نحو تشكيل جسم سياسي بديل عن اهتراء التمثلات السياسية القائمة

منذ نشأة الحركات السياسية في التاريخ العربي الحديث، كان تركيز الفكر السياسي على الطابع الإيديولوجي، ودوره الأساس في تحديد هويتها وتوجهاتها، وتناوله أدوار رموزها وقياداتها، من أكبر شواغل المفكرين والمنظرين في الحقل السياسي، ممن واكبوا تجارب الحركات والأحزاب التي ساهمت  في بناء الدول العربية، إثر استقلالها تباعاً خلال عقود القرن العشرين عن الاستعمار الكولونيالي. قلٌة من المثقفين النقديين، من خاضوا في تحليل مدى ملائمة خطاب وأدوات الجماعات السياسية، متطلبات تحديث ودمقرطة مؤسسات الدولة، في دول كانت هويتها الوطنية والقومية ماتزال في طور التكوين. في حين سعت طبقات الحكم التي أمسكت بالسلطة من عسكر وسياسيين، إلى تزيين الفشل المدوي والمتراكم في سياساتها الداخلية، بما فرضه عليها الصراع العربي – الصهيوني، من تحديّات خارجية وأعباء كبرى حسب مزاعمها تلك. سارت الأحزاب والتجمعات السياسية على خطى الأنظمة والحكومات العربية الرسمية، في تبرير عجزها عن تغيير البنى الداخلية والسلطوية الكابحة لتطور الدولة والمجتمع، وذلك بالعزف على أوتار الخلل في موازين القوى، وثقل الظرف الموضوعي، وانتظار نضوج العوامل الذاتية.

شكلت الحياة السياسية في سورية منذ مرحلة استقلالها وحتى ثورة 2011، مختبراً عيانياً حافلاً بالأمثلة العديدة، عن التحولات في تموضع الأحزاب، ومنحى أدوارها وتباين علائقها بالسلطة والمجتمع. وبقيت المقارنة ما بين فترة الخمسينيات وما تلاها بعد سيطرة حزب البعث على السلطة، الإطار المرجعي المتداول للتمييز؛ والتآسي بين حيوية زمن الأحزاب والتكتلات السياسية في تلك المرحلة، وتصحر الحياة السياسية في زمن الحزب والقائد الواحد.

في غضون ذلك حاولت تجربة التجمع الوطني الديمقراطي الذي تأسس من عدة أحزاب مُعارضة للسلطة في نهاية سبعينيات القرن المنصرم، إختراق الواقع السوري الكتيم، وتقديم رؤى جديدة لدور الأحزاب في كسر احتكار السلطة، ورفض صيغة الأحزاب الكاريكاتورية الملحقة بها تحت مُسمّى ” الجبهة الوطنية التقدمية”. على حجم التضحيات الكبيرة التي دفعها العديد من قادة وكوادر أحزاب التجمع، بسبب تعرضهم للاعتقال والملاحقة لسنوات طويلة من قبل الأجهزة الأمنية، لم تأخذ تلك التجربة المهمة، حقها من التمحيص والدراسة حول كيفية عمل الأحزاب السورية في ظروف العمل السري، وطبيعة استجابة بناها التنظيمية مع شروطه وظروفه الاستثنائية، وأبعد من ذلك حول مدى اختلاف طرائق وأساليب تلك الأحزاب في التعامل مع قمع السلطة لها من جهة، ومدى اهتمام كلٍ منها ببناء شبكات أمان اجتماعي، تؤمن لها الحد الأدنى من الحماية وحرية التحرك من جهةٍ أخرى. أما المراجعات النقدية عن أزمة المعارضة الوطنية التقليدية، والبحث في أسبابها ومظاهر قصورها الذاتي، فبقيت في أحسن الأحوال ضمن أوساط أحزاب المعارضة ومحازبيها، دون أن تصل نقاشاتها وحصائل تجاربها، إلى مسامع جمهور أبعد من مساحاتها الضيقة. على هذا الإيقاع الذي ظلل الحياة السياسية، في بلد كانت هوامش الصراع مع السلطة تنحسر فيه، كلما أوغلت الدولة الأمنية في الإطباق على المناخ العام، وهو ما تبدّى جلياً خلال عقد الثمانينات، عشية حرب الترهيب التي فرضها النظام على المجتمع، باستغلال صراعه مع جماعة الإخوان المسلمين، بغرض تأديب التيارات اليسارية والقومية المُعارضة له، وكل صوت يفكر حتى بانتقاد السلطة أو الغمز من قناتها. إذ بقيّ التساؤل الجوهري حول كيفية توليد أطر سياسية وحزبية لا تدور في فلك السلطة !! يجد جوابه منتصباً في فائض القمع السلطوي، وآليات القمع المُعمم بلا هوادة.

شهدت سورية بلا مبالغة في التقدير خلال حكم الأسد الأب، أسوأ مراحل موات فكرة التنظيم السياسي، سواء بإضعاف وتفكيك الأحزاب التي عارضت الأبد الأسدي، أو منع ولادة صيغ مدنية جديدة تلتف على الجدار السميك أمام العمل السياسي المباشر. ما يفسر تراجع الأسد الوريث في بداية توليه السلطة عام 2000 عن وعوده الإصلاحية بالانفتاح والتحديث، والتي شجعت على إطلاق ظاهرة المنتديات، وما عُرف وقتذاك بربيع دمشق، وهي التجربة التي رفض النظام القديم الجديد تبرعمها، وأوصد الأبواب والفرص أمامها.

على هذا النحو لم يكن تعامل النظام مع إعلان دمشق، الذي نشأ بمزيج من أحزاب سياسية ونخب ثقافية ومدنية عام 2005، بأفضل حالاً من سابقيه رغم تضعضع السلطة بعد صدور القرار الدولي 1559، وانسحاب الجيش السوري من لبنان تنفيذاً له.

في ضوء تلك السياقات التاريخية، التي حكمت مسيرة الأحزاب والقوى السورية، والتي لا يمكن اختزالها فحسب بطرائق وأساليب السلطة في قمعها وشل قدراتها، بل إن أمراض الشخصنة والمكايدة في سلوك قادة تجمعاتها، وأزمة الثقة وضعف روح العمل الجماعي بين أقطابها، من العوامل الذاتية أيضاً التي لا يمكن الاستهانة بها، في معرض تقييم أدائها قبل حقبة الثورة السورية. لذلك ثمة وجاهة في القول: أن أحزاب المعارضة السورية لم تكن مستعدة ذاتياً كجماعات منظمة، قيادة دفة الحراك الشعبي الثوري، وتحديد وجهته السياسية بما يلبي تطلعات القوى المجتمعية التي يعود لها سبق المبادرة في إطلاقه. حتى عندما حانت الفرصة كي تتقدم تلك الأحزاب والتجمعات؛ ذات التاريخ المعروف في مقارعة النظام، كي تتولى زمام القيادة السياسية للثورة، انضوى جزء وازن منها في المجلس الوطني، الذي تأسس في نهاية العام 2011، وكان لديه الغطاء الواسع من الشرعية الشعبية، التي منحها له جمهور الثورة في الداخل، بيدَ أن تجربته القصيرة واستجابة غالبية مكوناته الحزبية والسياسية لانفراط عقده، وتشكيل بديل عنه هو الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، أماط اللثام عن طبقة سياسية تؤمن بأن إسقاط النظام، مصلحة ومهمة خارجية للدول “الداعمة والصديقة” تكفي بحد ذاتها عن ممارسة السياسة كفعل كفاحي سوري ابتداءً وانتهاءً.

 كشفت تحولات القضية السورية المحصلات الكارثية لهذا المنطق، الذي قام على التسليم بالتدخل الخارجي الحاسم، وفق أوهام المؤسسات الرسمية لقوى الثورة والمعارضة، وهي من أهملت في المقابل متطلبات ومهام تحصين الثورة في عمقها الجغرافي والمجتمعي. رغم عديد المبادرات السياسية التي أُطلقت خلال محطات الثورة، من لقاءات واجتماعات ومؤتمرات، تمخض عنها ولادة أحزاب وتيارات وتجمعات جديدة، لم تتجاوز تلك المبادرات حدود الخطاب الدعائي لمشاريعها السياسية، بينما بقيت أزمة العمل السياسي فيما يتعلق بشقي الرؤية والتنظيم، في دائرة التجريب والمداورة وهدر الوقت، وكلما كانت تتراكب مشكلات الصراع مع النظام وحلفائه، وتتساقط المآسي تباعاً على رؤوس السوريين، كانت مؤشرات الفوضى في إدارة الصراع، ترتفع طردياً مع فشل القوى السياسية القائمة في تنظيم أوضاعها، وبقائها خارج أحيزة التأثير بالأحداث المتلاحقة. يحيل البعض من النخب السياسية، التي أظهرت افتراقها عن الأطر التمثيلية للمعارضة “من ائتلاف وهيئة تفاوض ومنصات ومسارات أستانة وسوتشي” في معرض نقاش أسباب عدم بناء أطر سياسية مستقلة وفاعلة، إلى دور الدول المتدخلة في القضية السورية، في إنتاج وهندسة معارضة سياسية هجينة وتابعة لها. في حين يعزو البعض الآخر ذلك إلى أثر تدويل الصراع بعد مرحلة العسكرة ثم انتشار التطرف، على تقليص مساحات الممارسة السياسية داخل الجغرافيا السورية، حتى ضمن المناطق المحررة التي أصبحت تحت نفوذ الفصائل العسكرية. على أهمية وجهات النظر تلك، وغيرها من آراء متعددة ترى في أمراض النخب السياسية، وأشدها وضوحاً، غلبة النوازع الشخصية والحزبية على مقتضيات المصلحة العامة والعمل الجماعي، من الأمراض المستعصية التي حالت دون إنضاج بديل سياسي قادر على امتلاك شرعية ثورية، وتمثيل شعبي، وحضور وازن، ولديه استراتيجية واضحة في إدارة ملفات الصراع، والدفاع عن مصالح السوريات والسوريين بكل مسؤولية واقتدار.

إحدى عشر عاماً تراكمت خلالها مشكلات ومعضلات كبرى، وما برحت ماكينة الإجرام الأسدي تواصل أدوارها في تدمير كل مقومات الاجتماع السوري، وإغراق الوطن والشعب في دوامة التنكيل والإفقار والتهجير، بعد أن أشرعت الأبواب أمام كل محتلٍ وطامع، لسرقة ونهب الثروة الوطنية، وتغيير الهوية السورية، على وقع مخططات التغيير الديمغرافي. فيما بات ارتهان المعارضة السورية الرسمية بكل تمثلاتها، والتي استحالت أوراق وظيفية بيد الدول الراعية لها، جزءاَ من المشكلة، وعائقاَ فعلياً أمام استنهاض مشروع الثورة السورية، وهو المشروع الذي يقف في مهب المقايضات والمساومات الدولية والإقليمية، التي تستهدف إعادة تأهيل النظام، تحت غطاء “المصالحة بين النظام والمعارضة”، بالتوازي مع تسعير خطاب العنصرية، والضغوط الشديدة على اللاجئين السوريين في دول الجوار، لإجبارهم على العودة إلى أحضان المسؤول الأول عن تدمير مناطقهم، وقتل أبناءهم وتهجيرهم. أمام كل هذه التحديات التي تواجه الكيان السوري برمته، في ظل تحوّل الجغرافية السورية إلى مناطق نفوذ خارجي، مع استمرار النزيف في النسيج المجتمعي، فإن كل تأخر في إنضاج البديل الوطني السوري، بحوامله السياسية الديمقراطية، يسرّع ويسهل تنفيذ أسوأ السيناريوهات والحلول المطروحة. وكي يولد البديل المرتجى في هذه المرحلة الأخطر في التاريخ السوري الحديث، لابد من تجاوز أمراض النخب السياسية والمثقفة، وتقدّم من حافظوا على نقاء فكرة الثورة، والمتمسكين باستقلالية القرار السوري، من بنات وأبناء الجيل الذي أشعل فتيل الثورة، وكافحوا في ميادينها، بالتشارك مع أصحاب الرأي والخبرة من المتشبثين بمشروع التغيير الوطني، وأساسه تغيير المنظومة الفاشية الأسدية، للعمل يداً بيد لبناء جسم سياسي فاعل، يجسد بالقول والعمل مطالب وأهداف الثورة، ويكون مصدر ثقة لكل السوريات والسوريين المؤمنين بولادة سورية الحرة، وضمانة قوية لمنع تمرير مشاريع التفتيت والتقسيم، التي تستهدف الوطن والشعب، وهو ما ينبغي أن يكون أولى أولويات كل المنحازين إلى ملايين المظلومين من أبناء شعبهم، والأوفياء للتضحيات الغزيرة التي قدمها السوريون على مذبح الحرية، والرافضين بكل جوارحهم عودة عقارب الساعة إلى زمن القمع والإذلال الأسدي، وكل من تمثلوا نهجه البغيض من قوى الأمر الواقع.

المصدر: موقع مصير    

     

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى