في ربيع عام 2018، قبل أربع سنوات من غزوه الثاني لأوكرانيا، ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطاباً غير عادي حول قوة الجيش الروسي المتزايدة، صرح فيه: “إلى أولئك الذين حاولوا خلال الأعوام الـ15 الماضية تسريع وتيرة سباق التسلح والسعي إلى التمتع بأفضلية أحادية الجانب على روسيا… سأقول هذا: كل ما حاولتم منعه عبر انتهاج هذه السياسة حدث بكل الأحوال. لم ينجح أحد في كبح جماح روسيا”.
في ذلك الوقت، جذب الخطاب انتباه المجتمع الدولي في المقام الأول نحو تفاخر بوتين بالأسلحة الجديدة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والمصممة للتحايل على أنظمة الدفاع الصاروخي الأميركية، لكنه نقل أيضاً رسالة مبطنة. أشار بوتين إلى التدخل الروسي الناجح في الحرب الأهلية السورية وذكر أن حجم الترسانة الروسية التقليدية والنووية زاد أربعة أضعاف تقريباً وأكد أن قواتها المسلحة أصبحت “أقوى بشكل ملحوظ”. كذلك، شدد على أن “روسيا تحتفظ بالحق في استخدام الأسلحة النووية فقط من أجل الرد على هجوم نووي، أو هجوم بأسلحة دمار شامل أخرى ضد الدولة أو حلفائها، أو عمل عدواني ضدنا باستخدام أسلحة تقليدية تهدد وجود الدولة بحد ذاتها”. تلك التعليقات مجتمعة أظهرت شعوراً قوياً بالثقة بقدرة روسيا على مواجهة أي خصم بنجاح، وربما سعياً أكثر قوة إلى تحقيق الأهداف الوطنية والشخصية. وحذر قائلاً “لم يرد أحد الاستماع إلينا. لذا أصغوا إلينا الآن”.
اليوم، مع اتخاذ الحرب في أوكرانيا منحى متزايد الخطورة ولا يمكن التنبؤ به، ظهرت تساؤلات شديدة حول حساب بوتين وتقديره للأخطار. منذ مطلع سبتمبر (أيلول)، واجهت موسكو سلسلة من الانتكاسات، ولا يشمل ذلك المكاسب الإقليمية الدراماتيكية التي حققتها أوكرانيا في منطقة خاركيف فحسب بل أيضاً هجومها الجريء في 8 أكتوبر (تشرين الأول) على جسر مضيق كيرتش الذي يربط شبه جزيرة القرم بروسيا، مما عرّض طريق إمداد روسي أساسي للخطر. رداً على ذلك، حشد بوتين مئات الآلاف من القوات الإضافية، وهرع بشكل غير قانوني إلى ضم الأراضي التي لا تسيطر عليها روسيا، وشن موجة جديدة من الضربات الصاروخية على أهداف مدنية بمعظمها، بما في ذلك كييف والمدن الكبرى الأخرى. واستطراداً، هدد مراراً باستخدام الأسلحة النووية، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة أرست سابقة من هذا النوع في هيروشيما وناغازاكي.
وفي سياق متصل، أثارت تهديدات بوتين في شأن التصعيد قلق جيران روسيا الأوروبيين وكذلك إدارة بايدن. وعلى رغم ذلك، لم يبدأ استعداد بوتين للمجازفة بالقوة العسكرية الروسية في سبتمبر، أو حتى عندما غزا أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، فبحسب ما يظهره خطاب 2018، كانت رغبته في المخاطرة تزداد قبل وقت طويل من وقوع الحرب الحالية. وعلى رغم أن أسئلة كثيرة لا تزال مطروحة حول مدى استعداده للتمادي الآن، فإن التحقق من الطريقة التي تغيّر فيها منظوره تساعد في توضيح سبب اتخاذه هذا المسار وتحديد الخيارات التي ربما يقرر أنها الأكثر منطقية في الأسابيع والأشهر المقبلة. بالنسبة إلى الغرب، إن فهم حسابات بوتين للأخطار قد يكون بأهمية قياس القوة العسكرية الروسية الفعلية نفسها لتقديم أدلة حول الخطوة الآتية التي ستتخذها روسيا.
فرصة ذهبية
قبل غزو بوتين لأوكرانيا عام 2022، كان بنى سمعة باعتباره مجازفاً براغماتياً. أثناء تدخلات روسيا في جورجيا عام 2008 وشبه جزيرة القرم عام 2014، تغلبت القوات الروسية ببساطة على خصم متفاجئ وأقل قوة، وفي سوريا ابتداء من عام 2015، قامت إيران و”حزب الله” بالأعمال الشاقة على الأرض بينما قدمت روسيا العتاد والقوة الجوية والبحرية. باختصار، كانت جميع الحالات الثلاث قليلة الأخطار نسبياً وذات مكاسب عالية مع عدد محدود من الضحايا. فكيف يفسر إذاً قرار بوتين الشديد المجازفة بغزو أوكرانيا ووضع حوالى 180 ألف جندي على خط المواجهة، قتل منهم حتى الآن ما يقدر بنحو 15 ألفاً أو أكثر؟
من المحتمل أن عدداً من العوامل ظهر في حسابات بوتين: المصالح الأمنية الروسية ونافذة متصورة من أجل تعزيز أهداف جيوستراتيجية أوسع والرغبة في تأمين مكان لنفسه في التاريخ الروسي. كما هو معروف، أشارت موسكو إلى أن الدافع الأساسي وراء قرار إطلاق “العملية العسكرية الخاصة” في 24 فبراير هو المخاوف الأمنية، وبالتحديد أن أوكرانيا بدت وكأنها تنضوي تدريجاً تحت جناح “ناتو”، بحسب ما يتضح من المساعدة العسكرية الغربية والتدريب ومطالبات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المفتوحة للانضمام إلى “ناتو”. ولكن كان هناك حافز آخر أيضاً: ربما قدّر بوتين أن الظروف الجيوسياسية توفر فرصة ضعيفة لكسر الجمود الذي دام سبع سنوات في شرق أوكرانيا. ووفق ما رأته موسكو، كانت الولايات المتحدة منقسمة سياسياً والرأي العام الأميركي غير مبال على الإطلاق بأوكرانيا وحذراً من الحروب الخارجية الجديدة، بخاصة بعد رحيل الولايات المتحدة الفوضوي من أفغانستان، وبطريقة موازية، كانت المستشارة الألمانية منذ فترة طويلة أنغيلا ميركل تترك منصبها وكان العالم لا يزال منشغلاً بجائحة كورونا وأوروبا تعتمد بشكل كبير على النفط والغاز الروسيين. أخيراً، أظهر بوتين اهتماماً متزايداً بالتاريخ الروسي وكان مصمماً على ضمان إرثه باعتباره قائداً عظيماً أعاد الأراضي السلافية الأساسية إلى روسيا ومكانتها الشرعية كقوة عالمية.
واستطراداً، فالاختلافات بين غزو بوتين قليل الأخطار نسبياً لأوكرانيا عام 2014 والغزو الشامل عام 2022 توفر أدلة مهمة حول كيفية تطور هذا التفكير. في الواقع، اعتمد غزو بوتين الأول لأوكرانيا في الغالب على الجنود المتخفيين، أي العملاء الروس المجهولين المعروفين باسم “الرجال الخضر الصغار” ومشاة البحرية المتمركزين محلياً الذين مهدوا الطريق للاستيلاء على شبه جزيرة القرم. وكان الأساس المنطقي الذي قدمه بوتين واضحاً ومباشراً، متمثلاً في ضمان “سلامة” عدد السكان الضخم من أصل روسي في شبه جزيرة القرم في وجه حكومة أوكرانية “فاشية” ناشئة مناهضة لروسيا، وضمان سيطرة روسيا الدائمة على سيباستوبول، موطن أسطولها في البحر الأسود، بغض النظر عمن كان في السلطة في كييف. في غضون ذلك، إن إنشاء موطئ قدم للانفصاليين الموالين في منطقتي دونيتسك ولوغانسك منح روسيا وسيلة لمحاولة التأثير في التوجه السياسي المستقبلي لكييف ومنع حلف “ناتو” من النظر في عضوية أوكرانيا.
من المحتمل أيضاً أن تحركات بوتين لعام 2014 شكلت جزءاً من مخطط أكبر، خطوة أولى نحو إعادة دمج قسم كبير من أوكرانيا في “روسيا الأم”. من المثير للاهتمام أنه بعد أشهر فحسب من ضم شبه جزيرة القرم، أشار بوتين علناً إلى “نوفو روسيا”، وهي المنطقة الواقعة شمال البحر الأسود التي ضمتها كاترين العظيمة في القرن الـ18، وهي تشمل، بحسب ما أشار، خاركيف وخيرسون ولوغانسك ودونيتسك وميكولايف وأوديسا، مناطق وصفها بأنها “لا تشكل جزءاً من أوكرانيا”. في ذلك الوقت، كان غزو أوكرانيا على نطاق واسع أمراً غير وارد. ووفق ما قاله بوتين، كان على موسكو أن تتصرف بسرعة بعد سقوط فيكتور يانوكوفيتش، الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا في فبراير 2014، وذلك من أجل ضمان الحصول على شبه جزيرة القرم.
علاوة على ذلك، من المحتمل أن الأحداث في أماكن أخرى أعادت توجيه تركيز بوتين بعيداً من أوكرانيا. استدعى طلب الرئيس السوري بشار الأسد إنقاذ نظامه المترنح في صيف عام 2015 قراراً كبيراً، ولكن محدود الأخطار، للمساعدة في الحفاظ على النظام الوحيد التابع لموسكو في الشرق الأوسط. (والجدير بالذكر أن الاختلافات بين تركيا والولايات المتحدة وأعضاء “ناتو” الآخرين حول أي جماعة من المعارضة السورية يجب أن يدعموها ربما جعلت قرار بوتين أسهل، لأن تعريف الأسد لمقاتلي العدو كان بسيطاً: جميع معارضي النظام كانوا “إرهابيين”).
واستكمالاً، خلّفت النتيجة غير المتوقعة للانتخابات الأميركية لعام 2016 عواقب أكبر على بوتين بعدما حاولت موسكو التدخل نيابة عن دونالد ترمب. حين كان ترمب في منصب الرئاسة، لا بد من أن بوتين توصل إلى الاستنتاج بأن هناك مكاسب جيوستراتيجية كثيرة محتملة لا ينبغي المجازفة بوضعها في مهب الريح من خلال تحركات عدوانية في أوكرانيا. إلى جانب استغلال الاستقطاب السياسي المتزايد في الولايات المتحدة، كان بإمكانه الاستفادة من ارتياب ترمب من حلف شمال الأطلسي وعدم الثقة بأجهزة الاستخبارات الأميركية، وربما التوصل إلى اتفاق في شأن أوكرانيا يصب في مصلحة روسيا. في الواقع، استمرت الاتصالات وراء الكواليس بين مسؤول كبير سابق في حملة ترمب وضابط استخبارات روسي حول صفقة محتملة في شأن أوكرانيا حتى أوائل عام 2018.
في أوروبا، رأى بوتين أيضاً نفوذاً متزايداً. خلال سنوات ترمب، تعرضت الركيزة المؤسسية في أوروبا لضغوط شديدة على جبهات عدة. وأشار انفصال المملكة المتحدة اقتصادياً عن القارة الأوروبية الذي لاح في الأفق إلى أن الاتحاد يضعف، كذلك، أدى تزايد المشاعر المعادية للمهاجرين إلى تقوية الأحزاب الشعبوية (وظهور زعيم يفكر بالطريقة نفسها في المجر) التي تتماشى وجهات نظرها حول القيم الاجتماعية والهوية الوطنية بشكل جيد مع روسيا، وبدا أن “ناتو” كان ممزقاً بالشكوك الوجودية. وسط هذه التطورات، ألقى بوتين خطابه في مارس (آذار) 2018 وأكد خلاله القوة العسكرية الروسية المعززة ولمح إلى رغبة جديدة في استخدامها.
متى بالضبط قرر بوتين غزو أوكرانيا لا يزال يشكل لغزاً، ولكن بحلول عام 2021، كانت روسيا تضع الأساس العسكري والسياسي من أجل جعل الغزو خياراً قابلاً للتطبيق. على مدار العام، استخدمت موسكو تدريبات عسكرية مخططاً لها من أجل توفير غطاء لزيادة القوات الروسية على طول الحدود الأوكرانية مما يقدر بـ87 ألف عنصر في فبراير 2021 إلى ما يتراوح بين 100 ألف و120 ألفاً تقريباً بحلول ديسمبر (كانون الأول). بعد ذلك، أدت مناورة عسكرية غير مقررة مع بيلاروس في منتصف فبراير 2022 إلى وضع 30 ألف جندي روسي إضافي على الحدود الشمالية لأوكرانيا، على طريق يؤدي مباشرة إلى كييف.
ومن الإشارات السياسية التي لا تقل أهمية، مقالة بوتين المفاجئة المؤلفة من 20 صفحة، “حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين” التي نشرت على موقع الكرملين الإلكتروني في يوليو (تموز) 2021. وأكد فيها أنه تاريخياً، “كان الروس والأوكرانيون شعباً واحداً – كياناً واحداً”، وأن أوكرانيا لم تكن موجودة قط كدولة، وأن الحكومة الأوكرانية الحالية كانت تحت “السيطرة الخارجية المباشرة”، كما يتضح من وجود “المستشارين الأجانب” و”نشر البنية التحتية لحلف “ناتو” على الأراضي الأوكرانية.
خسائر أكبر ورهانات أكبر
عند مشاهدة رد الكرملين على النجاحات العسكرية التي حققتها أوكرانيا في سبتمبر وأكتوبر، يتذكر المرء المثل الصيني القديم: من يمتطي النمر يخشى النزول عنه [عند البدء بمشروع خطر، فالمسار الأكثر أماناً هو الاستمرار فيه حتى النهاية]. بعد ثمانية أشهر من الحرب التي كان من المفترض أن تنتهي في أيام أو أسابيع، تحول غزو بوتين لأوكرانيا إلى مأزق كارثي ربما يهدد حكمه. ويشير رده على الانتكاسات المتراكمة التي تواجهها روسيا في ساحة المعركة إلى أنه لا يملك خيارات جيدة كثيرة غير رفع الرهان وتحمل أخطار أكبر. إذاً، السؤال الجوهري الذي تطرحه أوكرانيا ودول الغرب هو إلى أي مدى قد يصل تصعيد بوتين.
في الواقع، إن المتغيرات الرئيسة في حساباته هي قدرة روسيا على تعزيز مكاسبها الإقليمية [مكاسبها من الأراضي] وقدرة أوكرانيا على الحفاظ على زخمها الهجومي. وتجدر الإشارة إلى أن نجاح أوكرانيا في استعادة جزء كبير من منطقة خاركيف ومهاجمة المطارات ومستودعات الذخيرة في شبه جزيرة القرم وقصف جسر مضيق كيرتش، وهي غارة نفسية مدمرة على ما يشكل خط إمداد رئيساً ورمزاً لنجاح بوتين في شبه جزيرة القرم، يؤكد التحدي الكبير الذي تواجهه موسكو في ترسيخ قوتها في الأراضي التي لا تزال تسيطر عليها. كذلك، قدمت هذه الأحداث أيضاً لمحة عما ستواجهه موسكو في حرب مكافحة العصيان، حتى لو تمكنت من استعادة الأراضي المفقودة. في غضون ذلك، سلط الخبراء الغربيون الضوء على النقص الروسي في الذخائر الموجهة بدقة وحتى الصواريخ التقليدية، مما سيزيد هذه المهمة تعقيداً.
بطريقة موازية، سيتعين على روسيا تجديد وتوسيع قوتها القتالية بشكل كبير إذا كانت تأمل في إحراز أي تقدم في ساحة المعركة، ناهيك عن إخضاع أوكرانيا. كان مرسوم بوتين الصادر في 25 أغسطس (آب) في شأن زيادة حجم الجيش الروسي بمقدار 137 ألف جندي علامة مبكرة على وجود مشكلة في عدد القوات العسكرية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اعتراف موسكو العلني في أغسطس بأن مجموعة “فاغنر” العسكرية الخاصة كانت كياناً مهماً في الحرب. ولكن بعد المكاسب الكبيرة التي حققتها أوكرانيا في أوائل سبتمبر، اشتدت حدة مشكلة نقص القوات، وفي 21 سبتمبر، أعلن بوتين “التعبئة الجزئية”، وتم التوضيح لاحقاً بأنها تشمل حوالى 300 ألف رجل. هذه الدعوة المفاجئة إلى التجنيد الإجباري شكلت نقطة انعطاف حرجة على الصعيد المحلي، مع سعي ما يقدر بـ100 ألف إلى 200 ألف مجند محتمل إلى اللجوء إلى الخارج على الفور. قبل سبتمبر، كان الجيش الروسي يعتمد بشكل أساسي على تجنيد وتطوع مواطنين من مناطق أبعد، ومتنوعة إثنياً، في الشرق الأقصى الروسي وشمال القوقاز. أما الآن، فحتى موسكو وسانت بطرسبورغ، حيث يقيم كثير من أبناء النخبة، لم تعودا معزولتين عن الحقائق العسكرية للحرب. وعلى رغم ذلك، في 14 أكتوبر، أعلن بوتين أن 222 ألف جندي جديد سيكونون جاهزين للانتشار في غضون أسبوعين.
والعامل الكبير الآخر في ساحة المعركة هو تقييم موسكو لمدى جودة أداء الأوكرانيين وتوقعات كييف في ما يتعلق باستمرار المساعدة العسكرية والمالية الغربية. وأعرب زيلينسكي مراراً عن حاجة أوكرانيا لمثل هذه المساعدة، بما في ذلك أسلحة أكثر تقدماً. ومع اقتراب فصل الشتاء، قال أيضاً إن أوكرانيا تحتاج إلى ما يصل إلى 38 مليار دولار من الدعم المالي الطارئ من أجل تغطية مشكلة الديون المتزايدة. وفي الواقع، سيكون الكثير متوقفاً على الإرادة السياسية لدى الحكومات الغربية من أجل تلبية هذه الطلبات المتزايدة التي تعتبر حاسمة لقدرة أوكرانيا على البقاء في موقع الهجوم واستعادة الأراضي المفقودة.
داخل روسيا نفسها، سيتعين على بوتين أيضاً أن يقيّم تأثير العقوبات في قطاعي الصناعة الدفاعية والطاقة في روسيا. وسيؤدي نقص الرقائق الإلكترونية الرئيسة ومكونات الأسلحة إلى إعاقة التكتيكات والخيارات القتالية للجيش الروسي بشكل متزايد، وعلى نحو مماثل، إن الافتقار إلى التقنيات الغربية الرئيسة، على غرار قطع التنقيب عن النفط، ستكون له آثار طويلة المدى على صادرات الطاقة. أما بالنسبة إلى الاقتصاد الروسي، فأسهمت العقوبات الغربية في معدل تضخم بلغ 14 في المئة وقيود على التجارة الخارجية والمعاملات المالية الدولية وخسارة عدد كبير من الاستثمارات الأجنبية.
أخيراً، تواجه موسكو معدل ضحايا مرتفع بصورة استثنائية، والرقم الرسمي الروسي الأحدث المتعلق بوفيات الحرب، من سبتمبر هو 6534، بيد أن التقديرات الأميركية والمستقلة تشير إلى أن الرقم أعلى من ذلك بكثير بالتأكيد. في يوليو، ذكر مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي أي” وليام بيرنز وجود حوالى 15 ألف حالة وفاة روسية، وهو عدد القوات نفسه التي فقدها السوفيات خلال 10 سنوات في أفغانستان. في أغسطس، أبلغت وزارة الدفاع الأميركية علانية عن 60 ألف إلى 80 ألف ضحية روسية، وفي منتصف أكتوبر، أشار موقع إعلامي روسي مستقل إلى ارتفاع في هذه الأعداد إلى 90 ألفاً. والجدير بالذكر أن قلة من الروس يجدون بيانات موسكو الرسمية ذات مصداقية، كما يتضح من الهجرة الجماعية للمجندين المحتملين منذ “التعبئة الجزئية” التي أطلقها بوتين.
ما زال من غير الواضح كيف ستترجم كل تلك المتغيرات في حسابات بوتين. في الحقيقة، لا يعرف سوى القليل عن المعلومات والاستخبارات التي يتم تزويده بها، أو دقة تلك المعلومات. وأشارت تقارير عدة إلى أن المعلومات الاستخباراتية السيئة دفعت بوتين إلى الاعتقاد بأن غزو أوكرانيا سينجح في وقت قصير، ولكن يجب أيضاً إلقاء اللوم على بوتين نفسه: كشفت مقالته لعام 2021 عن روسيا وأوكرانيا افتراضاته الخاطئة جداً حول شعور الأوكرانيين بالهوية الوطنية وقدراتهم العسكرية واستعدادهم للدفاع عن بلادهم ضد خصم متفوق عسكرياً.
حرب الشتاء الجديدة
تؤكد التقلبات والمنعطفات التي شهدتها الحرب منذ سبتمبر أخطار استخلاص استنتاجات متسرعة في شأن هزيمة روسيا. وأثارت المكاسب المذهلة التي حققتها أوكرانيا في منطقة خاركيف والقصف الناجح لجسر مضيق كيرتش تعليقات كثيرة حول التحول الحاسم في الزخم. لكن تقييمات مماثلة لا تأخذ في الاعتبار المجموعة الكاملة من الخيارات المتاحة لبوتين فيما يسعى إلى النزول عن النمر. في الواقع، بعد أيام قليلة من قصف الجسر، أدى وابل الضربات الصاروخية الروسية على المدن والمدنيين الأوكرانيين لأيام متعددة إلى التركيز على القدرات التأديبية القاسية التي يمكن أن تستخدمها روسيا. وإذا كانت مزاعم بوتين في شأن أعداد المجندين الإجباريين صحيحة، فإن التعبئة التي أعلنها ربما تساعد الروس على استعادة الأراضي التي فقدوها أخيراً.
علاوة على ذلك، تنطوي الحرب بين بوتين والغرب على عوامل لا تنحصر في ساحة المعركة. في هذا الصراع الأكبر، ينظر بوتين بوضوح إلى الشتاء باعتباره حليفاً رئيساً، وهو الحليف الذي يسمح له بأن يستعمل نفوذ روسيا في مجال الطاقة على أوروبا كسلاح. في مؤتمر للطاقة في منتصف أكتوبر في موسكو، أشار أليكسي ميلر، الرئيس التنفيذي لشركة “غازبروم” إلى أنه حتى في فصل شتاء دافئ، يمكن أن تتجمد “مدن وأراض بأكملها” لأيام أو حتى أسابيع. في المؤتمر ذاته، حذر بوتين من أن التخريب الأخير لأنابيب نورد ستريم، وهو هجوم يشتبه كثيرون في أن روسيا قامت بتنفيذه، أظهر أن “أي بنية تحتية حيوية في النقل أو الطاقة أو الاتصالات معرضة للتهديد، بغض النظر عن أي جزء من العالم تقع فيه، ومن يتحكم فيها، وما إذا كانت في قاع البحر أو على اليابسة”. نقلت هذه الرسالة بعد أسبوع واحد فحسب من إعلان “أوبك+”، الكونسورتيوم الذي يشمل روسيا كعضو فيه، عن قراره بخفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً على رغم الضغط الأميركي المكثف لإبقاء المستويات أعلى. لقد كان تذكيراً واضحاً نوعاً ما لواشنطن بأن نفوذ الطاقة الروسي يمتد إلى أبعد من أوروبا. إذاً، تظهر الطاقة أيضاً ضمن التكتيكات العسكرية الحالية التي يستخدمها بوتين في أوكرانيا، وفي ذلك الإطار، من المحتمل أن تهدف الضربات الصاروخية على شبكة الكهرباء الأوكرانية والبنى التحتية الأخرى إلى توليد ضغط عام على زيلينسكي من أجل التفاوض مع موسكو.
إذا فشلت استراتيجية بوتين المعتمدة على الشتاء في إحداث ضغوط غربية جديدة على زيلينسكي من أجل التفاوض مع موسكو، وإذا استمرت القوات الروسية في خسارة الأراضي التي تسيطر عليها في أوكرانيا، فقد يتابع بوتين تهديداته التي غالباً ما يذكر فيها بأنه “سيستخدم جميع الوسائل المتاحة”. وأحد الخيارات الممكنة هو شن هجمات إلكترونية واسعة النطاق على البنية التحتية الغربية، وهو تهديد ربما تم اختباره بالفعل في هجمات الحرمان من الخدمة الموزعة (DDOS) على مواقع الويب الخاصة بعدد من المطارات الأميركية الكبيرة في منتصف أكتوبر. وتشير التقييمات الأولية إلى أن الهجمات انطلقت من روسيا، مما يدل على أن موسكو ربما تكون مستعدة لاستخدام أدوات سيبرانية إذا استمر الغرب في تسليح كييف بأسلحة أكثر تقدماً.
في المقابل، يمكن لروسيا أيضاً استخدام الأسلحة الكيماوية أو الأسلحة النووية التكتيكية من أجل تغيير مسار المعركة على الأرض. إن ذكر بوتين للأسلحة النووية مرات عدة يظهر أنه يعتقد ربما بأن جانب الإرهاب النفسي الذي تمارسه تلك الأسلحة يمكن أن يكون حاسماً، إن لم يكن على الأرض، فعندئذ على طاولة المفاوضات. وربما تنطوي مثل هذه التحركات على أخطار كبيرة، إذ من المحتمل أن تؤدي إلى أعمال انتقامية غربية كبرى وتطلق دوامة تصعيدية لا يستطيع بوتين ولا الغرب التحكم بها بسهولة. إضافة إلى ذلك، إذا فشلت خطوة مماثلة في منح موسكو الأفضلية والغلبة في أوكرانيا، فإن تصاعد الانتقادات المحلية سيجبر بوتين حتماً على التركيز على أولوية أكثر إلحاحاً، وهي الاحتفاظ بالسلطة. وإذا تحقق هذا التقدير [التوقع]، فإن آراء صقور الحرب في روسيا، بما في ذلك بعض أقرب مستشاري بوتين، قد تكون حاسمة. وكما أشار ستيفن سيستانوفيتش، فإذا بدأ أي منهم في التفكير بأن روسيا بحاجة إلى تقليص خسائرها، فسيحتاج بوتين إلى آخرين ليتحملوا معه المسؤولية.
في الواقع، حضّر بوتين نفسه بالفعل لسيناريو من هذا النوع. دعونا لا ننسى أنه قبل ثلاثة أيام فقط من غزو 24 فبراير، نظم اجتماعاً متلفزاً على المستوى الوطني لمجلس الأمن الروسي، حيث أعرب كل عضو عن موافقته الشديدة على ضرورة اتخاذ إجراء في أوكرانيا. وفي إعلانه عن الضربات الصاروخية الروسية بعد قصف جسر مضيق كيرتش، أشار بوتين إلى أن هذه الخطوة اقترحتها وزارة الدفاع وفقاً لتخطيط هيئة الأركان العامة الروسية. وعلى رغم ذلك، فإن جهوداً مماثلة لتقاسم الأخطار السياسية المترتبة على هذه القرارات لا يمكن أن تذهب إلى أبعد من هذا الحد لأن هوس بوتين بأوكرانيا وروابطها الوثيقة مع روسيا هما اللذان أطلقا المسيرة نحو الحرب.
وبينما تقوم كييف وداعموها الغربيون بتقييم خيارات بوتين في الأشهر المقبلة، يتجلى أمر واحد بوضوح على ما يبدو: لدى بوتين طرق مختلفة لإطالة أمد الحرب. إلى جانب عائدات النفط المستمرة، يمكن للقوات العسكرية الجديدة أن تدعم آلة الحرب الروسية، ربما مع آثار مدمرة بشكل غير عادي في أوكرانيا وخارجها. لكن في الوقت نفسه، إن خيارات بوتين تتقلص. بمرور الوقت، قد يصبح من الصعب احتواء المعارضة الشعبية المتزايدة للحرب مع اقتراب بوتين من انتخابات 2024. وسيكون التكهن بالتصدعات المحتملة داخل الدائرة المقربة من بوتين أصعب بعد، ومن المرجح أن تهدده بشكل مباشر. وقد يؤدي استمرار الدعم الغربي الموحد والقوي لأوكرانيا إلى زيادة حدة هذه الديناميكية، ولكن ما لم يسهم هذا الاقتتال السياسي أو المناورة من قبل المطلعين في الكرملين في إضعاف بوتين، فهذه الحرب قد تدوم لبعض الوقت.
بيتر كليمنت عمل في عدد من المناصب الرفيعة في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي أي”، كان آخرها نائب المدير المساعد لأوروبا وأوراسيا. وهو حالياً باحث عالي الشأن وأستاذ مساعد في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا والمدير الموقت لمعهد سالتزمان لدراسات الحرب والسلام.
مترجم من فورين أفيرز، أكتوبر 2022
المصدر: اندبندنت عربية