الأزمة السورية .. في معترك الصراع على الشرق الأوسط

محمد علي صايغ

الصراع الدولي يزداد حدة اليوم مع الصراع الروسي الأميركي / الغربي على الارض الأوكرانية  وما ترافق معه من تسليط الضوء على ملف تايوان ومحاولة تحريكه وما  يمكن أن يؤدي تفاقم هذا الصراع بالعالم الى حافة الهاوية .

والشرق الاوسط بموقعه الجيوسياسي ، كان وما زال يتحرك فوق صفيح ملتهب ، ولأن الشرق الاوسط قلب العالم ، وتبعا لمتغيرات الزمان والمكان ، تزاحمت القوى الكبرى في صراع مرير للسيطرة عليه باعتباره صلة الوصل بين الشرق والغرب والقارات البعيدة .

ولم تكن الثورات العربية بدءا من عام ٢٠١٠ حدثا عاديا ، فقد جاءت في لحظة فارقة من الصراع الدولي في السيطرة على العالم ، مع بدء  ” مؤشرات ” انحسار تحكم القطب الواحد في المشهد الدولي تبعا لتضارب المصالح بين الأطراف الدولية ، والدخول الحتمي ميدان المنافسة للدول الطامحة في كسر تحكم واحتكار هذا القطب في ادارة العالم ، لتكون منافس ناجح للقوة الامريكية .

وإذا كان مسار التاريخ غالباً لا يستقر على استدامة تحكم قوة دولية وحيدة على العالم . فإنه من الواضح أن المتغيرات التي عصفت بالعالم العربي وتنامي الصراع حوله ، كان كاشفا على هذا الانحسار التدريجي لسيطرة القطب الواحد ، وبدء الاختلال في التموضعات الدولية السابقة ، وبداية لما يلوح بتراجع أمريكي في التحكم بالسياسات الدولية ، مع ظهور متنام لتكتلات دولية ( دول البريكس ) ، وتنام لقوى دولية وإقليمية ناهضة في المجال الاقتصادي والعسكري في محاولة لفرض وجودها وحضورها ومد نفوذها في معترك المنافسة الدولية ، بما يحفظ أمنها القومي ومصالحها ، ودورها في رسم معالم السياسة الدولية من جديد .

ولأن الشرق الأوسط على مدار التاريخ البشري مركز محوري اساسي للصراعات الدولية ، فقد بدأت التوازنات الدولية الحادة تطفو على سطحه ، وتفعل فعلها فيه ، خوفا من نجاح حركة النهوض عقب الثورات الشعبية ، وما قد ينجم عنها من آثار كارثية على مصالح الدول الكبرى، فتحركت القوى الدولية على تحويل قدراته في التغيير من إمكانية ” الفعل والتأثير ” الى حالة ” الاضطراب والشلل ” سعيا وراء إغلاق مرحلة سابقة ، والدخول في مرحلة جديدة بناء على التوازنات الحاصلة ، كمقدمة لاستقرار التموضع الدولي .

وعلى خلفية اختلال التوازنات الدولية اندفعت الأطراف الدولية والإقليمية الناهضة في التزاحم على المواقع الاستراتيجية في الشرق الاوسط لإرساء موطئ قدم لها على خريطته ، والتمركز في الممرات البرية والبحرية لكسر التحكم الأمريكي والغربي على حركة التجارة العابرة للقارات ، وتشكيل أوراق ضغط هامة في السياسة الدولية وفي الصراع على مواقع النفوذ العالمية .

لم يكن التغلل الروسي عبر إيجاد مواقع له في الشرق الأوسط في المياه الدافئة السورية ، وعلى الشواطئ الليبية ، وفي صحراء سيناء تحت شعار محاربة الدواعش نزوعا وحيدا . اذ أنه بالتوازي معه كان التمدد الصيني لافتا عبر خط الحرير البري والبحري

و بناء قاعدة بحرية في جيبوتي على مضيق باب المندب الذي يربط بين أوروبا والبحر المتوسط والمحيط الهندي ودول الخليج وشرقي أفريقيا ، معلنة عن نفسها لاعبا دوليا جديدا الى جانب القواعد العسكرية لأمريكا وأوربا في الشرق الأوسط  وعلى مضيق باب المندب باعتباره النافذة على البحر الأحمر وقناة السويس ، مما يشكل الوجود الصيني العسكري تهديدا مستقبليا لواشنطن في مناطق وجود قواتها في شرق وجنوب آسيا والمحيط الهندي وبحر العرب، ويتكامل التمدد الصيني عبر إطلاق طريق الحرير البري لقطارات الشحن والنقل من الصين الى  مدينة دويسبرغ الالمانية ، كما سينطلق خط الحديدي من شرق الصين الى بريطانيا  ، وسيسهم الخط الحديدي ( باكو – تبليسي – قارص ) الى تنشيط حركة النقل والبضائع بربطه بتركيا والدول الأوربية ، بما يمثل متاعب جديدة لقناة السويس وانخفاضا لافتا في ايراداتها .

ومن هنا فإن التطور الصيني اقتصاديا وعسكريا وسعيه للاستحواذ على الممرات الدولية ، أجبر الولايات المتحدة على تعديل أولوياتها الاستراتيجية واعتبار الصين وشرق آسيا أولوية أولى تتقدم على غيرها في إطار استمرار إحكام السيطرة على العالم .

وتتنافس أيضا الدول الاقليمية الوازنة تركيا وإيران على مواقع لها في الشرق الاوسط لامتلاك القدرة على لعب الاوراق السياسية فيه والحفاظ على أمنها القومي . فمحاولة الامتداد الايراني عبر العراق وصولا الى البحر المتوسط لم يكن في عمقه بدوافع دينية مذهبية ، وانما لصيانة المجال الحيوي الإيراني من الحصار المفروض عليها ، ونزوعا للعب بالأوراق الضاغطة في الملف النووي ، وفتح مجالات الاستثمار الاقتصادي والعسكري ، وايجاد منفذ آمن لأنابيب النفط والغاز عبر المتوسط .

وفي المقابل نشطت السياسة التركية مؤخرا في أن يكون لها بصمتها في الحضور الدولي فعقدت مع قطر اتفاقية أمنية بحضور عسكري ، ثم اتفقت مع السودان في أن يكون لها قاعدة عسكرية في جزيرة ” سواكن ” على البحر الاحمر ، اضافة الى القاعدة العسكرية في الصومال .

وكان يمكن لمصر – كما كانت في الحقبة الناصرية –  ان تكون دولة إقليمية مهمة بموقعها الجغرافي وثقلها البشري . لكن القوى الدولية والاقليمية استطاعت تحجيم دورها وفعلها ، وتحويل ” عبقرية المكان ” لديها الى ” عبقرية الحصار ” .  بدأ حصارها في كامب ديفد وعزلها عن الأمة العربية وقضاياها ، ثم بتهديدها في شريانها الحيوي ( النيل ) عبر إنشاء السد المائي في اثيوبيا ، وأخيرا سحب يدها من جزيرتي صنافير في إطار الصفقات التي ستجري مع دول الخليج والتطبيع المتصاعد مع الكيان الاسرائيلي قد يؤدي الى تغيرات جيوسياسية وديمغرافية في المنطقة ، تستلزم تبادل أراض مصرية واسرائيلية لاقامة وطن بديل للفلسطينيين وتصفية قضيتهم ، ومع الطموح الاسرائيلي بشق قناة تربط ميناء اشدود بميناء إيلات ، تكتمل عناصر الحصار المصري لما تمثله هذه القناة من خطر على قناة السويس ، مما قد يفقدها جزءا كبيرا من عملائها وايراداتها . طبعا عدا العديد من القواعد العسكرية الامريكية والغربية التي تحيط بمصر إحاطة السوار بالمعصم .

وبعد سنوات طويلة من الحرب الداخلية تدخل الأزمة السورية أتون الصراع على الشرق الأوسط ، ولتؤكد تعقيدات الأزمة السورية أن العالم على أعتاب الاختلال في المراكز الدولية .

ونتيجة لهذا الاختلال دخل الصراع على سوريا كصراع على المصالح والنفوذ ، وصراع على مصادر الطاقة ( نفط ، غاز ..) وطرق امدادها . وعليه فان مشهد المأساة السورية لايمكن تحليله وفهمه إلا عبر قراءة مشهد الصراع الدولي بين معسكر أمريكا والغرب مقابل روسيا والصين .

وقد عملت الولايات المتحدة الامريكية ومازالت تعمل على ضرب أي تحالف أو تقارب روسي صيني ، بالعمل على دفع روسيا واستجرارها للدخول في أزمات المنطقة ( سورية ، ليبيا ..) ، أو التلويح بالأزمات على حدودها ، بتهديدها في تحريك الجماعات الإسلامية ضمن ولاياتها ( موردفيا ، الشيشان ، انغوشيا  .. ) ، وفي محيطها من الجمهوريات ( كازخستان ، ازربيجان ) ، أو دفعها واستجرارها إلى المستنقع الأوكراني – وقد نجحت في هذا الدفع – لاستنزافها والعمل على تحويلها إلى دولة عالم ثالثية .

وفي خضم انشغال العالم بالحرب الروسية الاوكرانية وتفاعلاتها وما يمكن ان تؤدي من انعكاسات ومٱلات

على التوازنات الاقليمية والدولية ، تتحرك الدبلوماسية الروسية لفرض وقائع على الأرض السورية وتحويل التعامل بالملف السوري إلى ” ما تحت دولي ” وخطف المرجعية الدولية ومفاوضات جنيف للمسار السياسي  خدمة لمصالحها وسياساتها الدولية ..وتأتي القمة الروسية الايرانية التركية ومن ثم الروسية التركية في هذا السياق لبناء تحالف في الشرق الأوسط عبر توزيع المصالح والنفوذ في سورية ومن خلال دغدغة المصالح التركية والاتكاء على أزمتها الاقتصادية بفتح الضخ  لل- ” السيل الأزرق ” عبر تركيا لتكون المتعهد له في البيع والتوزيع للقارة الأوربية ولتكون أيضا النافذة الرئيسية لتصدير القمح والذرة الصفراء للعالم ، مع تطمين تركيا على أمنها القومي تجاه خصمها اللدود حزب العمال الكردي وأزرعه ، وليكون الحل الروسي في سورية خدمة لحل أزمة المهاجرين السوريين في ظل الانتخابات التركية التي أصبحت ورقة من الأوراق في كسب الرأي العام التركي للتنافس على الحكم والسلطة التركية .

وتتسارع الخطوات على الأرض السورية لفرض الاتفاقات بين الأطراف الروسية الإيرانية التركية كأمر واقع في ظل انشغال أمريكا وأوربا بالحرب الأوكرانية وما استتبعته من أزمات اقتصادية لديها وخاصة في مجال الطاقة ( الغاز والنفط  .. ) .

وتنفيذا لهذه الاتفاقات جرى مقايضة العملية العسكرية التركية التي كانت تركيا على وشك إطلاقها بالاتفاق على دخول الشرطة العسكرية الروسية في ٢٣ تشرين القادم الى مناطق الشمال وخاصة تل رفعت ومنبح كمرحلة أولى بعد نزعها من السلاح وتمكين تركيا وفق اتفاقية ٱضنه من تثبيت وجودها وأمنها على طول الحدود التركية السورية بعمق ٣٢ كم وتفعيل الدوريات الروسية التركية في هذه المناطق ، وبما يسمح كبداية اولى في عودة المهجرين السوريين الى الداخل السوري . وبالتوازي مع الخطوات العسكرية العمل بتوافق الأطراف الثلاثة على نقل الملف السياسي السوري من الرعاية الأممية في جنيف الى دول أخرى وإنجاز الحل السوري وفق رؤية ومصالح ورعاية هذه الدول ، والدفع الى إجراء المصالحة التركية السورية .

ومن الملفت  في ضوء هذه الاتفاقات وما ترافق معها من التصريحات الإعلامية وأضوائها وتعالي أصواتها ، هو صمت الحلف الأمريكي / الغربي على ما جرى من اتفاقات من خلف ظهره وهو صمت غريب ويثير التساؤلات وراء هذا الصمت المريب …

والسؤال الٱن ، لماذا هذا الغموض والصمت الأمريكي / الغربي ؟؟ وهل هذا السكوت الأمريكي المطبق لأن التوجه الروسي واتفاقاته يخدم من حيث المٱل التوجه الأمريكي ومخططاته في سورية ؟؟ وبما يخدم ايضا الاتفاق النووي الايراني الذي بات على بعد قوسين أو أدنى من الاتفاق النهائي  .. ولكن كيف يخدم المخططات الأمريكية وهو ينزع حضورها في منطقة لها أهميتها الكبرى في استراتيجيتها عبر عقود طويلة ؟؟ وهو يقضي على حلفائها بالادارة الذاتية مما قد يؤدي إلى انفكاكهم عن تحالفاتهم مع الإدارة الأمريكية ؟؟ أو أن ما وراء الأكمة ماورائها ، وإن الإدارة الأمريكية تعمل بالخفاء لتفجير الاتفاقات الروسية كما تم إنهاء مسار الخطوة مقابل خطوة ، وبالتالي العمل على قلب أحجار الدومينو دفعة واحدة على رؤوس الجميع ، وإفشال المخططات الروسية وتفجيرها عبر أدواتها في سورية والشرق الأوسط ؟؟؟ .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى