بني النظام السوري منذ استلام حافظ الأسد السلطة عام 1970 على قاعدة واحدة أن الرئيس هو الأساس، والجميع يخضع له، وتتوزع الحصص والمكاسب والمسؤوليات فيما دون موقع الرئاسة، ليس في النظام السوري أحد يحتل الرقم 2 أو الرقم 3 أو الرقم 4، الكل دون هذه الأرقام سواء كان موقعهم سياسي أو أمني أو مالي واقتصادي، لذلك لا صراع مع الرئيس، وإنما الصراع مع من دونه.
الركيزة الثانية في بناء النظام السوري، أن كل الثروات تحققت وبنيت على قاعدة الفساد، والحصص، والاقطاعيات، فلا وجود للقانون، ولا مكانة لعدالة التوزيع حتى بين هؤلاء الفاسدين، القضية مرتبطة بالدور الذي تراه الرئاسة لهذا الشخص أو ذاك، وما يمكن أن يحققه الشخص المعني لاستقرار النظام ولأهدافه، مضحك حديث رامي مخلوف عن أن في سورية قانون يمكن أن يلجأ إليه، وأن ما هو مطالب به لا بد أن تتيحه القوانين السورية.
الركيزة الثالثة أنه في مقاييس النظام لا وزن للشعب واحتياجاته ورأيه وتوجهاته، الوزن يعطى للبنى والتشكيلات ذات الأثر في ديمومة النظام، ومن الناحية الاجتماعية فهذه موزعة في دوائر معينة، الأسرة، العائلة، الطائفة، الحلفاء من الطوائف الأخرى.
من خلال هذه الركائز نستطيع أن نفهم ما يحدث في السلطة الآن من مماحكات وعمليات شد وجذب قد تؤول الى تشذيب وتغيير في توزيع المراكز والمواقع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية.
وأقدر أن مسار الصراع المستمر في سورية منذ 2011، وكذلك تقلص مصادر الثروة الوطنية نتيجة هذا الصراع وتكاليفه، ونتيجة الحصار المفروض على النظام السوري وداعميه ونتيجة انهيار اسعار النفط، وضيق ذات اليد لدى روسيا، وهي الداعم الرئيس للنظام عسكريا، والتكاليف المادية والاقتصادية والنفسية التي فرضتها جائحة كورونا، هو ما عجل بظهور هذه المماحكات، وانكشافها على أعلى مسؤول في هرم القطاع الخاص السوري.
أقول عجل في بروز هذه المماحكات لأنها كانت لا بد أن تظهر لاحقًا، المسألة أن الظرف الراهن عجل في ظهورها، إذ في الوضع الطبيعي كان لا بد أن يتقدم جيل الرئاسة السوري الراهن ليكون له نصيب الأسد في السيطرة على مواضع الثروة في سوريا ، ومصادرها.
في مرحلة حافظ الأسد وأنيسة مخلوف، وفي البنية العائلية لهذه الأسرة، حيث تظهر عائلة مخلوف بشخص محمد مخلوف شقيق أنيسة، كانت المسافة بين الطرفين الأسد ومخلوف قريبة جدا يعززها مكانة وتأثير الزوجة، لكن الآن الوضع اختلف، المسافة العائلية بين بشار الأسد ورامي مخلوف باتت أبعد، وإلى جانب بشار توجد زوجته أسماء الأخرس، وأهلها وهم أخوال أبنائها.
الترتيب العائلي اختلف، وصار لزامًا أن يعاد توزيع مصادر الثروة بين هؤلاء مع إعطاء الأفضيلة وحصة الأسد للعائلة الجديدة عائلة ” الأسد ـ الأخرس”، العائلة الصغيرة المكونة من الزوجين ومن الأبناء (حافظ 2001 وزين 2003. وكريم 2004)، وإلى جانب هؤلاء يبرز الأخوال والخالات وما يحيط بهم.
المشكلة أن مصادر الثروة في سوريا نضبت، فما عادت تكفي العائلتين: “الأسد ـ مخلوف “، و”الأسد ـ الأخرس”، وحينما اشتدت متطلبات الصراع والقوى المؤثرة فيه، صار الوقت مناسبا لتغيير الوجوه المسيطرة، وإذا تم هذا تحت شعار مكافحة الفساد، فظن الرئاسة السورية أنه يمكنها من تحقيق هدفها الأصيل، وكذلك إظهارها كجهة محاربة للفساد.
ليس في مقدور رامي مخلوف أو غيره أن يصارع بشار الأسد أو يكون ندا له، هذا خارج بنيان السلطة السورية، وهو يعلم ذلك، ولكن يبدو أنه لم يدرك بعد أن بشار الأسد ألحق عائلة الأخرس به، فصارا مركبًا واحدًا.
التسجيلات المصورة الثلاثة التي أطلقها رامي مخلوف والتي تتراوح بين الاستعطاف والتذلل والتحذير وإظهار نوع من التمرد، لا تجدي شيئا، وهي تدل على أن هذا الرجل لم يدرك تماما طبيعة السلطة التي استند إليها لتحقيق الثروة التي يديرها، ولم يدرك أن كل ما تحصل عليه وبات متحكمًا فيه تحقق خارج القانون، وعلى قاعدة الفساد والنهب والاحتكار، وبقرار وحماية رئاسية، لذلك فإن كل حديث له عن القانون والعدالة والفقراء والإيمان بالله وبأن كل شيء مرتبط بإرادة الله فهو حديث مثير للسخرية.
سيخرج مخلوف من مسؤولياته وشركاته ومؤسساته، لأنها كلها أسندت إليه باعتبارة وكيلاً لمنظومة الفساد التي يقف على رأسها الرئيس نفسه، وسيسلم هذه المواقع، ولا يملك، ولا يستطيع أن يضع نفسه في موضع المتصادم مع النظام، وبقدر ما تتم معالجة هذا الملف بسرعة بقدر ما سيتمكن من إبقاء بعض تجليات هذه الثروات من أموال وشركات في يده، وحين يتحقق ذلك فإن هذا سيكون أيضًا عطاء من بشار الأسد لأهداف هو يقدرها.
لا شك أن هناك تنافس شديد في سورية بين إيران وروسيا، وأن هذا التنافس يتغلغل ضمن دوائر السلطة التي أشرنا إليها من الأسرة إلى الطائفة إلى الحلفاء والأقليات.
وإذ تأخذ روسيا طريقًا إلى تعزيز مكانتها في سورية من خلال العلاقات الرسمية والعلائق العسكرية والاقتصادي والأمنية، فإنها أيضًا تعزز هذه المكانة من خلال اختراقها للتشكيلات العسكرية ولجيش النظام ومؤسساته الأمنية، وأيضًا من خلال القوات التي تبنيها وتسيطر عليها مباشرة سواء في مناطق المصالحات أو في الألوية والفرق التي تقوم بإعادة تأهيلها، وهي في هذا المسار قامت بربط العديد من الفعاليات الاقتصادية والمالية السورية بها.
هذا المسار الروسي تقابله إيران بمسار عقدي طائفي يقوم على نشر المذهب الشيعي بعقيدة ولاية الفقيه، وإعادة إعمار ما يسمى بالمزارات في سورية، وإعادة توطين وتجنيس الكثير من الميليشيات التي استقدمتها للقتال إلى جانب النظام، وتملك العقارات والأراضي، وهي تتمدد ضمن الطائفة العلوية، التي في جذرها الديني لا تستسيغ هذا التشيع.
وتظهر إيران في كل ما تقوم به اهتمامًا بإثارة كل ما من شأنه زيادة سعار الطائفية في سورية باعتبار ذلك سلاحًا لتقوية وجودها وتأثيرها، وتتخذ من حزب الله اللبناني ومن الميليشيات العراقية سبيلًا لتعزيز أهدافها، وتبذل في كل هذا الكثير من المال، وفي هذا الجانب فإن الحصار المفروض على إيران ذو أثر كبير على هذه الخطط.
والذي يدقق في التنافس الإيراني الروسي لا يصعب عليه ملاحظة أنه بات للجانبين وجود وتأثير متجذر في النظام، وأن روسيا تستعجل الحسم الهادئ في سورية لصالحها، ولعلها تستثمر الضربات الإسرائيلية للوجود الإيراني في سورية، ـ وهي ضربات لا يمكن أن تحدث إلا برضى أو تواطئ روسي ـ من تحقيق هذا الحسم الهادئ.
وأرجح أن كل ما أثاره الإعلام الروسي من ضجيج، وما أطلقه من توصيفات أصابت رأس النظام وتمحورت حول الفساد والعجز إنما جاء في إطار تثبيت المكاسب الروسية، وإزاحة المنافس الايراني، وترسيخ صورة روسيا باعتبارها الفاعل الأول لما يمكن أن يترتب للوضع السوري مستقبلًا.
هل آن أوان رحيل هذا النظام، رحيل عائلة الأسد، ومن يحيط بها أمنيا واقتصاديا، وبدء مسيرة جديدة في سورية؟
إذا كان الباعث على طرح هذا السؤال هو ما ظهر من “صراع” مصالح داخل النظام، فإن الجواب القطعي، أن هذا “الصراع”، لاعلاقة له بتغيير النظام في سورية، ومن أجل ذلك فإنه ليس من الحقيقي تسميته صراع سلطة.
أما القول إن الوضع في سورية على عمومه صار يفرض تغيير النظام، وإنا ذاهبون إلى ذلك، فالجواب نعم، لكن المشكلة الرئيسية أن القوى الفاعلة على الساحة السورية لم تجد بعد بديلًا لبشار الأسد. وهي تبحث عن بديل، لأن استمرار وجود هذا الطاغية وزمرته بات مكلفًا لجميع هذه القوى.
لا بد من وجود “فارق ما”، بين البديل والنظام القائم، “فارق ما” يسمح بطي هذه الصفحة السوداء من حياة سورية، لكن لم يتبين لأي من هذه القوى من يكون البديل، ولأن القوى المؤثرة في الساحة السورية متعددة فإن توافقهم على بديل يبدو أصعب.
يريدون نظاما صفته الأساسية أنه “حامي للأقليات”، وفق الوصف الروسي، وأن يكون في الوقت نفسه يحقق رضًا سنيًا، ويخرج سورية من عباءتها العربية، ويحافظ على وحدتها الجغرافية، ويحقق الأمن لتركيا ويوفر للاجئين اطمئنانًا يدفعهم للعودة، ويقدم للأميركيين نفط سورية، ويرضي شكلا من أشكال النزوع الانفصالي لأصحاب هذا المشروع من الأحزاب الكردية، ويحقق أمنًا وسلامًا مع الجوار المشروع وغير المشروع لسورية، ويسكن الاحتقان الطائفي، ويرضي القاتل والقتيل، ويوفر ظرفًا لهجوم الشركات الغربية إلى السوق السورية من بوابة إعادة الإعمار. الخ.
وإذا كان وجود مثل هذا النظام من قبيل المستحيلات، فإن بديلاً للنظام القائم، والرئيس الراهن يبدو متعثرا، ولسوف يبقى كذلك، حتى تتغير مواصفات النظام التي تريده القوى الفاعلة على الساحة السورية، أو حتى تتغير هذه القوى نفسها. طبعًا في كل هذا المسار لا ذكر لإرادة السوريين، ولا لتطلعهم، ولا لثورتهم وما أرادوه من هذه الثورة.
ولا نتحدث هنا عن الحراك الثوري الذي انطلق في مارس 2011، وتطلع السوريين إلى الحرية والكرامة والعدالة، لكن حتى تطبيق قرارات الأمم المتحدة بشأن سورية وإنجاز ما يجب إنجازه عبر مسار جنيف وهو تمثل الحد الأدنى من مطالب الشعب السوري ما زال بعيد المنال، ما زال المشوار إليه شاقًا ويحيط به شك عميق.