أوراق الملف
ترسم المشاهد الآتية، وإن بدت شخصية الطابع أحياناً، بعض الملامح العامة لمسألة الجولان من حيث تجارب أهله، وصورة الجولان في الوعي الثقافي السياسي، فضلًا عن معاناة أهله وأحوالهم، وتقدِّم بعض الفقرات الأخرى رأيًا حول بعض المحطات أو القضايا التي تخصّ الجولانيين/ النازحين، والسوريين عموماً.
في المدرسة الابتدائية
في مدرسة يوسف العظمة الابتدائية في حيّ الميدان بدمشق، طلبني مدير المدرسة، ذهبت إليه فوجدت مجموعة من التلاميذ من شُعب وصفوف أخرى. تحدث المدير، لا أذكر ما قاله بالضبط، لكنني فهمت أن هناك إعانات مالية ستُقدَّم لنا بوصفنا نازحين. لا أذكر أنني استلمت هذه الإعانة أم لا، لكن هذا الموقف كان أول معرفة لي بانتمائي إلى منطقة تحتاج إلى مساعدة، عرفت في ما بعد أن اسمها “الجولان.”
لم أكن أعرف شيئاً بالطبع عن ذلك، لكنني تذكرت هذا الموقف مرات عديدة في ما بعد، واستفهمت عنه، فعرفت أن الأمم المتحدة كانت قد خصَّصت آنذاك مساعدة لأبناء الجولان النازحين. لم أشعر بالحرج آنذاك، لكنني شعرت به قليلاً في سنوات لاحقة، وتوقعت أن يكون قد ترك انطباعاً ما عند أساتذتي وزملائي، وهم في معظمهم من أبناء دمشق، وربما كان تفوقي الدراسي، على طول الخط، هو ما منع تحوّل شعور الحرج إلى شعور بالنقص، لكن هذا لم يكن حال أغلبية أبناء الجولان الذي استمرّوا عقوداً يشعرون بأنهم يعاملون بوصفهم أقلّ قيمة من غيرهم في بلدهم.
لم يتكرّر هذا الموقف في ما بعد، ربما لأن الأمم المتحدة قد توقفت عن تقديم مساعداتها أو لأن المساعدات قد وجدت طريقها إلى جهة أخرى في سورية.
نازحون وفلسطينيون
كنا نسكن، في مرحلة الطفولة الأولى، في حارة قريبة من حيّ الميدان بدمشق، لا تبعد من ساحة الأشمر أكثر من ثلاثمئة متر، سكانها في معظمهم من السوريين النازحين واللاجئين الفلسطينيين. كانت الحارة الصغيرة والمهملة مقسومة فعلياً إلى حارتين؛ حارة النازحين وحارة الفلسطينيين، وكان بين الحارتين ما يشبه خط الفصل، كل حارة تعرف حدودها ولا تتخطاها.
لكن هذا لم يمنع أن تحدث خلافات أو مناوشات بين أهالي الحارتين، وكلها لأسباب صغيرة كما يحدث بين أيِّ جيران. لكن، كان الغريب هو سيطرة الميل إلى، أو الرغبة في، إظهار تفوق الذات والتقليل من شأن الآخر بين أهالي الحارتين، مع أنهم جميعهم أبناء مأساة واحدة، ومتماثلون من حيث المستوى الاجتماعي والعادات والتقاليد. هذا يعيب على ذاك أنه نازح، وآخر يعيب على غيره كونه لاجئاً.
مشهد التنافس بين الضحايا أو مشهد استكبار الضحايا على بعضهم بعضاً يكاد يكون مشهداً ثابتاً في الأحوال المأسوية، وفي ظل فقدان الأمل، بدلاً من مشهد التعاضد والتعاون ضد المأساة المشتركة. وجدنا مثل هذا الأمر في زمن الثورة السورية، في محطات عديدة؛ في عام 2016 حدثت صدامات مسلحة بين فصائل مسلحة في دوما وحرستا ومسرابا في ريف دمشق راح ضحيتها نحو 600 قتيل خلال أيام قليلة، على الرغم من كون أبناء هذه المناطق كلها ضحايا صواريخ النظام السوري ومدافعه وبراميله، وعلى الرغم من تماثلهم في أمور عديدة، بل ووجود علاقات قربى وتزاوج في ما بينهم.
التمييز ضد النازحين
بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ومع مرور الزمن، تحولت كلمة “نازح” من صفة موقَّتة لكل من غادر الجولان قسراً إلى ما يشبه “الجنسية” أو الصفة الثابتة التي تلاحق أهالي الجولان، مع أن أربع أو خمسة أجيال على الأقل وُلدت وترعرعت خارج الجولان في مدن سورية أخرى، ولا يعرفون شيئاً عن الجولان، ولم يكونوا قد وُلدوا عند حدوث النزوح، ومن ثم تحوّلت هذه الصفة إلى تنميط ارتبطت به مجموعة من الصفات الأخرى؛ تدل الكلمة في الوعي العام، للأسف، على بشر يفتقدون إلى التحضّر، ولا يعرفون إلا حياة البداوة، وينقصهم التعليم والثقافة، وغير ذلك من الصفات الأخرى التي تلاحق السوريين النازحين داخل سورية، والسوريين اللاجئين خارج سورية، بدءاً من عام 2011 إلى اليوم.
كان التفوق الدراسي أو المهني أو الاقتصادي حامياً من مشاعر النقص التي تتولّد بالضرورة من جراء تلك الصفات وذلك التنميط، لكن أغلبية أهالي الجولان شعروا عموماً بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال. ربما أصلاً لا يوجد مواطن سوري درجة أولى، كلنا أبناء درجة عاشرة، وهذه حقيقة لو وعاها السوريون لوفروا على أنفسهم مشاعر الكراهية وبث مظلومياتهم في وجوه بعضهم بعضاً أو على الأقل الاقتناع بأننا جميعنا أبناء مظلوميات بطريقة أو أخرى، من دون التقليل من أهمية أو أحقية أي مظلومية.
درستُ المرحلة الإعدادية والثانوية في مدرسة كان اسمها “مدرسة تلّ الفَخَار للنازحين” في منطقة باب توما. لا أدري أي حكمة تكمن وراء وضع صفة “النازحين” في اسم المدرسة، وفي كل ما يتعلق بأبناء الجولان المحتل. هذه وحدها كفيلة بأن تنمّي شعوراً بالنقص تجاه الآخر أو شعوراً بنقص الاعتبار الذاتي أو شعوراً بالغربة عن المجتمع أو تربي عند الآخرين ممن لا ينتمون إلى مجتمع النازحين شعوراً بالاستعلاء أو الاحتقار تجاههم.
من ناحية أخرى، كيف يمكن أن يجتمع “النزوح” و”الفَخَار” في اسم واحد؟! وهل يمكن أن يكون النزوح مفخرة لأي شعب أو بلد؟! النزوح هزيمة وعار لكلِّ مواطن سوري، وليس لأهل الجولان وحدهم. الدولة الوطنية هكذا تتعامل مع النزوح، وهكذا تعمل في مناهج تعليمها وبرامجها ووسائل إعلامها، فلا تترك النزوح عاراً مرتبطاً بالنازحين وحدهم.
اليوم، تحوّل ما يزيد على نصف سكان سورية على الأقل إلى نازحين ولاجئين يعانون في أماكن نزوحهم أو لجوئهم، بدرجات متفاوتة، التمييز والتنميط، ويتعرضون لما تعرض له أهالي الجولان بعد نزوحهم. كان النازح الجولاني في سورية يخاف أحياناً أن يذكر “هويته”، تماماً كما يفعل بعض اللاجئين السوريين اليوم في بلاد اللجوء، لئلا يتعرض لآثار التنميط والتمييز.
جمعية لـ “تحرير” الجولان؟!
حاول كثيرون من أبناء الجولان المحتل أن يؤسِّسوا تنظيمات أو جمعيات مدنية تُعنى بالجولان وأهله وتراثه ومستقبله، لكن السلطة السورية واجهت هذه المحاولات بالرفض، وأحياناً بملاحقة أصحابها، واحتكرت كل ما يتعلق بقضية الجولان، وتحكّمت في طرائق التعبير عنها. صحيح أن هذا يندرج في إطار منعها لأي تنظيمات أو تجمعات مدنية مستقلة، لكن كانت لقضية الجولان خصوصية جعلتها صارمة في منع أي حراك بشأنها من أي نوع ومستوى.
كانت مفارقة أن يدعم النظام السوري “حزب الله” في لبنان، و”حركة حماس” في فلسطين في مواجهة “إسرائيل” فيما يمنع تشكيل مقاومة جولانية مثلاً، حتى لو كانت سلمية أو ذات طابع ثقافي أو فني، تحت ذرائع مختلفة كان موالوه يضعونها دائماً في باب الحكمة السياسية. دعم النظام السوري حزباً مسلحاً في لبنان، أصبح تدريجاً العامل الرئيس في عدم استقرار لبنان وعدم بناء الدولة اللبنانية، وهذا هو سبب تخوفه من بناء حركة مقاومة جولانية يمكن أن تخرج على سيطرته، وتتحوّل إلى عنصر إزعاج وتهديد. كانت مسألة استقرار حكم النظام الهاجس الأكبر.
في الحصيلة منع النظام تشكيل وتبلور قضية جولانية على شاكلة القضية الفلسطينية، على الأقل على المستوى الشعبي الوجداني، وظلت قضية الجولان عرضة لتجهيل متعمّد، فلا يعرف السوريون، والعرب أيضاً، عنها شيئاً سوى أنها محتلة، بل إن بعض السوريين يعتقد أنها حُرِّرت في عام 1973 بعد حرب تشرين/ أكتوبر 1973، وبعضهم الآخر يعتقد أن الجولان هو فحسب القرى الخمس التي ما زال أهلها تحت الاحتلال.
“التوازن الاستراتيجي”!
كانت مسألة التوازن الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي أحد مرتكزات السياسة الخارجية للنظام السوري، على المستوى الإعلامي بصورة رئيسة، مثل سائر المرتكزات الأخرى؛ القومية العربية، قضية فلسطين، وحدة المسارين السوري واللبناني، محاربة الإمبريالية… إلخ. لكن هذه السياسة تمخضت عن تضخم الجانب العسكري والأمني بطريقة بدائية وفوضوية وغير مهنية، وإلى التهام الدولة والمجتمع، وعسكرة الحياة السياسية، وأدى ذلك إلى منع الحريات والسطو على الحقوق واعتقال المعارضين في الداخل السوري، وإلى الهزيمة على المستوى الخارجي أمام “إسرائيل” في كل المعارك التي حصلت بعد عام 1973، بل وعن ضمان حدود “إسرائيل” مع سورية مدة نصف قرن.
الأسوأ من هذا حصل بعد عام 2011، عندما اكتشف السوريون أن جيشهم كان يُبنى عقائدياً وعسكرياً لقمعهم وقتلهم وليس من أجل استعادة الجولان، علاوةً على ضمور الروح الوطنية فيه، وتحكم الجانب الطائفي في أدائه وسلوكه.
كانت السلطة السورية تقول إنها لن تعيد إعمار مدينة القنيطرة بعد عودتها إلى سورية في عام 1974، حتى انسحاب إسرائيل الكامل إلى حدود 4 حزيران/ يونيو 1967، لكن كثيراً من السوريين كانوا يقولون إن السبب في عدم بناء المدينة هو أن النظام أبقى هذا الدمار وسيلة لتحصيل المال من دول الخليج وغيرها، فيما كان النازحون يعيشون أحوالا ًقاسية، ما يدلّ على عدم القناعة بسياسات السلطة، والقطيعة مع خطابها. لكن السلطات السورية عادت وبنت مدينة صغيرة في ضواحي القنيطرة، وأطلقت عليها اسم “مدينة البعث”.
“بيع الجولان”؟!
بعد الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، وخلال مدة قصيرة، سيطرت الشعبوية على الأداء العام، وهنا كنا أمام سياسيين ومثقفين معارضين تنكروا لوعيهم، وانحدروا في خطابهم وأدائهم أو أمام “نخب” جديدة لا تمتلك مؤهلات ثقافية وسياسية كافية لأداء دور عام عقلاني على صعيدي الخطاب والممارسة، خصوصاً من الشخصيات التي أمضت ردحاً طويلاً من الزمن في كنف النظام السوري تصفِّق له وتبارك رؤيته ومواقفه أو من الشخصيات الإسلامية التي كانت تنظر إلى النظام السوري من زاوية طائفية فحسب، وكان من السهل على هذه الشخصيات الانتقال من ضفة إلى أخرى، من التقديس إلى التدنيس أو العكس. المهم أن هذه “النخب”، القديمة والجديدة، اندرجت في إطار عملية تنافس على تصفيق السوريين، ولم يكن هناك مانع لدى معظمها من تقديم رؤى شعبوية سطحية تجاه ما حصل في الماضي أو الحاضر في مقابل مزيد من تأييد الشارع لها.
وكانت قضية الجولان من بين القضايا التي تم تناولها بسطحية واختزال كريهين، على الرغم من أن الجولان وأهله كانا منسيّين تماماً، وجرى استحضاره من أجل إدانة النظام فحسب لا من أجل التفكير فيه، وفي ارتباطه بمستقبل سورية، بجدية. تعرضت قضية احتلال الجولان إلى تشويه، قصداً أو جهلاً، فاختُزلت هزيمة حزيران/ يونيو 1967 بعبارات شعبوية مضمونها الرئيس أن حافظ الأسد قد باع الجولان، وأن هناك خيانةً قد حصلت، بحكم كونه وزيراً للدفاع آنذاك.
هذه الرؤية السطحية تعفينا من المسؤولية، دولاً وشعوباً ونخباً ثقافية وسياسية، وتحصرها في أن ثمة خائناً قد “باع القضية” وقبض ثمنها. في الحقيقة، عندما نقرأ الهزيمة في اتساع نطاقها الجغرافي (مصر وسورية والأردن وفلسطين)، ومن حيث شمولها الفكر والسياسة والوعي العام، سنصل ببساطة إلى أن مقولة “حافظ الأسد باع الجولان” مقولة فارغة، وتأتي في سياق التحشيد لا التحليل أو القراءة الموضوعية، لكن هذه المقولة خطرة من حيث إنها تجعلنا نظن أن انتصارنا على “إسرائيل” كان أمراً محسوماً لولا الخيانة، وأن هزيمة “إسرائيل” مسألة بسيطة وفي اليد، ولا تحتاج إلّا إلى قادة مخلصين، مع أن هزيمة 1967 كانت هزيمة شاملة على الصعد كافة، السياسية والثقافية والمجتمعية.
هذه الرؤية البسيطة لا تجعلنا ننظر، كنخب وشعوب، في أنفسنا، ونعترف بمسؤوليتنا عن الهزيمة، لأنها تضع أسبابها في سلّة أحد الأفراد فحسب. يقيناً إن الغوغائية لا تصنع وعياً ولا انتصاراً، نعم الأنظمة الحاكمة مسؤولة عن الهزيمة من حيث إمعانها في الاستبداد، وفي تنكرها لأهمية حقوق الإنسان والديمقراطية، وفي سطوها على الثروات الوطنية، وفي تقاعسها عن بناء جيوش وطنية حديثة واحترافية، لكن الهزائم الكبرى تجد جذورها أيضاً، وأساساً، في البنى المجتمعية السائدة، وفي الوعي السياسي للنخب الحاكمة والمعارضة على حدّ سواء. يمكننا أن نكون معارضين للنظام السوري، والأنظمة المستبدة جميعها، حتى النخاع، ويمكننا في الوقت نفسه أن نحافظ على عقولنا وعقول الناس؛ فالمعارضة إن لم تكن عاقلة لن تنتج نظاماً بديلاً، ولا مصلحة للسوريين في تغيير النظام من دون تغيير الخطاب والنهج والطريقة والأداء.
الجهل بالجولان
لا شك أن جهل السوريين ببعضهم بعضاً يكاد يكون قانوناً سائداً في الحياة السورية العامة طوال نصف قرن، فرضته السلطة الحاكمة بوسائل وآليات متنوعة؛ تخويف السوريين من بعضهم بعضاً، فرض أيديولوجيا البعث بصورة قسرية على المجتمع، وإعادة قولبة البشر ليتوافقوا معها، تصنيف السوريين وفق درجة ولائهم للسلطة، منع جميع أشكال العمل السياسي والمدني والنقابي، إعلام يركِّز على السلطة وتبجيلها ولا يعير اهتماماً للمناطق السورية وأهلها، اللعب على وتر الاختلافات القومية والمذهبية في بعض المحطات… إلخ. كل ذلك أدى شيوع النفاق تجاه السلطة في الظاهر، وإلى ازدياد التعصب للانتماءات الأولية في الباطن، ومن ثم الانعزال والتقوقع ضمنها.
لم يكن نادراً في جامعة دمشق أن يسألني بعض زملائي، من مدن وقرى سورية أخرى، في ما إذا كنت أسافر مثلهم كل أسبوع أو كل أسبوعين أو كل شهر إلى بلدتي في الجولان. كانت دعاية النظام عن تحريره مدينة القنيطرة والجولان مهيمنة عند قطاع واسع من السوريين، ولم يكن لديهم اطلاع أو معرفة بأوضاع الجولانيين في دمشق ودرعا والمدن السورية الأخرى. لكن في الحقيقة، كانت فكرة أن الآخرين يذهبون في العطل إلى “ضيعهم” مغرية جدّاً بالنسبة إليَّ.
سلَّطت السلطة السورية الضوء إعلاميّاً على خمس قرى ظل سكانها تحت الاحتلال ولم ينزحوا (قرية مجدل شمس والقرى المحيطة بها)، ويبلغ عدد سكانها نحو عشرين ألف نسمة، واختزلت الجولان بهذه القرى وأهلها، لكن هذا لم يكن محبة بأهل المجدل والقرى الأخرى، بل كان نوعاً من الاستثمار السياسي في مجال المفاوضات والعلاقات الإقليمية، وسياسة لإزعاج إسرائيل من جهة، أو ربما نوعاً من الاستثمار خارجياً في مسألة الدفاع عن “الأقليات” بسبب أقلويِّة الفئة الحاكمة من جهة ثانية.
لو أعطت السلطة اهتماماً ببقية أهل الجولان النازحين في المدن السورية الأخرى لكان اهتمامها بالجولانيين في القرى الخمس تحت الاحتلال مفهوماً ومقدَّراً، لكن هذا لم يحصل، بل على العكس كان بقية أهل الجولان، وعددهم اليوم نحو ثمانمئة ألف نسمة عرضة للإهمال من النواحي كافة. كانت نتيجة هذا الاختزال أن أصبح بعض السوريين يعتقد بأن الجولانيين هم سكان القرى الذين ما زالوا تحت الاحتلال فحسب، وأن قضية الجولان ليست أكثر من عودة هذه القرى الخمس إلى السيادة السورية.
في الحقيقة، لم يبدأ السوريون بالتعرف إلى بعضهم بعضاً إلا بعد آذار/ مارس 2011، وأصبح لديهم اطلاع معقول على المناطق السورية وسكانها، تعرفوا مثلا ًإلى وجود معاناة كردية طويلة الأمد، ومشكلة كردية تحتاج إلى التفكير في حلٍّ لها، وظهرت المحافظات والمدن المغيَّبة والمهملة إلى الواجهة، مثل الرقة ودير الزور والحسكة والقنيطرة وإدلب وغيرها، ولم تعد سورية مقصورة على دمشق وحلب واللاذقية كما كان سائداً.
أحاديث الأهل
يحدِّثنا أهالينا عن طبيعة العلاقات السائدة في بلداتهم قبل الاحتلال الإسرائيلي في عام 1967. يحدِّثوننا كيف أن بلدة مثل “كفر حارب” التي تقع على الحدود السورية الفلسطينية وتطلُّ مباشرة على بحيرة طبريا، قد انقسمت بين تيارين سياسيين، وكيف تعامل البعثيون مع الناصريين عندما استلموا السلطة في آذار/ مارس 1963، وكيف جرى تعبيد شوارع البعثيين فيما بقيت شوارع الناصريين على حالها، وكيف أن الأغاني في الأعراس آنذاك كانت تنقلب ببساطة إلى مناسبات للتنافس وإثبات الوجود السياسي، وأن التيارات السائدة كانت عروبية ويسارية فيما كانت التيارات الإسلامية غائبة أو غير موجودة.
بعد احتلال الجولان في حزيران/ يونيو 1967، والنزوح إلى دمشق ودرعا، ومجيء الأسد إلى السلطة في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، بدأت تنحسر تدريجاً مظاهر النشاط السياسي، ليصبح الارتماء في أحضان العائلة والعشيرة والطائفة هو القاعدة السائدة، مع تزايد أعداد الذاهبين باتجاه التديّن المنغلق أو باتجاه الانتظام في تيارات سياسية إسلامية متطرفة، وكان لافتاً للانتباه أن الأبناء والأحفاد أصبحوا أكثر انغلاقاً من الناحية الدينية، وأقل ارتباطاً بالحداثة والسياسة والشأن العام من آبائهم وأجدادهم عندما كانوا في قراهم بالجولان.
في عام 1991، مع بدء المفاوضات في مؤتمر السلام في مدريد، سادت موجة من التفاؤل العام عند الجولانيين، فتابع قسم كبير من كبار السن الذين عاشوا جزءاً من حياتهم في قراهم قبل احتلالها، المفاوضات وتصريحات المسؤولين الأجانب والعرب والسوريين باهتمام شديد، ورسموا في ضوئها سيناريوهات ومراحل زمنية لعودتهم إلى قراهم، إلى درجة أنهم بدؤوا يتخيلون ماذا سيفعلون عند عودتهم إليها، وكانت تخيلاتهم للمستقبل مبنيةً على حكايا يعرفونها، وكانوا في سهراتهم العامة، في بعض اللحظات، ينفجرون ضحكاً عندما يستذكرون ذكرياتهم وقصصهم القديمة.
كان جدي متابعاً نهماً للأخبار، وكان الراديو خلال عقد التسعينيات لا يفارقه. لكنه لم يكن يتابع القنوات العربية، وكان يصفها بالكاذبة. كان يستمع إلى مونتيكارلو والبي بي سي، وحتى “إسرائيل”، ويرى أنها أقل كذباً. في سنواته الأخيرة أصيب بمرض “الداء الرئوي الانسدادي المزمن” بسبب الزمن الطويل الذي أمضاه مدخناً. دخل المشفى حيث كنت أعمل، ولازمته طوال تلك المدة. كنت أقرأ له بعض الصحف، يبتسم أحياناً، ويكتئب في أكثر الأحيان. في إحدى فترات الراحة من جهاز التنفس الاصطناعي كان يتأمل حزيناً فسألته إن كان يحتاج إلى أي شيء أو ينقصه أي شيء، فأجابني: يا جدي والله لا ينقصني شيء سوى أنني كنت أرغب في رؤية كفر حارب “بلدته” قبل الموت. كان أهلنا، وما زالوا، متعلِّقين بشدة ببلداتهم، يستذكرونها دائماً، ويقولون إنها أحلى البلاد، ويكتبون عنها قصصاً وشعراً.
التغريبة الجولانية
بعد ظهور علامات انكسار الثورة السورية أو ارتباك مساراتها، بدأت مشاعر التضامن بين السوريين تضعف أو تخفّ تدريجاً، لتحلّ بدلاً منها عناصر التنافس والتباعد والتنافر، لتبدأ جراحهم الماضية بالانفتاح على مصراعيها، وليبثّوا مظلومياتهم بطرائق غير صحيحة، فيها نوع من التسابق على الدرجة الأولى في التعرض للمظلومية على يد السلطة الحاكمة ونظام البعث، ولا مشكلة في هذا البوح لو أنه حدث في سياق التعاضد، وبناءً على قاعدة أن جميع السوريين تعرضوا للظلم، وأن مشكلة أي سوري هي مشكلة جميع السوريين، ما يعني أنه ينبغي لنا التفكير في حلول وطنية لكل مشكلاتنا ومظلومياتنا لا في حلول جزئية أو فئوية تزيد الطين بلة، وتعود على الجميع بمزيد من تعميق مشكلاتنا.
منذ احتلال الجولان في حزيران/ يونيو 1967 وإلى اليوم، ونحن في حاجة إلى تسليط الضوء على ما يمكن تسميته “التغريبة الجولانية”، بما يجعل منه فعلاً قضية وطنية سورية، قضية يعرفها ويهتم بها السوريون كلهم، مثل جميع القضايا الأخرى المطروحة عليهم، لكن التعتيم الإعلامي السلطوي، وتجهيل السوريين بالجولان وأهله، ومنع مبادرات أهل الجولان الثقافية والفنية والإعلامية في هذا الشأن، علاوة على منع القوى السياسية من تناول قضية الجولان خارج خطاب السلطة وطرائقها في الاستثمار السياسي، قد ساهم في تحويلها إلى قضية مائعة وهلامية أو مجهولة أو هامشية أو حولها لغط كبير.
كان الجولان غائباً عن الحياة العامة في سورية طوال العام، لكنه كان يحضر زائراً، في ذكرى يوم استقلال سورية، في 17 نيسان/ أبريل من كل عام، في المدارس الثانوية التابعة لمحافظة القنيطرة “مدارس النازحين”، وفي بعض المدارس الأخرى التابعة لمحافظة السويداء، على هيئة مهرجان خطابي تقليدي أو رحلات إلى جزء الجولان الواقع تحت السيادة السورية أو على هيئة احتفال في الجهتين المتقابلتين عند خطّ الهدنة الذي يفصل بين سكان الجولان تحت الاحتلال وسكان الجانب السوري، وتستعمل فيه مكبرات الصوت للتخاطب بين الجهتين.
تحوّل هذا المهرجان/ الاحتفال إلى تقليد خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لكن هذه الظواهر الاحتفالية، في ظل عدم وجود ما يسندها على أرض الواقع أو في ظل اقتصارها على الفعل الخطابي، تتحول، مع الزمن، إما إلى حالة استعراضية منفِّرة أو إلى طقس احتفالي لا علاقة له بالمناسبة الأساس.
تقع هضبة الجولان بين نهر اليرموك جنوباً وجبل الشيخ شمالاً، وتطلّ غرباً على بحيرة طبريا ومرج الحولة في الجليل، أما شرقاً فيُشكّل وادي الرقاد الممتد من الشمال باتجاه الجنوب حتى مصبّه في نهر اليرموك حدّاً فاصلاً بين الجولان وسهول حوران وريف دمشق. تبعد الهضبة 60 كم إلى الغرب من مدينة دمشق. وتُقدّر المساحة الإجمالية لها بـ 1860 كم2، أي ما يعادل 1 في المئة من مساحة سورية، وتمتد الهضبة على مسافة 74 كم من الشمال إلى الجنوب دون أن يتجاوز أقصى عرض لها 27 كم.
في عام 1967 احتلت إسرائيل 1260 كم2 من مساحة الهضبة بما في ذلك مدينة القنيطرة، لكن في عام 1974 أعادت إسرائيل إلى سورية مساحة 60 كم2 من الجولان تضم مدينة القنيطرة وجوارها وقرية الرفيد في إطار اتفاقية فك الاشتباك. نزح سكان الجولان من قراهم ومدنهم في إثر الاحتلال إلى داخل الأراضي السورية، وكان عدد قرى الجولان قبل الاحتلال 164 قرية و146 مزرعة. أما عدد القرى التي وقعت تحت الاحتلال فيبلغ 137 قرية و112 مزرعة. وبلغ عدد القرى التي بقيت بسكانها 6 قرى: مجدل شمس ومسعدة وبقعاتا وعين قنية والغجر وسحيتا (رُحّل سكان سحيتا في ما بعد إلى قرية مسعدة لتبقى 5 قرى).
كان عدد سكان الجولان قبل حرب حزيران/ يونيو 1967 نحو 154 ألف نسمة، هُجِّر أكثر من 131 ألف نسمة منهم، ودُمّرت قراهم، ويبلغ عددهم حالياً نحو 800 ألف نسمة يعيشون في دمشق وضواحيها ودرعا، وظلَّ 8 آلاف سوري في القرى الخمس الباقية تحت الاحتلال، ويبلغ عددهم حالياً نحو 20 ألف نسمة.
نزح أهل الجولان باتجاه دمشق ودرعا بصورة رئيسة، وهم لا يملكون شيئًا، وسكنوا طوال عقود في مناطق عشوائية (الحجر الأسود، الدحاديل، نهر عيشة، بوابة الميدان، جديدة الفضل، الطبالة والدويلعة، السيدة زينب… إلخ)، وهم من أصول متنوعة بيئياً واجتماعياً (مدنية وفلاحية وبدوية) ومتعدِّدة إثنيّاً وقومياً (عرب، تركمان، شركس)؛ الجولان هو سورية مصغرة، يحتوي جميع الطوائف والإثنيات الموجودة في سورية. لم يتلقَّ النازحون أي دعم حقيقي، وعانوا الفقر ومرارة الحياة وقسوتها، فضلاً عن غيابهم عن قراهم وبلداتهم، واستجلبت السلطة باسمهم الأموال من دول عدة، ومن الأمم المتحدة، لكن من دون أن ينعكس ذلك على حياة أهل الجولان، بل إنهم تعرضوا لتمييز طبقي مقيت.
لا تزال قضية النازحين السوريين وتغريبتهم منسيّة، وعلى الرغم من مضي نحو نصف قرن على احتلال الجولان، إلّا أنه ما زال حلم كثير من الأجيال الجديدة التي ولدت وكبرت في تلك التجمعات المكتظة الهامشية. طوال خمسة عقود، كان هناك غياب كلي لقضية النزوح والتهجير القسري من الجولان في وسائل الإعلام العربية عموماً، والسورية على وجه التحديد، مثلا ًعلى المستوى الفني لا وجود لأفلام أو مسلسلات تناولت قضية الجولان والنازحين إلا بصورة هامشية جداً.
يُلاحظ أيضاً سعي الإعلام عموماً لتناول سكان الجولان على أسس إثنية وطائفية بدلاً من انتمائهم الوطني كأن يُقال “دروز الجولان” أو “علويّو الجولان” أو “تركمان الجولان” أو “الجولانيون من العرب السنة”… إلخ، ما خلق تدريجاً انطباعاً بأننا نتحدث عن جماعات مستقلة عن سورية. وأحيانا ًساهم الإعلام، السوري والعربي والأجنبي، في إعطاء انطباع عام بأن جميع أهل الجولان هم من العرب الدروز، بينما هم يشكلون نسبة لا تزيد على 3 في المئة، بهدف تناسي أن للجولان أيضاً سكاناً طُردوا من بيوتهم، ونزحوا إلى دمشق ودرعا، وقد تعرضوا بعد انطلاق الثورة في آذار/ مارس 2011 لأضعاف مضاعفة من التنكيل والتشريد والقتل على يد السلطة الحاكمة قياساً بما لاقوه من عدوهم إسرائيل.
في 14 كانون الأول/ ديسمبر 1981 قرر الكنيست الإسرائيلي ضم الجزء المحتل من الجولان الواقع غربي خط الهدنة 1974 إلى إسرائيل بشكل منفرد، وبما يتعارض مع القرارات الدولية، وبدأت السلطات الإسرائيلية تتعامل مع الجولان كأنه جزءٌ من شمال إسرائيل. في 14 شباط/ فبراير 1982، قام السوريّون في الجولان المحتل ضمن القرى الباقية تحت الاحتلال، بإضراب عام وشامل، ورفعوا شعار (المنية ولا الهوية) رافضين (الهوية الإسرائيلية) وقرار الضم الجائر.
الجولان والثورة السورية
مع انطلاق الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، لم أكن متفائلاً بمستقبلها على طول الخط، حتى في مرحلة أوجها وسموّها، على الرغم من فرحي بها، والتزامي توجهاتها الأولى، إلى درجة أن بعضهم أطلق عليَّ اسم “بومة المعارضة”. كان السبب الرئيس للتشاؤم هو الجولان؛ لم تلمع في رأسي إلا صورة الجولان وتأثيرها في كل حدث يمكن أن تمرّ به سورية، حتى لو كان الجولان غائباً عن المشهد الإعلامي. كان رأيي باختصار: الجولان هو الغائب الحاضر، وهو الذي سيحدِّد مصير أو مسار الثورة السورية بمعنى ما في الحصيلة، وربما ندفع فاتورة صمتنا عن مأساة الجولان طوال نصف قرن من رصيد الثورة السورية.
في أوائل عام 2016 ظهرت فكرة بناء مركز دراسات سوري يهتمّ بالبحث في القضية السورية من جوانبها المختلفة، وكُلِّفت بتأسيسه وإدارته، فاخترت له اسم “حرمون”، وهو اسم آخر لـ “جبل الشيخ” الواقع في شمال هضبة الجولان، ويطلّ على الجولان وشمال فلسطين والأردن، وعلى جنوب لبنان، وعلى ودمشق، وكان الاسم مستهجنًا في أوساط المعارضة السورية التي كانت شأنها شأن النظام السوري من زاوية عدم الاهتمام بقضية الجولان أرضاً وسكاناً، لكنها تزيد عليه في غياب إدراكها لعلاقته الوثيقة بالمعادلات الاستراتيجية التي تحكم الوضع السوري ومسار الثورة السورية.
كانت أول ندوة أُنظِّمها في المركز بعنوان “الجولان المنسي” بمناسبة مرور مئة عام على وعد بلفور الذي كان مقدمة للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، ودعوت إليها عدداً من السياسيين والمثقفين السوريين والفلسطينيين واللبنانيين، فضلاً عن دعوة عدد من الناشطين والمناضلين الجولانيين من مجدل شمس، وقد لاقت الندوة اعتراضات كثيرة من العديد من “المعارضين” و”الثوريين” السوريين الذين كانوا “مستنفرين” لإسقاط النظام السوري، ولا يريدون أي قضية أخرى تشوِّش عليهم بحسب زعمهم، وفي ما يأتي بعض ما كتبته آنذاك في سياق الردّ على تلك الانتقادات، وفي سياق تناول خطاب المعارضات السورية ومواقفها وأدائها:
لا شك أن الجولان حاضرٌ في صلب الموقف الأميركي الإسرائيلي من النظام السوري والثورة السورية، ومن ثم لا بدّ من قراءة هذا الموقف بتمعن، وتحليل أسبابه وآثاره جيداً، لوضع تصور إلى مستقبل سورية في ظل تحليل مهم وصحيح أغفلته المعارضة السورية؛ التحليل الذي يقول إن من مصلحة أميركا وإسرائيل استمرار الصراع في سورية، وإن أميركا لن تتدخل لمصلحة الثورة السورية والشعب السوري، وإن الوضع السوري متروك للتفسخ والتشظي.
تشير مقولة “ليس وقتها” المستخدمة ضدّ أي عمل يهدف إلى إبراز قضية الجولان إلى عدم إدراك كنه السياسات الإقليمية والدولية، فعاجلا ًأم آجلا ًسيكون نقاش وضع الجولان ومستقبل أهله على مائدة النقاش بالتزامن مع أي مبادرة حقيقية لحلّ الصراع في سورية، هذا إن لم يكن موضوع الجولان مطروحاً في الغرف المغلقة، خصوصاً من النظام السوري، خلال السنوات الماضية؛ فمن يعتقد أن الصمت عن موضوع الجولان وحقوق أهله ومعاناتهم أفضل كي لا نستنفر أو نستفز إسرائيل ضدنا واهمٌ، ويتعامل مع إسرائيل وكأنها طفل صغير يمكن خداعه، وهي ليست كذلك بشكل أكيد. من جانب آخر، ستكون إسرائيل ضدنا دائماً وأبداً، وعلى طول الخط، وهي حاضرة في خلفية المشهد منذ اليوم الأول للثورة السورية، على الرغم من ظهورها بمظهر المراقب خلال السنوات الخمس الأولى بعد عام 2011.
في هذا السياق أيضاً، لا بدّ من استنكار تفكير “الجكارة” عند بعض المعارضين السوريين الذين، بحكم اشمئزازهم من النظام السوري وخطابه الإعلامي السياسي (وهذا صحيح)، أصبحوا ينتحلون خطاباً سياسياً عصابياً يتنكر لقضية الجولان ولمسألة الاحتلال، بل وصلت الوقاحة والسذاجة في آن معاً لدى عدد محدود منهم بالطبع إلى الاعتقاد أنهم يمكن أن يحصلوا على مرادهم بإسقاط النظام السوري عبر تقديم أوراق اعتمادهم لدى إسرائيل.
إذا كانت الثورة السورية تطرح نفسها بديلا ًللنظام السوري فيفترض بها الاهتمام بجميع القضايا التي انخرط فيها النظام السوري على مدى نصف قرن، ومنها قضية الجولان؛ فأحد أهم عوامل بقاء النظام السوري هو سياسته الخارجية التي بناها عبر نصف قرن، والتي حولته إلى نظام أخطبوطي يبيع ويشتري مع الجميع وضد الجميع، ومن ثمّ من المهم السعي لنزع أوراق “قوته” بوسائل وأدوات سياسية. الندوة أيضاً محاولة لتشريح خطاب “الممانعة والمقاومة” الدارج، وفضح متاجرته بقضيتي الجولان وفلسطين، فمن يريد أن يسقط النظام السوري عليه أن يسقط خطابه وثقافته وممارساته أيضاً، وعليه السعي لبناء خطاب سياسي وطني جديد وممارسة سياسية وطنية مغايرة.
كان على المعارضة السورية أن تحاول الدفع في اتجاه إعادة بناء القضية الوطنية السورية، وإظهار التلازم الضروري بين تحرير الأرض وتحرير الإنسان، وتأكيد أنه من دون حرية المواطن وكرامته لا يمكن استرجاع شبر واحد من الأرض المحتلة، وهذه الرؤية في صلب توجهات الثورة السورية عندما انطلقت. بمعنى آخر، إن بناء سورية الجديدة والدولة السورية الجديدة يستلزمان إعادة بناء جميع قضايانا على أسس صحيحة، ومنها قضية الجولان، وهذه هي طريقة رجال الدولة في التفكير بعيداً من الانفعالات والغوغائيات؛ فالمعارضة لم تفعل شيئاً ولم تقدم أي رؤية حول مجموعة من القضايا المهمة، خصوصاً تلك التي تتعلق بالسياسة الخارجية المستقبلية: قضية الجولان، العلاقات السورية اللبنانية المستقبلية… إلخ.
لا يعرف المنتقدون لأي عمل يتعلّق بالجولان أن موقف أكثرية أهل الجولان الذين ما زالوا في قراهم الخمس تحت الاحتلال الإسرائيلي (نحو 20 ألف مواطن سوري) من الثورة السورية هو موقف إيجابي، وأنهم خرجوا في تظاهرات مؤيدة للثورة وضد الاحتلال الإسرائيلي في الوقت نفسه، ولو كان لدينا معارضة تتقن السياسة حقاً، وقنوات فضائية عربية تهتم حقاً لأمر سورية، لسلطوا الضوء على مشاركة هؤلاء في الثورة السورية واحتفوا بهم.
بعض الانتقادات كانت تدلِّل على عدم معرفة/ أو جهل أصحابها بالجولان وأهله: يعتقد هؤلاء أن قضية الجولان تختزل في أوضاع 20 ألف مواطن سوري تحت الاحتلال الإسرائيلي، ولا يعرفون، كما ذكرت سابقاً، أن عدد سكان الجولان اليوم نحو 800 ألف مواطن سوري، كانوا يقيمون في دمشق وأريافها: الحجر الأسود، جديدة الفضل، خان الشيح، الست زينب، الطبالة، مخيم درعا للنازحين…. إلخ، وهؤلاء تعرضوا خلال نصف قرن للإهمال والفقر والعيش في بيوت الصفيح، فضلاً عن فقدان بيوتهم وأملاكهم في الجولان؛ والأنكى أنهم تعرضوا -منذ انطلاق الثورة السورية وإلى اليوم- للاعتقال والتعذيب والقتل والتشريد أضعافاً مضاعفة، ومن حقهم علينا التوقف عند تضحياتهم ودورهم في الثورة السورية.
كان متوقعاً ألّا تثمر رؤية المعارضات السورية ونشاطها عن شيء مهم ومؤثر على المستويات كافة، والغريب أنها استمرّت طوال ما يزيد على عشر سنوات تحرث الحرث ذاته، وبالطريقة نفسها، ولم تنبت بين يديها شتلة واحدة، ولا تزال شخصياتها غير مقتنعة بعد بأنها في حاجة إلى إعادة النظر في خطابها ورؤيتها وأدائها، وإلى القراءة والتفكير، وإلى إعادة تأهيل مترافقة بكثير من التواضع.
الجولان والقضية الفلسطينية
عندما يشتد بؤس الواقع ومرارته، يندفع الضحايا ليأكلوا لحم ضحايا آخرين، وليصطنعوا معارك وهمية تكون نتيجتها خسارة الضحايا لبعضهم بعضاً، ولقضاياهم العادلة كلها. من الأمثلة على ذلك ردة فعل بعض سوريي الثورة السورية تجاه القضية الفلسطينية والفلسطينيين، إذ بنوا مواقفهم استناداً إلى منطق ردة الفعل أو “الجكارة” أو النظر بزاوية واحدة، فبحكم أن نظام الاستبداد والقتل قد تاجر كثيراً بالقضية، وغطى عوراته بها، ذهب بعضنا في اتجاه رمي القضية الفلسطينية وراء الظهر أو على الأقل استنكار تعاطف بعضنا مع المأساة الفلسطينية، أو ربما الدخول في مفاضلة بين قضايا المنطقة أو الذهاب باتجاه الاستهانة بوحشية إسرائيل مقارنة بوحشية النظام السوري، وهذه كلها مواقف ورؤى سطحية وانفعالية خاطئة.
نحن السوريين نستنكر عدم تعاطف كثير من العرب مع القضية السورية أو مع مأساتنا السورية، فلا يجوز أن نكون في موقع غير المتعاطف مع القضية الفلسطينية والفلسطينيين مهما كانت قساوة الواقع الذي نعيشه. بدلاً من رمي القضية الفلسطينية والتنكر لها، يُفترض بنا إعادة بناء وعينها لها، ووضعها في الإطار الصحيح، بما يُبعدنا عن المتاجرة بها أو التغطية على القضايا الأخرى الملحّة، وهو أيضاً عمل مطلوب منا أيضاً تجاه القضية السورية ذاتها، خاصة بعد متاجرة كثير من الدول بها كما حصل تماماً مع القضية الفلسطينية. وهنا أقول ينبغي لنا تثبيت النقاط الآتية في السياق هذا:
1- الفلسطينيون المقيمون في سورية هم سوريون، ولا أحد يستطيع نزع هذه الصفة عنهم، وما يصدق على أي شريحة سورية، إيجاباً أو سلباً، يصدق عليهم، وهذه ليست منة أو فضيلة من أحد، بل هي إحدى حقائق الواقع والتاريخ.
2- إن القضية المركزية بالنسبة إلينا كسوريين هي الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ أي بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة على أنقاض نظام الاستبداد والقتل، ولا نستطيع -اليوم- أن نقدِّم لفلسطين وأهلها أكثر من التضامن والتعاطف على المستوى الشعبي، والتشارك في الأعمال الثقافية والسياسية والإنسانية التي تفيد السوريين والفلسطينيين معاً.
3- في اعتقادي إن القضية المركزية اليوم بالنسبة إلى الفلسطينيين هي إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بصورة ديمقراطية (أو ما يشبهها)، وتجاوز المنظمات الجهادية و”المقاومة”، والقوى “اليسارية” و”القومية” الفلسطينية السائدة؛ فهي لم تقدم ما يفيد القضية الفلسطينية، فضلاً عن وعيها المفوَّت والأيديولوجي المعيق، وتجاوز القيادة الفلسطينية الحالية ووعيها، لأنها أقل كثيرا ًمن متطلبات النضال الفلسطيني، ما يجعل قضيتهم المركزية فعلاً هي إعادة بناء “الوطنية الفلسطينية” على أسس ديمقراطية وحديثة، بالتزامن مع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي سياسياً وثقافياً وفنياً، وإعادة بناء منظور ديمقراطي وحديث مغاير لفكرة “المقاومة” بمعناها السائد.
4- يُفترض ألّا تدفعنا الآلام التي عايشناها من الاحتلالات في سورية، خصوصا الاحتلالين الإيراني والروسي، للتقليل من بشاعة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ويفترض أيضاً ألّا ننسى وجود أرض سورية محتلة (الجولان) من إسرائيل نفسها، ما يضعنا، شئنا أم أبينا، في سياق عمل مشترك مع الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي، على أن هذا الأمر يحتاج إلى إنجاز الأولويات سابقة الذكر بالنسبة إلى السوريين والفلسطينيين معاً.
هل توجد هوية جولانية؟
عندما نتحدث عن الجولان بصورة عامة، فإننا نتحدث عن وحدة جغرافية سكانية وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي، لكن يصعب القول إن هناك ثقافةً جولانيةً مشتركةً بين سكانه؛ فهم متنوعون بصورة شديدة، وهذا أمر طبيعي بالطبع في أي منطقة، وربما كانت مسألة الاحتلال والنزوح هي ما تجمعهم. مع هذه الحال يصبح التنوع بلا معنى أو قيمة أو ربما يكون مصدراً للفرقة والانقسام والتنابذ، خصوصاً أن هذا التنوع يرتكز على الانتماءات الدينية والطائفية والإثنية والعشائرية؛ فالتنوع يكون مصدر غنىً وثراء في ظل وجود المشتركات أو العناصر الجامعة. الجولان في هذه الحالة يشبه سورية كلها؛ لم تُخلق هوية وطنية سورية في مرحلة ما بعد الاستقلال، ولا ثقافة سورية عامة، ولذلك كان التنوع المرتكز على الانتماءات الأولية مصدراً للشقاق والخلاف، خلال مرحلة ما بعد عام 2011.
يوجد في الجولان بشر من الأديان كلها، من الإسلام والمسيحية، ومن الطوائف كافة، من السنة والشيعة والعلويين والدروز وغيرهم، ومن القوميات جميعها، من العرب والكرد والتركمان والشركس، وعشائر ممتدة لها جذور أو فروع في الجزيرة العربية والعراق، وهناك فلاحون وبدو وأبناء مدينة. لا يمكن الحديث عن هوية جولانية أو هوية جولانية سورية في ظلِّ استمرار تحكم الانتماءات الأولية وغياب المشتركات الواعية.
لا تكفي الجغرافيا، ولا تكفي قضية الاحتلال أيضاً، لتشكيل هوية ثقافية ديمقراطية تؤمن بالمشتركات والتنوع في آن معاً. تكاد كلمة “نازح” أن تكون الكلمة الوحيدة التي تربط بين أهالي الجولان.
يحتاج الجولان إلى نخبة ثقافية سياسية من أبنائه وبناته، عابرة للقوميات والأديان والطوائف والعشائر، تساهم في بناء هوية جولانية تشتق وجودها من الهوية الوطنية السورية، أي بناء ثقافة جولانية ديمقراطية وحديثة مفتوحة على المستقبل وغير غارقة في الماضي، وهي ذاتها حاجة سورية كلها. ولعل من أولى مهمات هذه النخبة أن تجعل من مسألة احتلال الجولان قضية سورية تهمّ جميع السوريين وليس أبناء الجولان فحسب.
بين دمشق والجولان
وُلِدتُ ودرست وعشت في دمشق. حياتي وذاكرتي مرتبطتان بدمشق. لم أعرف الجولان، ولم أتنفس هواءه، ولا لعبت في حواريه، ولا درست في مدارسه، وشبكة علاقاتي الاجتماعية ممتدة إلى جميع أنحاء سورية. ما دامت الحالة هكذا، فهل القول “إني أكثر ارتباطاً بدمشق من الجولان على المستوى الروحي” فيه شكلٌ من التجاوز أو التنكر للجولان؟
أنا أشعر بالانتماء إلى دمشق أكثر من الجولان، وليس في هذا أي مشكلة، بل هو أمر طبيعي، لكن في الحصيلة أنا أنتمي إلى سورية كلها. تعلَّقت بدمشق، وبسورية كلها، وسيكون لأبنائي الحق، كل الحق بأني يحبوا أي شيء من دون إرغام أو إقحام، خاصة أن مدة حياتهم خارج سورية أطول من المدة التي عاشوها فيها.
ماذا يمثِّل الجولان بالنسبة إليَّ إذاً وأنا أحد النازحين من أبنائه الذين وُلدوا بعيداً عنه؟ الجولان أرض سورية يحتلها عدو اسمه إسرائيل، وحق سوري عام سلبه هذا العدو، وحق شخصي لي ولأهلي ولأبنائي ولأبناء أبنائي، ولأهل الجولان كلهم، وللسوريين جميعهم، وهذا الحق لا يسقط بالتقادم، وينبغي لي أن أساند أيَّ خطوة تهدف إلى استعادة الجولان بالوسائل المشروعة كافة التي أقرتها الإنسانية في تاريخها ومواثيقها.
هذا مهمٌ بالنسبة إلى السوريين اللاجئين اليوم الذين يطرحون على أنفسهم أسئلة من هذا النوع يومياً؛ هل ننسى سورية؟ هل نربي أولادنا على الانتماء إلى أماكن وجودهم الحالية خارج سورية؟ ماذا لو طال أمد الصراع السوري أكثر؟ الانتماء مسألة معقدة، وفيها الكثير من العاطفة والتجربة الشخصية، ومن المهم أن تُتاح له الحرية الكاملة لينمو ويتبلور، لكن تبقى مسألة الحقوق التي لا ينبغي لنا نسيانها أو إدارة الظهر لها.
جولان الصغير
يحتار الأهل دائماً في اختيار أسماء مواليدهم. جاءنا مولودنا الثالث، آخر العنقود، في عام 2017، ونحن خارج سورية قسراً. اخترنا له قبل ولادته أسماء عديدة، لكن عند ولادته جاء اسمه معه كما يقولون. فجأة برز اسم “جولان” في ساحة الاختيار. أصرّت زوجتي وولداي على اسم “جولان” بدعم من صديقة وقريبة من العائلة.
رفضت في البداية استناداً إلى عدم رغبتي في تحميل الأبناء قضايا أو أسماء كبيرة يصبحون أسرى لها، وإلى قناعتي بأن خدمة القضايا الكبيرة لا تكون بالأسماء والشعارات أو في الأحرى لاشمئزازي من اللافتات والشعارات والأسماء الكبيرة، لكنني رضخت أخيراً نزولاً عند رغبتهم.
بعد ولادته، وارتباطه بالاسم أو ارتباط الاسم به، تحولت مشاعري إلى عشق تجاه الاسم.
في إجازة عائلية، عند شاطئ بحيرة قريبة من مدينة بوردو الفرنسية، كان جولان، وعمره آنذاك سنتان، يركض بعيداً وزوجتي تركض خلفه وتناديه باسمه، لفت الاسم انتباه أحد الموجودين بالقرب من الشاطئ، اقترب من زوجتي، كان يتحدث العربية بطريقة “مكسَّرة” قليلاً، عبَّر عن إعجابه بالاسم، وعن رغبته في التعرف إلى زوجتي وأولادي الثلاثة.
في اليوم التالي، وجدوه ينتظرهم عند البحيرة، وعندما رآهم من بعيد أخذ ينادي بصوتٍ عالٍ “جولان.. جولان”. عندما اقترب منهم حاول من جديد أن يدير حديثًا، وظهرت رغبته في معرفة تفاصيل كثيرة عنهم، فاستهجنوا، سألوه من أين أنت، فأجابهم أنا “جاركم”، أصرّت زوجتي فأجابها “أنا من إسرائيل”، أرادوا المغادرة مباشرة لكنه أراد استفزازهم بقوله “الجولان لنا.. لماذا تسمّون ابنكم جولان؟”. بعد جدال بسيط، غادرت زوجتي وأولادي. جاؤوا وأخبروني بما حدث. كانوا يتحدثون وكأن الكهرباء قد صعقتهم.
المصدر: مجلة أوراق- العدد 17-18