باريس – يرى المحاربون الـخُـضر المتشددون الأمور بوضوح: لم تتسبب أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19 COVID-19) إلا في تعظيم الحاجة الملحة إلى العمل المناخي. لكن الصناعيين المتشددين مقتنعون بذات القدر: فلا ينبغي أن تكون هناك أي أولوية أعلى من إصلاح الاقتصاد الـمُـدَمَّـر، وتأجيل الضوابط التنظيمية البيئية الأكثر صرامة إذا لزم الأمر. لقد بدأت المعركة. وسوف تحدد نتيجتها هيئة عالَم ما بعد الجائحة.
تسلط كل من أزمة الصحة العامة وأزمة المناخ الضوء على الحدود التي تقيد قدرة البشر على التأثير على الطبيعة. وكل منهما تذكرنا بأن نهاية عصر الأنثروبوسين قد تكون سيئة للغاية. كما تعلمنا كل من الأزمتين أن السلوك اليومي الحميد من الممكن أن يُـفضي إلى نتائج كارثية.
بتحدي المنطق الخطي، تجبرنا كل من الجائحة وأزمة تغير المناخ على التكيف مع المواقف حيث يؤدي أي قدر ضئيل من الانحراف إلى إحداث أضرار أعظم كثيرا. كما لاحظ عالِـم الاقتصاد المناخي جيرنوت فاجنر، فإن الجائحة تستنسخ تغير المناخ بسرعة هائلة على نحو أو آخر. وربما يفسر هذا السبب الذي يجعل الرأي العام ينظر إلى الانحباس الحراري الكوكبي بأغلبية ساحقة باعتباره تهديدا لا يقل خطورة عن التهديد الذي تفرضه جائحة كوفيد-19 ويريد من الحكومات أن تؤكد على العمل المناخي في فترة التعافي.
كما زودتنا الجائحة بدورة تعليمية سريعة حول العواقب الجمعية المترتبة على السلوك الفردي. فكان كل منا مضطرا إلى الاعتراف بأن مسؤولياتنا تجاه المجتمع أكثر عمقا ولا يمكن الوفاء بها بمجرد سداد الضرائب وتقديم بعض التبرعات. ومن الواضح أن هذا الموقف الذي يرفع شعار “ادفع وانس” غير مناسب على الإطلاق في التعامل مع أزمة الصحة العامة ــ أو أزمة المناخ.
علاوة على ذلك، سلطت الأسابيع القليلة الأخيرة الضوء على مدى ضيق منظور “الدولة ضد الأسواق” في التصدي للتحدي الذي يواجهنا. كما زعم الاقتصاديان صموئيل بولز وويندي كارلين، فإن الحل لن يأتي من تركيبة من المراسيم الحكومية وحوافز السوق. إن المجتمعات التي يتصرف أعضاؤها من منطلق إحساسهم بالمسؤولية والامتنان تجاه بعضهم بعضا تشكل جزءا لا غنى عنه من الاستجابة. وحتى برغم أن المساهمة الأساسية من جانب رأس المال الاجتماعي والأعراف الاجتماعية غير مسجلة في الحسابات الوطنية، فإننا نعترف بها في كل مرة نشيد بالعاملين في مجال الرعاية الصحية وغير ذلك من المجالات الأساسية. ومرة أخرى، ينطبق هذا على تغير المناخ أيضا.
ولكن بينما يتعين علينا أن ندرك هذه القواسم المشتركة القوية، يجب أن نحرص أيضا على عدم التغافل عن العقبات التي تحول دون تَـحَــوُّل نموذجنا الاقتصادي الناشئ عن أزمة كوفيد-19. الأمر المؤكد هو أن العوائق التي تعترض العمل المناخي ستكون في عصر ما بعد الجائحة أكثر شدة حتى مما كانت عليه قبل بضعة أسابيع.
بادئ ذي بدء، العمل المناخي عالمي بطبيعته، في حين أن مكافحة الجائحة تتسم بطبيعة أكثر محلية. إن إحراق طن من الكربون يخلف ذات التأثير على درجة حرارة الأرض أينما جرى إحراقه ــ ولهذا السبب، تتطلب مكافحة تغير المناخ إبرام اتفاقيات عالمية.
لا ينطبق الأمر ذاته على الجائحة. إن السلوك الفردي الحكيم يعود بالفائدة على الأقارب أكثر من الجيران، وعلى الجيران أكثر من سكان ذات المدينة، وعلى المواطنين أكثر من الأجانب.
وعلى هذا فإن كلا من حماية المناخ وحماية الصحة العامة تستفيد من دوافع مختلفة جوهريا. فأحدهما يقودنا إلى اعتبار أنفسنا مواطنين مسؤولين في العالم، والآخر يعيدنا إلى جذورنا المحلية والمأوى (الخيالي غالبا) الذي توفره الحدود الوطنية.
على سبيل المثال، يدعم نحو 84 % من المواطنين الفرنسيين اليوم إبقاء حدود البلاد مغلقة أمام الأجانب. وليس من المؤكد على الإطلاق ما إذا كان الناس، بعد صدمة كوفيد-19، سيظهرون قدرا أكبر من الاستعداد لتغيير سلوكهم لصالح البشرية والأجيال القادمة. وهذا مصدر أول من مصادر التوتر.
يتمثل المصدر الثاني في التوتر الحاد الذي سينشأ على الجبهة الاقتصادية. فمع انتهاء الإغلاق، سيؤكد صناع السياسات على نحو متزايد على إحياء النمو الاقتصادي وتشغيل العمالة. وسوف تتمثل الأولوية القصوى المفهومة لكل الحكومات في الحد من الندوب الاجتماعية الاقتصادية التي ستخلفها الأزمة من خلال ضمان إعادة تشغيل كل الأعمال والشركات التي يمكن إعادة تشغيلها.
من المروع في نظر أولئك الذين يرغبون في إعادة البناء بدلا من الإصلاح أن هذه حقا أولوية لا تقبل الجدال. في حالات الطوارئ، لا يمكن تقديم ضمانات الائتمان ودعم دخل العمال المتغيبين عن العمل مؤقتا إلا على النحو الذي يغطي كل القطاعات، بدلا من أن يكون هذا مشروطا بتعهدات متعلقة بالسلوك في المستقبل. فبعد أن أصبحت الطائرات مهجورة واختفى الركاب، لن نجد أي حكومة على استعداد لجعل الدعم المالي لشركات الطيران مشروطا باستخدام هذا الدعم لتنفيذ تغييرات جوهرية. اليوم هو يوم رجال الإطفاء وليس المهندسين المعماريين.
سوف تأتي اللحظة المناسبة للتأثير على مسار التنمية الاقتصادية في وقت لاحق، عندما يستأنف الاستثمار وتتسع الآفاق. ومن المفترض أن تكون الشركات على استعداد للإنصات إلى أصوات أولئك الذين ساعدوها على البقاء.
لكن التوتر الثالث سينشأ عندما يدرك الناس إلى أي مدى جعلتهم الأزمة أكثر فقرا. وسوف تفشل شركات عديدة ويفقد العديد من العاملين وظائفهم. وسوف يكون من الضروري تخصيص المزيد من الموارد لتعزيز الأنظمة والصناعات الصحية، على حساب الاستهلاك الحالي. وسوف يزداد الدين العام ــ والذي يمكن تعريفه أيضا باعتباره ضرائب المستقبل (أو تضخم المستقبل) ــ بنحو 20 إلى 30 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.
من المرجح أن يكون المواطنون الأشد فقرا أكثر ترددا في تحمل تكلفة الاستعاضة عن رأس المال “البني” العتيق المتضمن في أنظمة التدفئة، والسيارات، والآلات، برأسمال أكثر اخضرارا لكنه أكثر تكلفة، لأن هذا من شأنه أن يدمر المزيد من الوظائف القديمة وأن يترك قدرا أقل من الدخل المتاح للاستهلاك في الأمد القريب. ومن المؤكد أن فجوة الانقسام بين أولئك الذين يهتمون بنهاية العالم وأولئك الذين يهتمون بنهاية الشهر ستزداد اتساعا.
الواقع أن المدافعين عن البيئة من الـخُـضر محقون: فبمجرد اكتمال الإصلاح الفوري للأزمة، لا ينبغي لنا أبدا أن نهدر فرصة البناء على الوعي الجماعي المتزايد لتحويل اقتصاداتنا وتغيير أسلوب حياتنا. ولكن لا ينبغي لهم إخفاء حجم العقبات القائمة على الطريق ولا التظاهر بأن مدرسة جديدة من مدارس اقتصاد الشعوذة ستكون قادرة على التحايل على المقايضات. ولن يتسنى لنا تعزيز فرصنا لإحراز النجاح إلا من خلال إدراك جسامة التحدي.
*كبير زملاء مركز بروجل البحثي في بروكسل، وكبير زملاء غير مقيم في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، وهو يشغل كرسي توماسو بادوا شيوبا في معهد الجامعة الأوروبية.
المصدر: الغد الأردنية/ بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت.