم باعتبار أنّ الشعب هو صاحب السيادة.
3 ـ السماح بالتعددية الحزبية باعتبارها وسيلة المشاركة الشعبية.
4 ـ تداول السلطة بأسلوب سلمي بين الأحزاب والجماعات السياسية.
5 ـ تأمين العدل والمساواة، فلا تكون الديمقراطية نظاماً يسمح لفئة صغيرة من المجتمع باحتجاز ثرواته وإدارة شؤونه على نحو يتعارض مع مصالح الأكثرية.
6 ـ توطيد الحريات الخاصة والعامة التي لا ديمقراطية من دونها.
7 ـ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء بصورة خاصة، كي يؤمن للناس حقوقهم ضد طغيان السلطة التنفيذية.
ولأنّ معايير الديمقراطية ليست سوى مؤشرات دالة على وجود عملية ديمقراطية من عدمها فإننا نورد المعايير الخمسة التي ذكرها روبرت دال:
1 ـ المشاركة الفعالة، وتتحقق المشاركة السياسية الفعالة في عملية اتخاذ القرارات الجماعية الملزمة بقدر ما يتاح على أرض الواقع من فرص متساوية، وتتوفر معطيات كافية، تسمح للمواطنين بالتعبير عن اختياراتهم، حول ما يجب أن تكون عليه القرارات الجماعية الملزمة. وتتيح لهم وضع تساؤلاتهم حول الخيارات المتاحة، والحصول على المعلومات المتعلقة بها، والتعبير عن الأسباب التي تجعلهم يفضلون خياراً على آخر.
2 ـ تساوي الأصوات في المراحل الحرجة، وهذا يعني أن يكون وزن صوت كل مواطن مساوياً لوزن صوت غيره من المواطنين، عندما يكون القرار المطلوب اتخاذه قراراً حرجاً، يتوقف وجود الممارسة الديمقراطية على قبول نتائجه. ومن أبرز المراحل الحرجة مرحلة إقرار الدستور، وما يماثلها من قرارات هامة، تعتبرها الجماعة قضايا يؤسس عليها النظام الديمقراطي. ويرد على هذا المعيار ملاحظتان: أولاهما، أنّ معيار تساوي أوزان الأصوات في المراحل الحرجة، ومنها مرحلة إقرار الدستور، لا تنفي إمكانية بل ضرورة بذل جهود سياسية للوصول الى إجماع كافٍ بين القوى السياسية الفاعلة. وإنما المطلوب هو أن يكون إقرار الدستور وما يماثله من قرارات حرجة في نهاية المطاف بأغلبية مطلقة. وثانيتهما: أنّ هذا المعيار لا يتطلب الأخذ بمعيار أغلبية الأصوات دائماً في المراحل اللاحقة لأي من القرارات الحرجة، ومثال ذلك نص الدستور على أغلبية مرجحة لاتخاذ قرارات هامة أو ذات طبيعة خاصة.
3 ـ الفهم المستنير، أي مدى امتلاك متخذي القرارات الديمقراطية للمعرفة والدراية السياسية التي تتطلبها سلامة اتخاذ القرارات واطّلاعهم على المعلومات المتعلقة بالقرارات المطلوب اتخاذها. وهذا المعيار يتحقق بقدر ما يمتلك كل مواطن فرصاً كافية ومتساوية لأن يتعرف على المعلومات ويقدّر احتمالات نتائج الخيارات المتاحة، ويتوصل حسب وجهة نظره، إلى أي من الخيارات المتاحة لاتخاذ القرار الديمقراطي الذي يخدم المصلحة العامة بشكل أفضل. ومما لا شك فيه أنّ فرص تحقيق هذا المعيار أفضل في مجتمع تنخفض فيه نسبة الأمية، وتنتشر فيه الثقافة الديمقراطية، وتتنوع مصادر المعلومات وتشجيع مصادر المعلومات البديلة على الانتشار.
4 ـ سيطرة متخذي القرار الديمقراطي على جدول أعمال العملية الديمقراطية ، وهذا المعيار يعني أن تكون هناك مشاركة فعلية من قبل متخذي القرار الديمقراطي، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تحديد القضايا والمسائل المطروحة لاتخاذ قرارات ديمقراطية بشأنها. وهذا يتطلب أن لا يترك أمر اختيار القضايا والمسائل المطلوب حسمها ديمقراطياً، لفرد أو لقلة، وإنما يجب أن يكون للشعب أو الكثرة منه رأي في تحديد القضايا والمسائل الواجب طرحها، وتعيين الوقت المناسب لطرحها. إذ إنّ جدول الأعمال في الممارسة الديمقراطية يجب تحديده والموافقة عليه قبل الشروع في مناقشته، وما يقترح من جدول أعمال قبل إقراره، هو مشروع جدول أعمال. وغني عن البيان أنّ من يحدد جدول الأعمال يوجه المناقشة حول الأولويات التي يرى أنها أحق بالعناية.
5 ـ نطاق من يشملهم حق المشاركة في اتخاذ القرارات الديمقراطية ويختص هذا المعيار بتحديد نطاق اتساع المشاركة في العملية الديمقراطية، ويتحقق الشمول الكامل عندما يتسع نطاق المواطنة، وتمنح حقوق المشاركة السياسية للبالغين من الجنسين كافة.
ولعلَّ من أهم مسلمات ومقوّمات الديمقراطية هو إيجاد آليات مقبولة لتداول السلطة من خلال الوصول إلى نوع من ” التراصّ العام” بين معظم فئات وقوى المجتمع دون إرهاب أو تزوير للإرادة الشعبية. فإذا سلمنا بوجود التعددية السياسية، واختلاف الاجتهادات والرؤى للقوى السياسية المختلفة حول القضايا الكبرى، فلا بدَّ من وجود قواعد وآليات مستقرة (ومقبولة من معظم الاطراف المتنازعة) تسمح بالتداول السلمي للسلطة، وتحقيق الوحدة الوطنية من خلال التنوّع. ولعلَّ غياب تلك الآليات الواضحة والمقبولة لحل الخلافات السياسية هي التي تدفع إلى حرب اهلية مدمرة.
وتلك القضية يجب أن تلقى حلاً مرضياً في إطار ما يسمى بـ ” العقد الاجتماعي الجديد “، بمعنى بناء أسس ” مشروعية ” الحكم على أسس ترتضيها غالبية أفراد المجتمع. ولنجاح مثل هذا الرهان، يقتضي الأمر توافر ثلاثة شروط:
1 ـ قبول جميع القوى بمبدأ تداولية السلطة، دون التعلل بأية شرعية دينية أو ثورية للمكوث بالسلطة ومصادرة الآليات الديمقراطية لتداول السلطة.
2 ـ تحصين المجتمع المدني وتنظيماته ضد الاختراق الخارجي، إذ إنّ تجربة لبنان أثناء الحرب الأهلية وتجارب المعارضات العراقية، وتجربة العديد من المنظمات السورية، تثير كثيراً من الشكوك والقلق بهذا الشأن.
3 ـ تطوير علاقات تعامل ديمقراطية حقيقية وصادقة بين القوى السياسية والاجتماعية العديدة.
وإذا كان الكثيرون منّا يندبون حظ العرب بعد التغيّرات التي شهدها العالم، متناسين أنّ هزائمنا الكبرى تمت في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين، خاصة منذ سنة 1967، فإننا نعتقد أنّ هذه التغيّرات، بالرغم مما حملته من ضرر لقضايانا العربية التي لم تكن على ما يرام أصلاً، قد جعلت المسألة الديمقراطية ، في العالم العربي، تتحرر من عائقين كبيرين كانا يحولان دون طرحها طرحاً جدياً: أولهما، النموذج السوفياتي، إذ إنّ انهيار هذا النموذج قد أدى إلى سقوط الأطروحات التي كانت تستبعد أو تؤجل الديمقراطية السياسية باسم تحقيق الديمقراطية الاجتماعية والتنمية الشاملة أولاً. لقد اتضح أنّ العمل من أجل التنمية الشاملة والديمقراطية الاجتماعية، على حساب الديمقراطية السياسية، لا يؤدي إلا إلى بيروقراطية قاتلة، أولى ضحاياها الديمقراطية الاجتماعية نفسها. وثانيهما، أنّ انسحاب الاتحاد السوفيتي من مركز القطب المنافس للغرب سيجعل هذا الأخير في غير حاجة إلى أصدقاء من النوع الذي نصّبهم من قبل حكاماً على أقطارهم، أو ساعدهم على ذلك، من أجل أن يكونوا هم وبلدانهم أتباعاً له في صراعه ضد الاتحاد السوفيتي.
ولا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة أنّ الديمقراطيات الغربية هي التي انتهجت سياسات استعمارية في أقطارنا، وأنها تستخدم الخطاب الديمقراطي الجذاب، لإعادة صياغة أقطارنا بما يتناسب مع مصالحها الاقتصادية والسياسية، والتخلّي عن مبادئها المعلنة حول الحرية والاخاء والمساواة.