بأثر ما ألمَّ به من مرض قيد حريته فى الحركة والتنقل غاب حضوره فى المحافل الثقافية دون أن يغيب اسمه وإلهامه .
هو رجل لا يخفي أمراضه ولا يتستر على آلامه .
صارح قراء أدبه بما يعانيه من وجع إنساني دون أن يقول : «هذه آلامى أنا » .
فى مجموعته القصصية الأخيرة « لم أعرف أن الطواويس تطير » تبدت أوجاع الزمن :
« نظرت نحو الطاووس المأسور، الذى كانت بعض ريشاته الملونة تبرز من ثقوب الشبكة وهو ينتفض، وقلت لنفسى وأنا أنصرف يا طائرى العجوز أشباه عوادينا ».. الكلمتان الأخيرتان لأمير الشعراء «أحمد شوقى»، أى أننا نشبه بعضنا الآخر .
سألته وقت نشرها عام (2009) : هل نبرة اليأس من طبيعة الدراما أم تعبير عما يجيش بداخلك ؟
قال : « النص عن المقاومة لا اليأس » .
هو رجل لا تستهويه السياسة بمعناها الحزبى أو المباشر لكنه لا يتورع عن المشاركة فى أى عمل وطنى، ملتزماً بفكرة جوهرية تسكنه عنوانها : « مسئولية المثقف » .
هكذا مضى متكئاً على عصاه إلى ميدان التحرير وشارك بحماس شاب فى جميع الفاعليات التى جرت قبل ثورة يناير وبعدها من «كفاية» إلى اعتصام المثقفين فى وزارة الثقافة، الذى كان رمزه الأول، ضد «أخونة» الثقافة المصرية .
من فرط التواضع فى كلماته وتصرفاته يلحُّ عليك السؤال مرة بعد أخرى : هل يدرك هذا الرجل أن قامته لا تضاهيها قامة أخرى لأى أديب عربى آخر على قيد الحياة ؟
يتحدث بصوت يكاد لا يسمع، يستملح السخريات المصرية ويرويها وهو يغالب ضحكه حتى فى شدة مرضه، يكتب بقلم رصاص رواياته وقصصه القصيرة قبل أن يعيد كتابتها من جديد مرة بعد أخرى حتى يستريح لما كتب ويرى أنه يستحق أن يطالعه القارئ ثم لا يظهر عليه أنه قد أودع لتوه المكتبة العربية شيئاً يستحق أن ينفش ريشه كطاووس !
لا يخفى تأثره بنهج اثنين من أساتذته : «نجيب محفوظ» و«يحيى حقى»، فالأول وهو سيد الرواية العربية يمشى فى الشوارع ويجلس على المقاهى ويحتضن شباب الأدباء، يسمع بأكثر مما يتكلم بينما كل كلمة منه تحفظها ذاكرة مستمعيه وتخلد فى المرويات الشفاهية.. والثانى هو واحد من أهم الأدباء المصريين فى القرن العشرين، لكنه لم يكن مغرماً بالأضواء ويفضل أن يكتب فى المجلات الأقل انتشاراً إذا ما كانت أكثر جدية .
استوعب الدرس مبكراً من أستاذيه والدرس وافق طبيعته المتأملة التى تميل لطلب السلام النفسى .
غير أن ذلك كله لا يعنى أن من ساروا على هذا الدرب لا يعرفون قدر أنفسهم أو قيمة ما أسهموا به فى تاريخ الأدب العربى الحديث .
فى عالمه الروائى انعكاس لعالمه الحقيقى، فلسفته فى الحياة وأحلامه المجهضة وتجاربه فى المنفى .
قضيته الأساسية : أزمات الثقافة والمثقفين .
الأدب لا يكون عظيماً إلا بقدر أن يصدر من مواهب تعرف كيف تمزج الخاص والعام، تلتقط ما هو عميق بين ركام التفاصيل الصغيرة بحثاً عن معنى، أو قيمة، أو قضية .
أعماله الروائية لا تثرثر ولا تطيل بغير ضرورة فنية، وعباراته ذات إيقاع شعرى، لأنه هو نفسه شاعر كامن يحفظ قصائد «المتنبى» و«شوقى» وصديقه القديم «صلاح عبدالصبور» وتطربه ملحميات صديق آخر هو «عبدالرحمن الأبنودى».
روايته «واحة الغروب» تعكس شواغله الفكرية والتاريخية بصورة مثيرة، فقد بنى الرواية كلها على تفجير معبد تاريخى قديم فى الواحات بعد الثورة العرابية بسنوات دون أية معلومات إضافية، كان يمكنه أن يوظف الواقعة درامياً على أنها عمل إرهابى، لكنه كأديب حقيقى وضعها فى سياق آخر عن خيانة المثقف بعد هزيمة الثورة، فى هدم المعبد تعبير عن الضجر من عبء التاريخ وخيانات المثقفين .
لم تكن الشخصيات الأوروبية التى احتوتها أغلب رواياته، مقحمة على أى سياق درامى، كلها رسمت بصورة بالغة البساطة والعمق تختلف جذرياً عن أية طريقة انتهجها أسلافه من الأدباء المصريين والعرب كـ«عصفور من الشرق» لـ«توفيق الحكيم» و«قنديل أم هاشم» لـ«يحيى حقى» و«موسم الهجرة إلى الشمال» لـ«الطيب صالح» و«الحى اللاتينى» لـ«سهيل إدريس» .
بالتكوين السياسى فهو ينتسب إلى مشروع ثورة يوليو، وبالمفارقات تأكد ذلك الانتساب بعد هزيمة يونيو (1967)، لا قبلها، دفاعاً عن الوطنية المصرية عند معركة حياة أو موت .�
عند منتصف تسعينيات القرن الماضى نشر كتاباً قيمته فى جدته تحت عنوان : «أبناء رفاعة» عن صعود الدولة المدنية وانحسارها وإرث التنوير الذى يكاد أن يتبدد ومستقبل الثقافة والمثقفين .
بتوصيف المفكر الإيطالى «أنطونيو جرامشى»، فإن المثقف هو من يرتبط بحركة مجتمعه وقواه العاملة لبناء كتلة تاريخية تزيح الطبقات المهيمنة .
هذا هو « المثقف العضوى » .
وبتوصيف الفيلسوف الفرنسى «جوليان بندا» فإن أدواره تصوغها فكرة الضمير قبل أى التزام آخر ــ
وهذا هو « المثقف النبى » .
ما بين «المثقف العضوى» و«المثقف النبى» تتبدى صور عديدة ومتناقضة .
« بندا » نفسه هو من صك عبارة « خيانة المثقفين » .
« المثقف الخائن »، هو أحد تجليات أزمات المثقفين .
كأى خيانة فإن أثقالها لا يصعب الإمساك بحقائقها .
المشكلة فى «المثقف المهزوم»، وهو حالم وممزق ومنكسر .
ينطوى أدب «بهاء طاهر» على شخصيات روائية تجسد قدراً كبيراً من الهزيمة الداخلية كما « الحب فى المنفى » :
« نشعر أننا شبحان من عصر مات.. نعرف أن عبدالناصر لن يُبعث من جديد، وأن عمال العالم لن يتحدوا » .
« لم نقل ذلك أبداً، بل كنا نقول نكسة باستمرار : كنت أقول لكى أقنع نفسى قبل أن أقنعه أن الشعب لن ينسى ما فعله من أجله عبدالناصر » .
« أقول له.. إن ثورته ستصحو على أيدى الناس مرة أخرى ذات يوم » .
« أقول أشياء كثيرة… يستمع إليّ وهو يهز رأسه فى عناد » .
بصياغة درامية أخرى لصورة «المثقف المهزوم» ينتحر «محمود عزمى» فى نهاية رواية «واحة الغروب»، تحت وطأة شعوره بأنه خان كل شىء فى حياته .
لم يخن الثورة العرابية لكنه تخاذل فى التحقيقات التى أجريت معه بعد هزيمتها، تنكر لها وسب زعيمها «أحمد عرابى»، للحفاظ على وظيفته ضابطاً فى البوليس .
قرب نهايته صرخ فى وجه ضابط شاب كان يردد سباباً
معتاداً بحق زعيم الثورة العربية : « اسمع يا وصفى.. حذاء عرابى باشا أشرف من كل الخديويين والبشوات » .
قيمة «بهاء طاهر» فى قوته الأخلاقية، كما فى إبداعه الأدبى .
المصدر: الشروق .