في مقابلة مع صحيفة «واشنطن بوست» (14/12/2021) دافع فيها الرئيس التونسي قيس سعيد عن إجراءاته السياسية التي اتخذها في 25 تموز/يوليو 2021 وقال بأنها تصحيح للمسار في البلاد. ورفض الانتقادات الأمريكية للتحركات التي اعتبرتها تقويضا للمسار الديمقراطي الناشئ في البلاد والذي ظل مثالا عن التحول السلمي في المنطقة.
ولام الرئيس ما أسماها «الأخبار الكاذبة» بشأن الانتقادات التي تعرضت لها حكومته. وجاءت مقابلة سعيد أثناء زيارته لواشنطن بعد دعوة إدارة بايدن سعيد لحضور القمة الأفريقية التي تحاول من خلالها واشنطن تأكيد حضورها في القارة ومواجهة التأثيرات الروسية والصينية.
وزاد سعيد باتهام «قوى أجنبية» لم يذكرها وحملها مسؤولية إثارة المشاكل ضد حكمه. وقال «هناك الكثير من أعداء الديمقراطية في تونس والذين يريدون عمل ما بوسعهم لتقويض المسار الديمقراطي والحياة الاجتماعية من الداخل».
الانقلابات ليست واحدة
وجاء لقاء سعيد مع هيئة تحرير «واشنطن بوست» يوم الأربعاء في لحظة مهمة بالنسبة لتونس، فهي تتوافق مع انتخابات برلمانية، تعلم نهاية مرحلة التغييرات السياسية التي بدأها منذ تموز/يوليو 2021 وتتوافق مع احتفالات تونس بالثورة التي أطلقت شرارة ما عرف بالربيع العربي في عدة بلدان عربية عام 2011 وأنهت ديكتاتورية زين العابدين بن علي المستحكمة. وتأتي دعوة واشنطن لسعيد رغم استبعادها قادة آخرين من القمة باعتبارهم انقلابيين تعبيرا عن تقبل أمريكي للمسار الجديد في تونس. وكعادتها تبرر واشنطن التي اتخذت إجراءات رمزية من قطع جزء من الدعم المقدم لتونس، بأن سعيد بات مهيمنا على القرار السياسي في البلاد ولا يوجد هناك من يتحداه، ولا تظاهرات ضده.
ولاحظت «واشنطن بوست» أن اختلاف المواقف الأمريكية والتونسية حول الأحداث التي تلت انتخاب سعيد 2019 -والأهم بعد تعليق البرلمان في 2021- بدا كأنه يشير خلال الزيارة إلى تصلب العلاقات بين البلدين، ما قد يدفعها إلى حد المواجهة، حيث تهدد إدارة بايدن بوقف المساعدة المطلوبة، ويرفض سعيد أي تلميح للتوبيخ. وبعد ثورة الياسمين دعمت واشنطن تونس وقدمت لها المساعدات الاقتصادية والدعم السياسي. لكن إدارة بايدن خفضت المساعدات المدنية والعسكرية لتونس بمقدار النصف تقريبًا في ميزانيتها المالية 2023 بسبب إجراءات سعيّد.
البرلمان هو المسؤول
وكرر ما قاله بشأن البرلمان باعتباره المسؤول عن الأزمة في البلاد قائلاً إن المقاعد كانت «تباع وتشترى» في البرلمان السابق، مشيرا إلى أن دستور 2022 وفر للتونسيين حقوقا وحماية أكبر من الدستور السابق للبلاد. ورغم النقد العلني الذي برز من المسؤولين الأمريكيين لما قام به سعيد إلا أنه لا يغير من حقيقة أنها تتعامل مع نظامه ودعته إلى قمة مهمة في واشنطن. ونقلت الصحيفة عن مسؤول أمريكي قوله إن إدارة بايدن وإن دعمت انتخابات السبت إلا أنها ستبحث عن خطوات إضافية لوضع تونس في مسار مختلف. وقال المسؤول: «الأمر دائما يتعلق بما هو أكثر من الانتخابات. يتعلق الأمر بالتنفيذ، إنها تتعلق بالروح الديمقراطية التي يجب أن تتجاوز آلية الانتخابات نفسها».
لا حديث عن الاقتصاد
وكعادته أحجم الرئيس التونسي عن تقديم تفاصيل حول خططه الاقتصادية، فلطالما انتقد لتركيزه على المسار السياسي المتعلق بتوسيع صلاحياته، وعندما سئل عن الطريقة التي سيخفف فيها متاعب التونسيين وسط التفاوض مع صندوق النقد الدولي حول حزمة إنقاذ بملياري دولار، قال إنه سيعمل على دعم الشركات الصغيرة ومكافحة البطالة. ولا بد من التذكير أن اقتصاد تونس تقلص وسط وباء كورونا بنسبة 9 في المئة وهو وإن انتعش قليلا بعد نهاية كوفيد-19 إلا أن التضخم وزيادة الأسعار وعدم توفر الحاجيات الأساسية تجعل من أي حديث حول مكافحة البطالة أو إعادة عجلة الاقتصاد بدون معنى.
لا أحد مهتم
فالشارع التونسي، لم يعد مهتما بما يريده الرئيس من «إصلاحات» سياسية، وحتى من دعموا خططه في البداية يرفضون مساره السياسي. ولهذا قررت الأحزاب الكبيرة مقاطعة الانتخابات إلى جانب الاتحاد التونسي العام للشغل الذي ينتمي له مليون شخص أعلن عن مقاطعته الانتخابات. ولا أحد في تونس عبر في الأيام التي سبقت الانتخابات التشريعية عن اهتمام بها، فهي بعيدة عن أذهانهم، ومن لا يفكر بطرق لتوفير الطعام لعائلته يبحث عن طرق للخروج من تونس عبر القوارب غير الشرعية. وكان تعليق سعيد على سؤال الحالة الاقتصادية بالقول «بالطبع، إذا أردنا تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية بنجاح، فنحن بحاجة إلى إدارة محايدة، ومحايدة تمامًا». وعلقت سلسبيل شلالي، مديرة مكتب هيومان رايتس ووتش في تونس، بالقول إن سعيد لم يتمكن من حل الضائقة الاقتصادية التي تهم التونسيين، مضيفة أن «سعيد الآن هو المسؤول عن الأزمة». وقالت: «الأمر متروك للشعب التونسي، بدعم من أصدقاء الديمقراطية في كل مكان، للمطالبة بالعودة إلى حكومة خاضعة للمساءلة، حكومة ذات ضوابط وتوازنات وضمانات لحقوق الإنسان، كأفضل طريقة للمضي قدما».
لا حقوق
وإلى جانب تعطيل المسار الديمقراطي والتحول وبشكل متزايد للديكتاتورية تراجعت الحقوق العامة، فمن ملاحقة المعارضين والأنداد السياسيين الذين منعوا من السفر أو تم استدعاؤهم للمثول أمام محققين في قضايا إرهاب، وتم تكميم الحريات العامة وإغلاق محطات التلفزة وملاحقة أي منتقد للرئيس، وعلمت انتخابات يوم السبت تراجعا آخر في الحقوق التي تمتعت بها المرأة التونسية وتجسدت في الدستور منذ الاستقلال. وقالت صحيفة «الغارديان» (16/12/2022) إن البرلمان المقبل سيهيمن عليه الرجال، حيث استبعدت الإجراءات التي قام بها سعيد المرأة. وإلى جانب ضعف البرلمان فسيكون بنساء أقل وبعدما تحرك سعيد وغير قانون الانتخابات بدون اعتبار لحقوق المرأة التي جعلت تونس رائدة في المنطقة من ناحية التمثيل النسائي. وسجلت 122 امرأة في الجولة الجديدة من الانتخابات البرلمانية مقارنة مع 936 رجلا والذين حصلوا على الموافقة للترشح، ما يعني أن غرفة البرلمان ستكون مختلفة عن 2014 حيث شكلت النساء نسبة ثلث أعضائه. وإلى جانب شطبه مطلب التناوب بين الجنسين على القوائم الانتخابية، فقد زاد من المطالب التي تؤثر بطريقة غير متناسبة على الراغبات بالمشاركة في الانتخابات. وكتبت شلالي في مدونة: «كان البرلمان التونسي مثالا عن التساوي بين الجنسين في المنطقة، وبالتغييرات الجديدة في القانون فسيصبح هذا تاريخا». وقالت هندة الشناوي، الناشطة المعروفة «الأمور في تدهور من الناحية الثقافية». وأضافت أن «قيس سعيد يتحدث من عقلية محافظة، فهو ليس مهتما بالتمثيل ولا فيما يتعلق بالمساواة والعدالة، وفي الوقت الحالي فهو يتجاهل كل موضوع المرأة، وهو صامت حوله، وهو غائب عن كل اللحظات الوطنية المهمة مثل يوم المرأة، وهذا أمر خطير». ويرفض أنصار الرئيس الذي نظم دستورا انتقد كثيرا ولكن تم تمريره، الاتهامات ويشيرون إلى أنه أول من عين رئيسة للوزراء وهي المهندسة الجيويولوجية نجلاء بودين. إلا أن تصريحاتها باتت نادرة ويقول النقاد إنهم أصابوا عندما توقعوا بتحولها إلى موظفة لدى الرئيس.
وعبر سعيد عن دعمه لقانون الميراث الذي يفضل الرجل وعلى الموقف التقدمي الذي دعمه الرئيس السابق الباجي قايد السبسي. وقالت كنزة بن عزوز من هيومان رايتس ووتش «منذ انتخاب سعيد توقف تقدم قضية المرأة». مضيفة أنه حتى مع وجود الإرادة السياسية إلا أن تعليق البرلمان لمدة 18 شهرا عرقل أي تقدم عملي مثل توقيع بيان اسطنبول ضد العنف الموجه للمرأة. وقالت سيدة ونيسي من حزب النهضة الذي قاطع الانتخابات «لا أعتقد بوجود أي مجال لحقوق المرأة في برنامج سعيد فهو الذي قال: أي واحد يقف مع الانتخابات يتفق معي. لا تنوع سياسيا ولا تنوع نسائيا لا شيء».
الطريق للمجهول
لم يترك سعيد، استاذ القانون الدستوري في يوم ما مفصلا من مفاصل الدولة التونسية وقد غيره، فإلى جانب البرلمان والدستور الذي عطله في بداية حركته، مع أنه استخدم مادة فيه لتعطيل المسار الديمقراطي، فقد ألغى هيئة مراقبة دستورية القوانين والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وقام بحل وإعادة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء والهيئة العليا للانتخابات وصولا إلى كتابة دستور جديد، والاستفتاء عليه بنسبة لم تتجاوز 30 في المئة من الناخبين في مؤشر واضح على تراجع شعبية الرئيس وتآكل الديمقراطية.
واستطاع سعيد القيام بهذا مستغلا شعبيته وانقسام معارضيه، فقد جاء كسياسي مبتدئ من خارج المؤسسة الحزبية وفاز بنسبة 70 في المئة من أصوات الناخبين، لكن عجزه عن وقف التراجع الاقتصادي وحل المشاكل التي وعد بها، وتركيزه على تأمين سلطته والبقاء فيها لأمد طويل كرس الإنقسام الحاصل داخل المجتمع التونسي حيث وصفت المعارضة تحركاته بالإنقلاب أما أنصاره فخرجوا إلى الشارع من أجل الترحيب بما قام به. وبالتأكيد هناك الكثيرون الآن ممن ندموا على دعمه، إلا أن شعبيته لا تزال قائمة، حتى في ظل الكفاح اليومي الذي يعيشه التونسيون لتأمين لقمة العيش، ولهذا لاحظ تقرير لوكالة أنباء «رويترز» عزوفا عاما عن الانتخابات التشريعية، أما لأن الناخب منشغل عنها أو لانه يبحث عن الخبز والسكر والقهوة إضافة للمحروقات التي أصبحت غير متوفرة وأن توفرت فلا يستطيع المواطن العادي شراءها لارتفاع الأسعار وبشكل جنوني. ورأى الباحث ماهر لطيف بمقال نشره موقع معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، بداية الشهر الحالي أن المشهد التونسي يزداد ضبابية وقتامة، مع غياب أي بوادر انفراج في الأفق القريب، وفشل كل من الرئيس قيس سعيد ورئيسة حكومته نجلاء بودن في إخراج البلاد من أزمتها الراهنة وإنعاش الاقتصاد. وقال إن المنظومة المالية في تونس باتت اليوم مهددة بالانهيار وذلك في ظل بلوغ البنك المركزي والمنظومة المالية المحلية طاقتها القصوى، وعدم قدرتها مستقبلا على توفير ما من شأنه أن يضمن مستحقات الشعب. ورغم إعلان الحكومة عن توصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي إلا أن الشروط التي وضعتها المؤسسة الدولية ستزيد من معاناة الناس. ويعد هذا الاتفاق حسب الباحث، خطوة جيدة ومهمة على الأقل على المدى القصير لإنقاذ اقتصاد البلاد وطمأنة شركاء تونس وتجديد ثقتهم، فسيفتح التوقيع مع صندوق النقد المجال أمام الاقتراض من دول أخرى اشترطت الاتفاق أولا مع صندوق النقد الدولي.
وبالنظر لحجم المبلغ الذي طلبته تونس ومقارنته مع ميزانية 2022 فلن يكون كافيا لتغطية نفقات السنة المالية والتي ستصل إلى 7 مليار دولار. كما ولن يعطي القرض دفعة للاقتصاد وخاصة بعد زيادة الآلام المعيشية نتيجة للحرب في أوكرانيا. وربما زاد القرض من فقر المواطنين نتيجة التضخم وزيادة الأسعار، وهو ما يفتح المجال أمام زيادة الغليان. ولن يكون بالتالي للاتفاق مع صندوق النقد الدولي أي أثر على الاقتصاد الميت من الناحية السريرية بل هو مجرد حل ترقيعي.
وسيظل سعيد يلعب على انقسامات الشارع التونسي والخلافات الحزبية والفتور الدولي الذي يبدو أنه قبل بما قام به، وخاصة أمريكا التي وإن انتقدت ووبخت النظام إلا أنها لم تقطع علاقاتها معه أو تضغط عليه متعللة بنفس الذرائع التي تستخدمها في أماكن أخرى، أي الخيارات الأمنية والإستراتيجية.
ولكنها تغفل بالضرورة تعامل السلطة الوحشي مع المتظاهرين والقبضة الأمنية التي يبطش بها قيس سعيد بمعارضيه، وإخافتهم بالاعتقالات والتحقيقات القضائية وإحالتهم على القضاء العسكري. وأدت هذه الإجراءات القمعية وحالة الخوف المنتشرة إلى إسكات جميع الأصوات المعارضة وجعلت من الصعب على المواطنين العاديين النزول إلى الشارع للاحتجاج على تحركات سعيد غير الديمقراطية.
بل على العكس، فالدعوة الأمريكية للرئيس إلى واشنطن والزيارات الأمريكية المتكررة والتصريحات المتتالية تجعل السلطة في تونس تعتقد أنها مهمة لواشنطن التي تريد مساعدتها والحفاظ على البلد في الفلك الأمريكي حتى لا يرتمي في أحضان أعدائها في القارة مثل الصين وروسيا. وربما كان هذا تبريرا مقنعا إلا أن دول القارة وتونس ليست استثناء باتت تتعامل مع كل القوى العظمى في نظام متعدد الأقطاب، وبالتأكيد فالكثير من قادة دول أفريقيا الذين استقبلهم بايدن، لم يدعموا الموقف الأمريكي في أوكرانيا، وهم متشككون في وعود واشنطن من الاستثمار ودعم الجيل المقبل في قارة ستكون مهمة بسكانها ومصادرها الطبيعية للكرة الأرضية ونجاتها من التغيرات المناخية في العقود المقبلة.
المصدر: القدس العربي