مؤشرات المنظومة تلامس اللون الأحمر والشح سببه سوء الحوكمة والإفراط في استهلاك المياه
تعرف تونس هذا الأسبوع موجة حر شديدة، ستتجاوز خلالها درجات الحرارة 45 درجة وسط تذمر المواطنين في العديد من مناطق البلاد من النقص الفادح للماء.
ويكابد التونسيون الأمرين بسبب التغيرات المناخية المتسارعة التي عجلت بارتفاع متواصل في درجات الحرارة، وبخاصة خطر الجفاف المحدق بالبلاد في ظل شح الموارد المائية إلى درجة إطلاق صيحة فزع من المعنيين بهذا الشأن، بأن تونس بلغت مرحلة الفقر المائي.
ويشكو التونسيون من عام لآخر من اهتراء المنظومة المائية بفعل نقص الأمطار، وقرب نضوب السدود، المزود الأول للبلاد من الماء الصالح للشرب.
وفي عام 2022، تبرز صور فيديو موثقة من طرف الجمعيات في تونس، بشأن صعوبة التزود بالماء الصالح للشرب إلى درجة أن الفيديوهات تذكّر بعهود خالها التونسيون انتهت، من استعمال صهاريج المياه والدواب لجلب الماء.
ولا يكفي خطر الجفاف الذي يهدد تونس منذ سنوات عدة والذي تفاقم بشكل لافت في العامين السابقين بسبب نقص الأمطار، لتعمد شركة المياه الحكومية إلى قطع الماء عن مناطق عدة، لا سيما في المناطق السياحية من الثامنة ليلاً حتى السادسة صباحاً من أجل ترشيد استعمال الماء.
قضية رأي عام
تعتبر قضية الماء في تونس من أكثر القضايا التي تشغل الرأي العام، والتي يناضل من أجلها مختلف الفاعلين.
واستناداً إلى مؤشرات دولية ووطنية عدة، تشهد تونس منذ سنوات أزمة حقيقية تسير بها بخطوات متسارعة نحو الفقر المائي.
ووفق تقارير رسمية، يُحدَد نصيب الفرد الواحد من الماء في تونس اليوم بأقل من 400 متر مكعب في السنة، والنسبة مرشحة للانخفاض في السنوات المقبلة، لتصل إلى 350 متر مكعب سنوياً أي أقل 50 في المئة من الكمية الموصى بها من طرف منظمة الصحة العالمية، والمتراوحة بين 750 و900 متر مكعب سنوياً.
كما يشكو أكثر من 300 ألف مواطن في تونس من غياب الربط بالماء الصالح للشرب.
هذا وتتفاوت نسب الربط بين جهات البلاد، حيث تتراوح النسبة بين 28 في المئة و44 في المئة في محافظات الوسط الغربي، في حين تصل إلى 100 في المئة في العاصمة والمحافظات الساحلية.
استنزاف المائدة المائية
كما أن أزمة المياه ساهمت في استنزاف المائدة المائية في البلاد نتيجة تنامي الاستهلاك مقابل تراجع مستمر للمخزون المائي.
وارتفع عدد الآبار العشوائية إلى أكثر من 20 ألف بئر مع مواصلة وزارة الزراعة دعمها لتوسعة المناطق السقوية وللمنتوجات المستنزفة للماء والمعدة للتصدير، وفق تقارير من المجتمع المدني.
تفاقم الوضعية في العشرية الأخيرة
رمضان بن عمر، المتحدث الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (مستقل)، قال إن أزمة المياه في العشرية الأخيرة صارت الدافع الأساسي للتحركات الاجتماعية، والشرارة التي تندلع بسببها الاحتجاجات في الولايات كلها.
ويضيف لـ”اندبندنت عربية” أن التحركات والإشعارات زادت كمّاً وكيفاً، إذ لم تعد حكراً على الموسم الصيفي ولا على ولاية دون غيرها.
وجدد دعوته في هذا الإطار، إلى “الإسراع في المصادقة على مشروع قانون مجلة المياه الجديدة، بعد الأخذ بعين الاعتبار مقترحات المجتمع المدني والخبراء، الذي ظل قيد الانتظار منذ 25 يوليو (تموز) 2021، والذي من شأنه تفادي تعمق أزمة المياه”.
وذكّر المتحدث بأنه “لا يزال آلاف التونسيين إلى اليوم، محرومين من حقهم في الماء الصالح للشرب ومن خدمات الصرف الصحي، وهو ما يعد انتهاكاً صارخاً لحقوقهم الكونية، مثل الحق في الصحة وفي العيش الكريم”، لافتاً إلى أن التونسيين يعيشون “تحت خط الفقر المائي، حيث لا يتجاوز نصيب الفرد 400 متر مكعب سنوياً، وهي كمية أقل بكثير من 1000 متر مكعب في السنة المُوصى بها من قبل منظمة الصحة العالمية”.
رمضان بن عمر، ومن منطلق درايته بالوضع عبر مختلف تقارير فروع المنتدى، استغرب أن الانقطاعات أصبحت الخبز اليومي للتونسيين على مدار السنة، كما “أن العديد من المناطق من شمال البلاد إلى جنوبها تعاني الغياب الكلي للماء، وانقطاعات تصل حتى سنوات متتالية على غرار ما عاينه قسم العدالة البيئية في منطقة السقدود من معتمدية الرديف (محافظة قفصة جنوب غرب) حيث هناك شح في المياه منذ أكثر من 6 سنوات”.
وعدّد المتحدث مناطق تعاني العطش بأرياف محافظات القيروان وجندوبة وقفصة، قائلًا: “سكان هذه المناطق والذين يصل عددهم إلى ما يقارب 300 ألف بحسب ما ورد في التقرير الوطني لقطاع الماء 2020 الصادر عن وزارة الفلاحة، يعتمدون طرقاً بدائية في الحصول على المياه عبر جلبها من مصادر طبيعية غير آمنة على ظهور الحيوانات”.
دراسة علمية جديدة
وأعلن رمضان بن عمر أن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فتح باب الترشح للمتخصصين، لإنجاز دراسة علمية وبحثية حول أزمة المياه، وسبل النهوض بحوكمة الموارد من أجل تحقيق العدالة المائية وتكريس الحق في الماء، كما يضمنه الدستور وكل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
ويُنتظر من هذه الدراسة أن ترصد واقع التصرف في الموارد المائية في تونس اليوم، وتقدم قراءة نقدية تسلط الضوء على أهم الإشكاليات المتعلقة بهذا القطاع، وأسباب فشل سياسات الدولة وخياراتها.
كما ستمكّن من كشف تداعيات أزمة العطش على المجالات البيئية والاقتصادية والاجتماعية وعلى القطاع الفلاحي والأمن الغذائي.
الوضع حرج وليس جيداً
وأكد المتخصص في مجال المياه وكاتب الدولة الأسبق بوزارة الزراعة التونسية عبد الله الرابحي، أن الوضع في تونس على مستوى المياه “ليس جيداً”، بحسب تقديره.
وذكر أن 80 في المئة من المياه في تونس تحت تسيير الجمعيات المائية، متسائلاً: “هل يعقل أن تسيّر الثروة المائية في تونس من طرف جمعيات ينشط بها متطوعون، ولا محاسبة فيها؟”.
وقال إن هناك 3 سيناريوهات لمجابهة شح المياه في تونس، يتعلق الأول باحتمالية عدم إجراء إصلاحات والمضي بالسياسة الحالية نفسها، حينها سيسجل المخزون المائي نقصاً بزهاء ملياري متر مكعب، ما يدخل البلاد في حالة جفاف كبيرة.
ويتمثل الثاني بضرورة استكمال المشاريع المتعلقة بالمياه والمحافظة على الثروة المائية والحيلولة دون استنزافها، أما الثالث فيشمل وضع دراسة استراتيجية الماء في أفق سنة 2050 على طاولة النقاش ومتابعتها، وإصلاح مجلة المياه والتعويل على وعي المواطن.
إحصاء 24 ألف انقطاع للماء
ويرى الخبير في البيئة والتنمية المستدامة عادل الهنتاتي، أن “هناك نقصاً كبيراً في المياه، خصوصاً مع شحّ الأمطار في السنوات الأخيرة، حيث أصبح تدفّق المياه في الشبكات ضعيفاً”.
وأضاف أن “انقطاع المياه بحسب أرقام وزارة الزراعة، مرَ من 14 ألف انقطاع في السنة إلى حدود 24 ألفاً في السنوات الأخيرة، مضيفاً أن 62 في المئة من تجهيزات الشبكة متهالكة، ولا يمكن ضخّ المياه في الأماكن المرتفعة (طوابق المباني المرتفعة).
وتابع “يمكن حلّ هذه المشاكل إذا خصّصت شركة استغلال وتوزيع المياه الحكومية برنامجاً واضحاً ودعماً مالياً كافياً لذلك، وهي الآن تعاني من مديونية مرتفعة، لأن توفير الماء والتجهيزات أصبح عملية مكلفة جدّاً، والشركة إما أن توفّر الماء الصالح للشرب للناس أو تجري إصلاحات في التجهيزات والوسائل.
وانتقد المتحدث مسألة تبذير التونسيين للماء من دون وعي بخطورة الوضع، مبرزاً أن في سنوات الجفاف يستغلون ما بين 700 و800 مليون متر مكعب في إطار الاستهلاك المنزلي، وأن شحّ المياه يأتي من سوء الحوكمة، والمواطن يواصل تبذير المياه، فضلاً عن التراجع الكبير لجودة المياه التي توزعها الشركة في تونس.
تقرير أممي خطير
دعا مقرر الأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي، بيدرو أروخو أغدودو، في ختام زيارة لتونس الشهر الماضي، السلطات إلى منح الأولوية في توزيع المياه للاستعمالات الشخصية والمنزلية عوض الصناعية، وإلى ضمان وصول التونسيين إلى مياه الشرب في ظل شح الأمطار وتناقص الموارد المائية في عدد من مناطق البلاد.
وأنهى بيدرو أروخو زيارة لتونس دامت 12 يوماً، التقى خلالها عدداً من المسؤولين الحكوميين، بينهم وزير الخارجية، ونشطاء حقوقيون. وفي ختام زيارته، سجل مجموعة من التحديات التي تواجه تحقيق العدالة في توزيع مياه الشرب خصوصاً في الأرياف.
تحديات في الأرياف
وأوضح التقرير الختامي للزيارة، أنّ 57 في المئة فقط من التونسيين يحصلون على مياه شرب مأمونة، بينما لا يزال 650 ألف شخص لا يحصلون على المياه الصالحة للشرب في بيوتهم، معظمهم يقطنون المناطق القروية والريفية.
وفي ظل الجفاف الذي تشهده المنطقة المغاربية، قال المسؤول الأممي، إنّ الضغط على المياه الجوفية زاد في الآونة الأخيرة، وتجاوز الطلب استدامة النظام الأيكولوجي، وارتفع من 82 في المئة عام 2007 إلى 113 في المئة عام 2017، ما أدى إلى استنفاد المياه الجوفية في عدد من المناطق.
في المقابل، سجل المقرر الأممي خلال زيارته عدداً من مناطق البلاد، تزايد “الاستغلال المفرط” للمياه وانتشاراً للآبار غير القانونية، مبرزاً أنّ ذلك “يزيد التنافس على المياه، ما يُعرض حقوق الإنسان في مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي للخطر”.
وأضاف أنّه “لا يمكن لنُدرة المياه أن تبرر عدم الامتثال لحقوق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي، ينبغي على الحكومة التونسية أن تمنح الأولية لمياه الشرب، بغض النظر عن مدى الربح الذي قد تحققه استعمالات أخرى”.
في المحصلة، فإن تونس بالتوازي مع مشاكلها الاقتصادية والمالية، تعرف تحديات جسيمة في منظومة المياه، وأن البلاد يتهددها حقاً خطر الجفاف، وما لذلك من تداعيات اجتماعية وبيئية سلبية تهدد السلم الاجتماعي في البلاد في ظل تحرك عاجل وسريع من الحكومة.
المصدر: اندبندنت عربية