مضى شهر أيلول/ سبتمبر، شهر الكوارث والنكبات، بدءاً من جريمة الانفصال، إلى فقدان وغياب عبد الناصر، لتستمر الكوارث تترى على شعبنا وأمتنا وعالم اليوم، بدأت المقتلة في سورية اعتباراً من ليلة الانفصال وماتزال مستمرة حتى الآن، انطلقت مع ميليشيا اللجنة البعثية العسكرية منذ 61 عاماً ولم تنته هذه المقتلة، فنظام القتل والجريمة مازال محمياً بحكم عمالته وخياناته وارتباطاته الممتدة، حيث ساهم بتكريس حالة الانهيار العربي.
فبعد أن دانت المرجعية في المنطقة لأميركا التي وقفت بقوة إلى جانب “إسرائيل” ضد مصر الناصرية عام 1967، في حربٍ أنهت دولة الاستقلال وجاءت على مشروع النهوض العربي، وجيل خاض النضال ضد الاستعمار، ليأتي عصر الردة اعتباراً من أول سبعينيات القرن الماضي وتكريس الهزيمة بحرب 1973، أريد لها أن تكون حرب تحريك وفق المخطط الأميركي الصهيوني المشترك وإخماد آخر المواقع الثورية عربياً، وحرق الطاقة الثورية للقضية الفلسطينية في الحرب اللبنانية كنتيجة لمنظور وخطة “حافظ- مورفي” وإطباق نظام القتل والجريمة الأسدي على أمجاد سورية ومستقبلها مذ ذاك، ضمن استقطابات عربية خانعة للمرجعية إياها والاستفراد الأميركي بالسيطرة على العالم.
وتتوالى حلقات السقوط لتُكرس حالة اليباس والتخشب السياسي للنضال العربي، وصولاً لمشاهد الدماء على الأرض العربية في سورية والجزائر والعراق ولبنان وليبيا واليمن والسودان بأيدي طغاتها العملاء والمرتهنين لأروقة صنع القرار الدولي وبعناية خاصة من دول النفط العربجية، متقاطعةً كلها مع استمرار الدماء على أرض فلسطين منذ مجازر كفر قاسم وأخواتها وباقي المجازر المرتكبة بحق أهلها في أكثر من مكان على الأرض العربية.
وهكذا بدأ تكريس انهيار مشروع الدولة العربية الناشئة، لصالح النيوليبرالية المتوحشة، وسيادة أكاذيب النمو الاقتصادي والتخطيط من خلال الخصخصة القاتلة، وبيع أصول القطاع العام وبنيته التحتية، بهدف سيطرة الأوليغارشيات السلطوية العسكريتارية العربية عليه، لخدمة ميليشيا طائفية كامنة ملتحفة بلحاف السلطة وبغطاءٍ من شعاراتها البراقة الخادعة، مثل الصمود والتصدي والمقاومة وممانعاتها، وإطباق السيطرة على الاقتصادات والمجتمعات العربية، لخدمة أعداء الأمة ممثلة بإيران وإسرائيل وروسيا والصين.. الخ
جاء فشل تجديد الاتفاق النووي مع إيران على وقع الكارثة الروسية الهائلة في غزوها لأوكرانيا، والخسائر التي منيت بها الآلة العسكرية الروسية الصدئة والمهترئة، بعد عدة أشهر من الدجل الإعلامي الروسي بزعم حسم سريع ودخول كييف في عدة أيام وهو ما لم يحصل، فقد فاجأت أوكرانيا المدعومة غربياً وقواها الحية ومقاوميها الأبطال خصومها، كما حلفاءها، بنتائج هجومها المضاد الأخير في مقاطعة “خاركيف” بشمال البلاد عكس المتوقع بأن يكون الهجوم في الجنوب والشرق، وتمكنت من تحرير ما يقارب 6000 كلم مربع خلال أسبوعٍ واحد، إنها الحرب الخاطفة وحُسن استخدام السلاح المتقدم الغربي، وتكبيد الروس مزيداً من الخسائر المستمرة والمتزايدة، بعد صمود حقيقي ومقاومة غير زائفة كالتي سادت على أرضنا العربية بمواجهة الأعداء اعتباراً من بداية عصر الردة.
إن أزمة ومصيبة روسيا كبيرة كِبر جغرافيتها القيصرية وعظمة تاريخها، ومصيبة بوتين أنه لم يتعلم من الدروس، فلا أحد يفلت من مصيره، وأن مصير الروس هو أن يحكمهم أحفاد “إيفان الرهيب”، إنه يلتقط خيطاً إمبراطورياً غليظاً، يربط حلقات تاريخ روسيا، من سقوط الإمبراطورية في 1917، إلى المخاض الممتد للدولة السوفياتية، هذه الدولة التي، رغم شيوعيتها، بقيت إمبراطورية بفحواها، لتكون مجرد حلقة من حلقات الانحدار التاريخي لتلكم القيصرية، فلقد حاول السوفييت لي عنق التاريخ ومنع نهوض “الدولة- الأمة” في كل المستعمرات الروسية، وصارت أمميتها الشيوعية ووحدة بروليتاريتها درعٌ للإمبراطورية الروسية وإمبرياليتها، والترياق المضاد للنهوض القومي والهويات الوطنية، وما إن انهار ذاك الانحراف التاريخي الذي مثلته الشيوعية، انهارت معه أكذوبة الأممية والبروليتاريا، لتتفجر القضية القومية في شرق أوروبا من جديد، وبقي بوتين مدمناً بإصرار على لوثته القيصرية! وتزييفه لإرادة الشعب باستفتاءات مزيفة، شكلية وكاذبة.
الحركات القومية للتحرر الوطني هي التي تقبر الإمبراطوريات، وهي التي تطلق طلقة الرحمة في رأسها المتفسخ، كذلك فعل غاريبالدي، وأتاتورك وغاندي وعبد الناصر وبن بلا.. وصولاً إلى زيلينسكي! فلكي تقضي على اللوثة الإمبريالية، تحتاج لبلورة هوية وعصبية وطنية بديلة، ولقد فعلها الأوكران، وهذا ما غاب عن بوتين، فبقي يستحضر مفردات إمبراطورية أوروبية بالية، من نفي وجود الدول والأمم والقوميات التي يشتهي التهامها، وبالتالي- حسب زعمه- فالأمم المحاذية لروسيا غير موجودة وليست جديرة بأن تكون، وحسبها أن تلتحق بعظمة روسيا الأم، التي تسير نحو الهاوية بجرائمها وإرهابها في سورية وأوكرانيا.
وها هي قواربُ الموت بفعل إجرام بوتين وحلفه المشبوه، قد خرجت تبحث عن موتٍ أقل ذلاً مما هو في سورية ولبنان، وأنها جميعاً تخرج من مراكز الموت والإماتة باتجاه أوربا، ومن البحر المتوسط، التي تلوثت بالأساطيل الروسية والميليشيات الإيرانية، وأن الراحلين بهذه القوارب هم عربٌ سوريون ولبنانيون وفلسطينيون، إناثاً وذكوراً، وأعمارهم تتراوح بين طفلٍ رضيع وشيخٍ عجوز؛ وتجهد نفسها محطات البث التلفزيوني لتُحدّثنا عن قوارب الموت باستغراب! ألا يُسْتغرب، فعلاً، هذا الاستغراب، وفي كل نشرة أخبار بلاغات عن أزماتٍ قاتلة لا تعد ولا تحصى؟ وكل واحدة منها تكفي لفكفكة أواصر أي بلد أو مجتمع!، ثم يأتيك الإعلام العربي وأبواقه، متحدثاً بصفاقة عن تطبيعٍ مع القتلة في النظام السوري ومع “إسرائيل”- وهما الجهتان اللتان يتوعد أحدهما الآخر، لذر الرماد في العيون- ممهداً بذلك لقمته الموعودة الشهر القادم التي لم تُعقد خلال عامين، ولا ضرر في ذلك، فالرأي العام العربي ليس معنياً بها ولا يتوقّع منها أي جدوى، لأنها فقط “مؤسسة” خاصة بالملوك والرؤساء والتئام شملهم وتجديد موافقتهم على مواقف مكتوبة، غير ذات معنى قد أملِيت عليهم، على رغم تكاثر حالات عدم الالتزام التي تُسقط أي معنى، المعبّرة والمغلفة غالباً بـ”التضامن”!؛ فهل الغياب والحضور الشكلي، يمكن أن يساعدا على خروج القمة ومن خلفها الجامعة العربية، من وضعية اللاجدوى؟ ألا يستحق الأمر مبادرات فعلية وعملية لإعادة النظر في إطار هذا العمل العربي ككل، والحد من إرهاب هذه المنظومة؟
وعلى وقع سقوط العيش المشترك في لبنان والعراق جراء الاحتلال الإيراني بتفويض دولي، وزيادة إرهابها في سورية فضلاً عن النهب والترويع، جاءت ثورة حرائر وأحرار إيران لتوقظ الأمل بمظاهرات أعقبت مقتل الفتاة الكردية الإيرانية “مهسا أميني” لتعم مجمل الجغرافيا الإيرانية بمشاركة أهلنا في الأحواز العربية، التي كانت إشعالاً لفتيل النار الكامنة تحت الرماد، وإيقاظ إمكانية الثورة والتغيير والإطاحة بنظام ولاية الفقيه، خاصة وأن الفتاة تنتمي إلى مدينة “سقز” الكردية، وهي واحدة من أعرق المدن في إقليم كردستان غرب إيران، التي لعبت دوراً هاماً في التحولات السياسية لإيران الحديثة، بدءاً من الثورة الدستورية (1905-1911) في العهد القاجاري، حتى المشاركة في الإطاحة بنظام الشاه عام 1979، أملاً في الاستقلال والحكم الذاتي بعد معاناة من عنصرية الشاه، والتي هددت هويتهم القومية واستقلالهم، وهو ما أدخلهم بعد ذلك في صراع مع نظام الملالي الذي رفض منحهم أي مكاسب قومية، وحرمهم من المشاركة في وضع الدستور؛ وقد ينجح نظام الملالي في إخماد حركة الاحتجاجات الحالية، لكن جذوة الثورة ماتزال متقدة، والانتفاضات المتكررة تدل على أن الشارع الإيراني مشحون حتى الغليان، ولن يغير من الأمر كذب “رئيسي” المجرم وتلفيق محور مُشايعيه بالمنطقة، واتهاماتهم الكاذبة والمعروفة للمتظاهرين كما فعلوا في سورية، ولن يفيدهم محاولة تصدير أزمتهم للخارج خاصة لشمال العراق، وأن الجوع والفقر والفساد والقتل وغياب عدالة توزيع الثروة، ما زالت عوامل فاعلة في إشعال فتيل الثورة من دون الحاجة لأي أفكار أو أيديولوجيا لتحريكها وتنظيمها.
ولا يمكن تجاهل العمل الممأسس، لدول وأحزاب ووسائل إعلام أوروبية، تتعالى وتزداد فيها أصوات اليمين المتطرّف والكراهية المستفحلة، وما يجري فيها من استهداف لحقوق النساء حيث يتم إقصاؤهن من الفضاء العام، ذلك في بلدان تُعتبر أركاناً تاريخية في مجال الديمقراطية ورفع شعارات المساواة والحرية الفردية، كفرنسا والسويد والنروج والدنمارك وإيطاليا. الخ وباتت حصاناً للفاشية الأوربية، وأن اليمين المتطرّف والعنصريّ في الغرب عموماً ليس إلا جزءاً من المشهد العامّ ونتيجة طبيعية لتنافس الاتجاهات السياسية، وأن وجود معايير مزدوجة تجاه قضايانا السياسية والاجتماعية في الكيانات الغربية الوازنة ليس مبرراً للدفاع عن تراجع الحريات السياسية والاجتماعية في بلداننا العربية أو لقمع أشكال الحرية والمعارضة السياسية والاجتماعية فيها.
وقد ثار شعبنا السوري، مثل أي شعب يسعى للحرية والتقدم، مقدماً الغالي والنفيس في سبيل حريته وكرامته بمواجهة أخطر نظام مجرم فاشي بالتاريخ الحديث، كاشفاً تخاذل الكثير ممن يرفع شعارات براقة ويعمل بعكسها؛ ولا سبيل للخلاص إلا بالمحاسبة والعدالة، فهي البداية التي ستعيد لهذا الشعب حقه المسلوب، ليبني دولته الديمقراطية الحقيقية، ويردع أولئك الذين ينتهجون هذا الدرب الإجرامي في محاربة الإنسانية وشعوبها المضطهدة؛ وقد تكون المسارات الخاطئة واحدة من ضرورات التاريخ، للكشف عن التباين بين الممكن وغير الممكن، لكن من ضرورات العقلانية السياسية التقاط الممكن وتحويله إلى واقع، فهل نحن قادرون على جسر الهوة بين الرغبة والممكن، أي رغبة كل طرف بتحقيق ما يريد على مقاس مرجعيته الفكرية وأيديولوجيته السياسية، وبين الممكن الذي يتيحه التنوّع السوري فكرياً وسياسياً واجتماعياً، متضمناً حقائق الاجتماع التاريخي والجغرافيا الإقليمية، وكذلك المسائل المتعلقة بالاقتصاد والحياة المُعاشة، حيث أن الكارثة الاقتصادية والمعيشية تلقي بثقلها على جميع السوريين، بغض النظر عن مواقفهم السياسية، وأماكن وجودهم؟!
إن طرح هذا السؤال واستفهاماته، يمنح بعض الأمل في عقلنة السياسة، فكراً وعملاً وخطاباً، ويشير إلى أن أحد أسباب الاستعصاء الكبرى والأساسية، يكمن في عدم الإقرار بأن لا حل سياسي ممكن من دون الإقرار بأن هذا الحل ينبغي له أن ينطلق من سورية الممكنة، وليس المُفصّلة على مقاس ورغبة طرف بمفرده، وأن الواقع العملي يؤكد أن تمسّك أي طرف برؤية سياسية إقصائية، هو الوصفة المثالية لاستمرار الصراع، وتفتيت الجغرافيا الوطنية، والقضاء على الرأسمال الرمزي التاريخي السوري.
المصدر: موقع (الحرية أولًا)