السوريون ووباء كورونا “دراسة استطلاعية – الحاضر والمستقبل”

د. طلال المصطفى – د. حسام السعد

يُعدّ فيروس كورونا (كوفيد 19) من أعقد الأمراض التي مرّت على البشرية حتى الآن، خاصة أن الجهات العلمية الطبية لم تتمكن من التوصل إلى علاج حاسم أو لقاح للوقاية منه. وباتت الأعراض المرافقة له تؤثر في الجانب الشعوري والنفسي للإنسان، كالخوف الشديد من الإصابة والموت، ولا سيما أنه أصاب أكثر من مليوني شخص، وقضى على عشرات الآلاف من البشر، حتى اليوم.

أثار انتشار فيروس كورونا كثيرًا من الجدل حول مصدره ومكوناته، وفتح أبواب النقاش حول شكل العالم كيف سيكون بعد التخلص من هذا الفيروس والقضاء عليه. فعلى صعيد منشأ الفيروس وانتشاره، تراوحت التفسيرات بين الأسباب الطبية، والحروب البيولوجية، والحروب الاقتصادية بين الدول الكبرى في العالم، وإرجاع وجوده إلى حكمة إلهية. وتنوعت أساليب التعامل مع الحجر الصحي الذي فُرض بسبب هذا الفيروس، واختلفت أو تفاوتت التأثيرات النفسية والاجتماعية والسلوكات اليومية. وامتد الأمر إلى التوقعات التي يمكن أن تحصل في حال انتهاء الفيروس، بخصوص آثاره على الواقع السياسي والاقتصادي – الاجتماعي في العالم، وتغيرات الخريطة السياسية والاقتصادية.

كل ما سبق قادنا إلى إجراء دراسة استطلاعية للعلاقة بين التصورات والسلوكات والتوقعات الخاصة بالسوريين، تجاه هذا الفيروس، خصوصًا أنه بات ظاهرة عالمية لا تخص مجتمعًا بعينه، وظهرت تفسيرات مختلفة بين ثقافة وأخرى.

تبلورت الأهداف من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتية:

1- ما تفسيرات نشوء وانتشار فيروس كورونا؟

2- ما المشاعر التي يختبرها السوريون في هذه المرحلة من الحجر؟

3- ما السلوكات التي يقومون بها في فترة الحجر المنزلي؟

4- ما توقعاتهم لمرحلة ما بعد كورونا؟

بلغ حجم العينة (940) مفردة، توزعت على أماكن وجود السوريين: سورية (مناطق سيطرة النظام، مناطق إدلب وريفها، مناطق درع الفرات، مناطق غصن الزيتون، مناطق سيطرة PYD)، تركيا، لبنان، العراق، فرنسا، ألمانيا، الدانمرك، النمسا، السويد، فنلندا، روسيا، السعودية، الكويت، مصر، الإمارات العربية المتحدة، قطر، الجولان السوري المحتل.

وقد خلصت الدراسة إلى جملة من النتائج، نذكر منها:

1- كانت النسبة العليا في تفسير أسباب نشوء وباء كورونا وانتشاره ترى أنه شأن “طبي بحت”، وهو ما يشير إلى استيعاب مرحلة الصدمة الأولى، وقت نشوء الفيروس، وتسببه في إيقاف عجلة الحياة اليومية في جميع البلدان تقريبًا، وإسناد تفسيره لدى كثير من البشر إلى أسباب غير علمية، تتعلق ببعض الماورائيات أو نظريات المؤامرة المعهودة.

2- جاء تفسير الوباء بأنه “حرب بيولوجية بين الدول المتنافسة للهيمنة على العالم”، ثاني الأسباب، أو أنه “حرب اقتصادية بين الدول المتنافسة اقتصاديًا على المستوى العالمي”. وإن هذين التفسيرين نابعين من ظهور كثير من التحليلات العالمية التي تقول بأن ما يجري هو “صنع فيروس” بهدف تغيير موازين السيطرة في العالم، ومنها السيطرة الاقتصادية، بين الدول العظمى على خريطة الاقتصاد العالمي. وقد كان لهذه التحليلات نصيب كبير من الانتشار على وسائل الإعلام المختلفة، ولا سيما أن هناك تناقضات بين العلماء في كيفية الإصابة بهذا الفيروس وعملية العدوى وانتقاله بين البشر، وهو ما فتح باب التأويل أمام تفسيرات بعيدة عن الجانب الطبي الخاص بانتشار هذا الفيروس في كل دول العالم تقريبًا.

3- جاء التفسير الديني “عقوبة إلهية نتيجة الابتعاد عن الأديان” مرتبطًا بنمط التفكير في الكوارث الكبرى، إذ دائمًا ما يتجه التفكير الديني نحو تفسيرها بقدرات هائلة إلهية، عقابًا أو رضًا عن البشر، وليس ذلك بسبب عجز العلم عن تفسير الظواهر أو عدم الجزم النهائي حولها، فحسب، بل بسبب سيطرة نمط من التفكير الديني في تفاصيل الحياة كاملة، بما يمكن أن نسمّيه “رؤية للحياة” تتسق فيها أولوية التفسيرات للظواهر الحياتية كافة، حتى العلمية والطبية، مع نسق التفكير الديني عند الأفراد.

4- كان الشعور الأعلى بين أفراد العينة هو “القلق من فقدان الأقارب والأصدقاء”، وهو ما يشير إلى بقاء العلاقات العائلية وأواصر الحميمية، كبنية أساسية في تكوين الأسرة السورية، ومن ضمنها علاقات القربى والجوار وغيرها مما يشكل روح المجتمع السوري، الذي ينبني في جوهره على التكافل الأسري والاجتماعي، بكل ما يتضمنه من مرجعيات قد تكون اجتماعية أو دينية.

5- “الشعور بالضجر”، وهو ما يفسر تبعات الجلوس المستمر في المنزل، مع عدم وضوح أمد انتهاء الحجر المنزلي وعودة الحياة الطبيعية إلى سابق عهدها.

6- “تغيرات في الطباع والمزاج”. إن طول أمد الجلوس في المنزل، مع عدم وضوح مدة الحجر، يترك تأثيراته على المزاج الفردي، ولا سيما أن أنماط الحياة اليومية للأفراد قد انقلبت رأسًا على عقب.

7- “الشعور بالعجز”، ففي الوقت الذي كان الفرد فيه يظن أنه يستطيع التحكم في حياته اليومية، ويلجأ وقت الحاجة إلى المختصين في شؤون الحياة المختلفة لحل أي معضلة تواجهه؛ بدا الأمر مع وباء كورونا وكأن القدرات البشرية قد عجزت حتى اللحظة عن التفسير والسيطرة على الأمر، وهو ما يولّد شعورًا عامًا بعجز الإنسان أمام تحديات جديدة، كان يظن أنه يستطيع السيطرة عليها أو التحكم فيها.

8- جاءت مشاعر (الشعور بالعزلة والوحدة، القلق على حياتي، شعور مستمر بالخوف والهلع) بنسب متوسطة، لكننا نرى أن لها مدلولات مهمّة تشي من جهة بتشابه شعور الإنسان تجاه الكوارث الكبرى التي تهدد حياته، وبخصوصية طبيعة الفرد السوري المعتاد على علاقات القربى والصداقة التي تشكل عالمه بشكل عام، عكس نمط الحياة الغربية الذي يقلل من شأن هذه العلاقات، لذلك فإن الشعور بالوحدة والعزلة “بشكل خاص” يأتي من نمط الحياة اليومية التي يعيشها السوري والتي تتكون من وجود أشخاص عدة حوله منهم القريب أو الصديق.

9- تعامل 65 % من أفراد العينة بجدية مع أخطار وباء كورونا، وهي نسبة جيدة في أخذ الأمور على محمل الجد، لا سيما مع الأرقام الواردة يوميًا حول الإصابات والوفيات في العالم والمناطق التي يعيشون فيها.

10- جاء “القلق تجاه المستقبل المهني” كثاني نسبة عليا، وهو من المسائل التي باتت تشغل بال كثير من العاملين في العالم عمومًا، ومن السوريين بطبيعة الحال، وذلك في ظل التخوف من فقدان فرص العمل في مرحلة ما بعد كورونا.

11- جاء “القلق تجاه تأمين الاحتياجات اليومية” كثالث أعلى نسبة، وهو الأمر الذي تعانيه مجموعات كبيرة من السوريين في المناطق كافة، بسبب بدء نقص المدخرات والتوقف عن العمل من جهة، والمكان الذين يعيشون فيه من جهة ثانية.

12- جاء “القلق تجاه المستقبل التعليمي” كرابع أعلى نسبة، وهو ما يشغل بال الطلاب في المراحل الجامعية، من خلال تخوفهم من ضياع الوقت وضبابية المستقبل التعليمي لهم.

13- كان سلوك 34 % من أفراد العينة هو “المتابعة الدائمة لأخبار الوباء”، و”التفكير المستمر بالمراحل القادمة بعد الوباء”. وقد جاءت كأعلى نسب لأفراد العينة. ومع ذلك، فإن هذه النسبة تبدو قليلة مع الضخ الإعلامي اليومي الهائل الذي تقوم به وسائل الإعلام المختلفة حول وباء كورونا، من خلال الصور ومقاطع الفيديو والأرقام المختلفة، وكذلك التوقعات. ويبدو أن نسب المتابعة لدى أفراد العينة قد انخفضت، بسبب تكرار المشهد المتعلق بالفيروس وتطوراته.

14- جاء “ترك الأمور إلى الله” كثاني نسبة، وهو ما يعني فشل الكوادر الطبية في العالم في السيطرة حتى اللحظة على المرض، وقبل ذلك الفشل في إيجاد لقاح له، وهذا يترك الاتكال على القدرات الإلهية خيارًا أمام البعض، للخلاص من قلق التفكير في هذا الوباء.

15- “انتظار الوصول إلى لقاح” جاء ثالثًا، كمؤشر على قناعة كثير من الأفراد بأن منشأ الفيروس هو طبي بحت، ولذلك لا يمكن القضاء عليه إلا من خلال إيجاد لقاح مضاد له.

16- من أهم النشاطات التي مارسها السوريون عينة الدراسة، في أثناء الحجر المنزلي الناتج عن انتشار فيروس كورونا، القراءة والكتابة بالدرجة الأولى، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات بالدرجة الثانية، إضافة إلى التقرب من الله عبر أداء فروض العبادة بالدرجة الثالثة، وهي نشاطات تؤشر إلى ممارسة السلوك العقلاني في أثناء الأزمات، من خلال إعمال العقل والابتعاد عن السلوكيات غير العقلانية التي تمارس في حالة التعرض لأخطار المرض والموت المحيط بالإنسان.

17- على الصعيد الطبي والصحي، نتيجة انتشار فيروس كورونا في أنحاء العالم، وما نتج عنه من كوارث بشرية واقتصادية لدى معظم دول العالم، أكد السوريون عينة الدراسة أهمية القطاع الطبي وضرورة عدم إخضاعه لقوانين السوق، وضرورة التغيير في السياسات الصحية والعلاجية للدول، وإعلاء قيمة الأطباء مقابل مهن أخرى كنجوم الرياضة والفن.

وهذا ما يتوافق مع معظم آراء المواطنين في معظم دول العالم، حيث لوحظ في الأدبيات الإلكترونية واستطلاعات الرأي أنها تدعو للاهتمام بالقطاع الطبي، بعد أن تبيّن أن هناك العديد من الثغرات في القدرات الطبية لتقديم الخدمات الطبية في الأزمات الصحية.

18- على الصعيد العالمي، ما بعد ظاهرة كورونا، توقع السوريون أفراد عينة البحث حدوث تغيرات في النظام الاقتصادي العالمي بالمرتبة الأولى، بالإضافة إلى تغيرات في موازين القوى في النظام السياسي العالمي، بل حدوث ثورات في بعض المجتمعات.

19- في ما يتعلق بسورية، أكد السوريون أفراد عينة الدراسة أن النظام السوري لم يتمتع بالشفافية في الإعلام عن ظاهرة كورونا، وأن “هناك تكتمًا عن العدد الحقيقي للمصابين والمتوفين بالفيروس في سورية”. لذلك توقع بعض أفراد عينة الدراسة حدوث بعض الاحتجاجات في سورية.

20- بالرغم من التصدع الاجتماعي والنفسي الذي لوحظ لدى أفراد العديد من المجتمعات، وجدنا أن السوريين، أفراد عينة البحث، يؤكدون أهمية التضامن الأسري والاجتماعي في مواجهة آثار فيروس كورونا، وأن الحجر المنزلي أظهر لهم أهمية إصلاح العلاقات الأسرية المتصدعة ما قبل انتشار فيروس كورونا، وتنمية قيم الحب والصداقة. وضرورة تعزيز ثقافة التسامح وقبول الآخر.

أخيرًا، يُعدّ فيروس كورونا من الأوبئة التي سوف تترك تأثيرات اجتماعية طويلة المدى، وربما تسهم في تطوير الملامح الاجتماعية الثقافية للمجتمع أو تغييرها. فهل تُجسَر الهوّة بين الفرد والمجتمع، بعد أن اتسعت في مرحلة “العولمة”؟!

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى