خراب بدون النووي.. هل خرَّبت روسيا عمدا أنابيب “نورد ستريم”؟

ترجمة: هدير عبد العظيم

مقدمة الترجمة

بلغت الحرب الروسية على أوكرانيا مرحلة حساسة مع قدوم فصل الشتاء، بما يحمله ذلك من حساسية متزايدة لأوروبا تجاه نقص إمدادات الغاز. وفي هذا السياق، أعدت “إليزابيث براو”، الباحثة البارزة في معهد المشروع الأميركي لأبحاث السياسات العامة، تحليلا نشره موقع “ديفنس وان” الأميركي، تناولت فيه التفجيرات الأخيرة التي ضربت خطَّي أنابيب الغاز “نورد ستريم 1” و”2″، اللذين ينقلان الغاز الروسي إلى أوروبا، ورجَّحت الباحثة أن روسيا ربما تكون ضالعة في الاعتداء، الذي يندرج تحت “الحرب الرمادية”، أي تلك الاعتداءات غير العسكرية التي لا تستدعي الدفاع عن النفس، ومن ثمَّ لا يمكن ردعها أو مكافحتها بطرق عسكرية.

نص الترجمة

نشرت القوات المسلحة الدنماركية، في 27 سبتمبر/أيلول ظهرا بحسب التوقيت المحلي، صورا لتسرُّبات في بحر البلطيق. ولم تكن تلك التسرُّبات عادية، فقد كان خطَّا الغاز الطبيعي “نورد ستريم 1″ و”نورد ستريم 2” يُسرِّبان الغاز في بحر البلطيق. وفي اليوم السابق، سجَّلت الوكالات الحكومية الدنماركية والسويدية انفجارات غامضة تحت سطح البحر. ويتضح جليا الآن أن روسيا تُخرِّب خطوط الغاز التابعة لها بنفسها، إذ ستلحق الأضرار الأطول أمدا بجيرانها المطلين على بحر البلطيق، الذين يعانون بالفعل حاليا دمارا بالغا في بيئتهم البحرية. ولا يعتبر تخريب خطوط الغاز اعتداء عسكريا، في حين أن التسبُّب في دمار بيئي يُعَد خداعا يندرج تحت مفهوم “العدوان الرمادي”، وعلى غرار كل الاعتداءات من هذا النوع، فهناك صعوبة بالغة في الرد عليها عسكريّا.

ظهرت أولى بوادر المشكلة في الساعة الثانية صباحاً تقريباً، بحسب التوقيت المحلي يوم الاثنين، حينما سجَّلت أجهزة رصد الزلازل البحرية التابعة لكل من قيادة البحرية السويدية وسلطات البحرية الدنماركية انفجارات غامضة تحت سطح البحر. وبعد حوالي 12 ساعة، أبلغ طاقم إحدى السفن عن تسرُّبات ظاهرة على سطح الماء. ثمَّ في الساعة السابعة مساء تقريباً، التقطت أجهزة الرصد المزيد من الانفجارات، وبعد أكثر من ساعة، وصلت بلاغات أخرى بوجود تسرُّبات. واتضح أن الانفجارات والتسرُّبات كانت في المنطقة ذاتها.

يتفق خبراء الزلال والقادة السياسيون الإسكندنافيون بالفعل على أن تلك الانفجارات كانت مُتعمَّدة. من قام بها إذن؟ نظرياً، قد يكونون إرهابيين أو متطرفين سياسييين آخرين، بيد أن مثل هؤلاء يفتقرون إلى الخبرة الفنية لتخطيط مثل هذا التخريب، علاوة على عدم وجود سبب واضح يجعلهم يبذلون مثل هذا الجهد والوقت الهائلَيْن في عملية تخريبية قليلة المكاسب.

تشير أصابع الاتهام في الحقيقة إلى الحكومة الروسية. ففي ظل خفض البلدان الأوروبية وارداتها من الغاز الروسي، لم تكن خطوط الأنابيب مستخدمة بكامل طاقتها على أي حال (فقد رفضت ألمانيا المصادقة على خط أنابيب “نورد ستريم 2”). بالإضافة إلى ذلك، تحاول موسكو محاولات يائسة لتخويف الغرب، ففي عدة مناسبات خلال شهر سبتمبر/أيلول، لوَّح المسؤولون الروس رفيعو المستوى -وصولا إلى فلاديمير بوتين– بورقة استخدام السلاح النووي، في محاولة منهم لإثارة فزع الحكومات الغربية وحثها على إنهاء مساعداتها العسكرية لأوكرانيا، بيد أن ذلك لم يفلح، ويبدو أن روسيا حاليا تختبر إستراتيجية جديدة: إلحاق الضرر ببحر البلطيق سِرّا، ذلك البحر بالغ الصغر الذي يعاني بالفعل من شدة التلوث. وبالإضافة إلى الدمار الذي تسببه السفن التجارية، فهناك تلوث لطالما تدفق من مقاطعة “كالينينغراد” (المحافظة التابعة للفيدرالية الروسية والواقعة بين بولندا وليتوانيا)*، حيث ضخ ذلك الجيب الروسي طيلة سنوات مياهه من الصرف الصحي في البحر، رغم مناشدات جيران روسيا المطلين على بحر البلطيق. وفي عام 2016، دخلت الخدمة شبكة صرف صحي بُنِيَت بتمويل مشترك مع وكالة التنمية الدولية السويدية، لكن معظم البؤر الساخنة المسببة للدمار البيئي في بحر البلطيق تظل موجودة قبالة سواحل كالينينغراد وسان بطرسبرغ.

