بغضّ النظر عن مواقفنا السياسية والأيديولوجية من روسيا وتاريخ علاقاتها مع العرب، وبغضّ النظر عن العداء والنفاق والازدواجية التي تتسم بها السياسات الأميركية تجاه القضايا العربية، من فلسطين إلى سورية والعراق وغيرها، وبغضّ النظر عمّا إذا كان أحدنا يحب سياسة أوكرانيا أو يبغضها (شخصياً أعتبر زيلنسكي مهرّجاً ومسؤولاً، بمحاولة تقمّصه دور البطل، عن اندلاع الحرب التي دمّرت بلاده مقدار مسؤولية بوتين وجو بايدن عن ذلك، رغم كل محاولات الدعاية الغربية لتلميعه وتقديمه مناضلاً يقاتل من أجل حرية بلده)، رغم ذلك كله، ورغم كل الملاحظات والتحفظات التي يمكن أن يسوقها المرء عن حرب الوكالة التي يخوضها الغرب ضد روسيا في أوكرانيا، إلا أن مصلحتنا، نحن العرب، تقتضي أن يفشل الغزو الروسي لأوكرانيا، وأن ينجح المجتمع الدولي في تضامنه لمعاقبة بوتين على فعلته.
ثلاثة محدّدات رئيسة يجب أن تقود موقفنا هذا من أزمة أوكرانيا: الأول، أخلاقي يتطلب منا أن نرفض في المبدأ، من دون تحفظ أو مواربة. وبغضّ النظر عمن يقوم بذلك، صديقاً كان أو خصماً، اللجوء إلى القوة في حل الخلافات الدولية، أو استخدام دولة ما في النظام الدولي الغزو والاعتداء لفرض إرادتها على دولة أخرى، أو ضمّ أراضيها أو تغيير الحدود معها من دون موافقتها. خلاف ذلك، يدفعنا إلى السقوط في فخّ المواقف المزدوجة التي نعيبها على العالم، إذ لا يعقل أن نرفض الغزو الأميركي العراق ثم نبرّر لروسيا غزو أوكرانيا، ولا يجوز أن نرفض سياسات الاحتلال والضمّ والتهجير والتوطين التي تقوم بها إسرائيل في فلسطين وغيرها من الأراضي العربية المحتلة ثم نقبلها في أوكرانيا لمجرّد أن سياسات هذه الأخيرة تجاه القضايا العربية لا تروقنا، أو لأن الطرف الآخر المواجه لروسيا في الصراع هو الولايات المتحدة التي نرجو، نتيجة عجزنا عن مواجهة سياساتها، ظهور قوى أخرى في النظام الدولي تفعل ذلك نيابة عنا.
المحدّد الثاني سياسي، فإذا وافقنا روسيا على منطقها الداعي إلى استخدام القوة العسكرية لغزو (وضمّ) المناطق الواقعة في أراضي دول أخرى تسكنها أقليات سلافية، أرثوذكسية، ناطقة بالروسية، فإن هذا يشرع الباب أمام إحياء ما كانت تسمّى في أوروبا القرن التاسع عشر “القومية الرومنطقية”، تلك التي ترى أن جغرافية الدولة تحدّدها ديموغرافيتها، بمعنى أن حدودها ترتسم وفقاً لإقامة الأقوام الناطقين بلغتها أو المؤمنين بمذهبها أو دينها، أو المنحدرين من الإثنية نفسها أو العرق نفسه، وهذا مرتبط أيضاً، بصورة ما، بنظرية المجال الحيوي للدول التي تبنّتها ألمانيا النازية في سعيها للتوسّع في النصف الأول من القرن العشرين. هذا يعني إضعاف الدولة الوطنية والعودة بنا إلى عصر الدول الإمبراطورية. منطقتنا العربية نتيجة تنوّعها المذهبي والطائفي والإثني وضعف دولها الوطنية وعجزها عن دمج كل مواطنيها، ستكون، في هذه الحال، أكثر عرضةً من غيرها للتدخل والاعتداء ومحاولة تغيير الحدود من جيرانٍ لديهم طموحات توسّعية. إذا أيدنا منطق روسيا في أوكرانيا، كيف يمكننا حينها أن نرفض منطق إيران التي تنصب نفسها حامية لكل شيعة العالم، وتطمح إلى التوسّع في منطقتنا العربية بذريعة الدفاع عن المواطنين الشيعة العرب، أو “مراقد شيعية” إذا لم يكن هناك مواطنون شيعة؟ كيف يمكننا أيضاً أن نرفض محاولاتٍ قد تقوم بها تركيا لضمّ أجزاء من شمال سورية أو العراق بذريعة وجود أقليات تركمانية فيها؟ واقع الحال أن هذا المنطق إذا انتصر سيفتح باباً لا يُغلق على تدخلاتٍ في منطقتنا ومناطق أخرى بذريعة حماية أقليات أو امتدادات قبلية أو طائفية أو عرقية أو قومية أو إثنية.
المبرّر الثالث، قانوني، فنتيجة أن الدول العربية في موقع ضعيف عموماً في النظام الدولي، يعدّ التمسّك بمبادئ القانون الدولي والالتزام به سلاحاً مهماً في بيئةٍ يشتدّ فيها التنافس والصراع بين القوى الكبرى. من هذا الباب، يجب الدفاع عن سيادة القانون الدولي إلى جانب الأمم التي ترفع رايته في أوكرانيا، حتى لو كانت هذه الأمم تطبقه بطريقة انتقائية، لأن هذا يضعنا في موقف أخلاقي وقانوني أقوى، عندما نطالب بتطبيقه في قضايا تخصّنا.
المصدر: العربي الجديد