والآن، ازداد الأمر سوءا مع تسرُّب الغاز، فقد أشار “ياكو هِنْتونِن” -خبير فنلندي متخصص في البيئة البحرية، وشارك طيلة سنوات في جهود دول البلطيق لتنظيف محيطها- قائلا: “إن الميثان، الغاز الموجود في أنابيب نورد ستريم بصورة أساسية، مسبب أقوى للتلوث من غاز ثاني أكسيد الكربون بحوالي 29 مرة، وبحسب الأنباء المتداولة حتى الآن، فإن حجم التسرُّب هائل”. ويُلوِّث الميثان الهواء أكثر بكثير من المياه، وبإطلاق مثل هذا الغاز الخطير يبدو أن موسكو تلوِّح بأنها قادرة على إلحاق الضرر، ليس بجيرانها فحسب، بل ببقية دول العالم أيضا. علاوة على ذلك، وبحسب ما قاله لي “هِنتونِن”: “قد يتسبب تسرُّب الغاز في انفجار، ولذا يجب حظر أي نشاط ملاحي في محيط المنطقة المتضررة”، وهو أمر قد يُحدِث مشكلة بالنسبة إلى أي طواقم تطهير قد تشكلها دول بحر البلطيق سريعا.

يعتبر تدمير بيئة بلد آخر عملاً سهلاً وغير مكلف، وغالباً ما يمكن تنفيذه دون تعريض بيئة البلد المُنفِّذ للخطر. ولأن معظم الشريط الساحلي لروسيا يقع في مناطق بعيدة عن بحر البلطيق، فإنها لن تعاني الكثير في حال تعرَّض بحر البلطيق لدمار بيئي. وبالمثل، يسافر أسطول الصيد الصيني لمسافات بعيدة في محيطات العالم، ويُرسِي سفنه في المناطق الاقتصادية الخالصة لدول أخرى -حيث يجني الصيادون المحليون قوت عيشهم- ملقيا بشباكه الهائلة حتى تُفرِّغ البحار ما في بطنها عن آخرها، ومن ثم يُبحر جيش السفن مبتعدا، غير مُكتفٍ باستنفاد الموارد السمكية فحسب، بل أيضا ملحقا الضرر بقاع البحر. ففي قبالة ساحل جزر “ماتسو” التايوانية، استمرت الحفارات الصينية طيلة سنوات في حفر الرمال، وهي الممارسة التي عرَّضت الحكومة التايوانية للصداع المستمر، ومن ثم اضطرت تايوان للاستثمار في أسطول ضخم من خفر السواحل. وبالإضافة إلى أن هذه الجرافات كانت مصدر إزعاج لتايوان، فإنها تلحق أضرارا بالأحياء المائية وقاع البحر، كما أنها غالبا ما تنجح في حمل الرمال معها، وهي فائدة لا يمكن إغفالها في ظل الندرة المستمرة للرمال، وهو أمر تُحفِّزه في الغالب طفرة البناء والتشييد الصينية الضخمة.

حتى الآن، لا تعد تسربات خطَّي “نورد ستريم 1″ و”2” كارثة بيئية صخمة، على غرار حادث تسرُّب “إكسون ڤالديز” النفطي عام 1989، حينما تسرَّب حوالي 42 ألف متر مكعب من النفط في مياه آلاسكا، لكن التسرُّبات الأخيرة ستتسبب في ضرر بيئي سيُجبِر السويد والدنمارك وأي بلد آخر من دول بحر البلطيق على بذل أقصى ما يمكنه من جهد لمعالجته، إن امتلك القدرة على ذلك. وعلى غرار الصيد الجائر في مياه البلدان الأخرى، لا يُعَد التسبُّب في تسرُّبات للغاز في مياه دولة أخرى مأساويا مثل الاعتداء العسكري، مع أنه يتسبب في ضرر مماثل. ولأنه ليس اعتداء عسكريا، فمن المستحيل نظريا اتخاذ إجراءات للدفاع عن النفس في مواجهته، فلن ترسل البلدان أساطيل صيد لمسافات بعيدة نحو المياه الصينية لتلقين الصين درسا رادعا على صيدها الجائر، كما لن تُقْدِم على تفجير أي خطوط أنابيب تابعة لها تقع -ربما- قرب المياه الروسية.

واقعيا، يُعَد إلحاق الضرر البيئي عملاً ذكياً، لكنه مع ذلك اعتداء رمادي شديد الخُبث. ولأن النظم السياسية مثل تلك الموجودة في روسيا والصين -ناهيك بكوريا الشمالية وبيلاروسيا- شديدة الخبث، فيمكننا توقُّع حدوث المزيد من هذه الحوادث، ومن ثمَّ المزيد من الثقوب في خطَّي “نورد ستريم 1″ و”2”.

_____________________________

هذا التقرير مترجم عن Defense One ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر: الجزيرة. نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى