قبل انفجار تحدي كورونا كان العالم بمختلف مكوناته يزهو بما أمكن تحقيقه على مختلف مستويات الحياة. التسلح بلغ مستويات غير مسبوقة، دقة ودمارا وسرعة، وقد أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 21 / 12 / 2019 السهم لتشكيل القوات الفضائية، ولتكون مهمتها أن تؤمن سيطرة الولايات المتحدة على الفضاء.
فكرة اختصار الزمن قطعت أشواطا بعيدة من خلال السرعات الهائلة واللحظية التي بات في مقدور كل انسان أن يستعين بها للوصول إلى ما يريد، الشبكة العنكبوتية حققت ذلك، وأدخلت مواقعُ التوصل الاجتماعي الانسانَ الفرد إلى كل مجال، فبات عنصرا مؤثرا في صنع الأحداث، سواء شاءت النظم القائمة أم أبت.
العالم كله صار تحت عين الرقيب ـ عين السلطة أي سلطة من سلطة الدولة وأجهزتها، الى سلطة العصابات وتشعباتها، الى سلطة رب الأسرة ـ بات في مقدورها أن تتابع كل شيء، عبر كاميرات المراقبة المتوفرة في البيوت، وفي الشوارع، وفي الهواتف المحمولة، وفي الأقمار الاصطناعية التي تغطي كل بقعة، بل كل ذرة في هذه المعمورة.
وكلما شعر الانسان الفرد أنه بهذا التطور بات أكثر حرية وقدرة على الحركة، اكتشف أنه بات أكثر انكشافا وخضوعا للرقابة ولسيطرة الأجهزة المنظمة.
تضخمت الثروات في المجتمعات، ثروات الأفراد والشركات، حتى باتت تفوق كثيرا ثروات دول وحكومات، الأرقام باتت فلكية، ومع تضخم هذه الثروات، زادت أوعيتها المالية الممثلة بالبنوك تحكما وجبروتا، وزاد ارتباط الأفراد والدول بهذه البنوك، وارتباط هذه البنوك بمركزها: الولايات المتحدة وبأدواتها: الدولار وصندوق النقد والبنك الدولي، وبات كل من يملك حسابا بنكيا: فردا كان أم شركة أم دولة، تحت السيطرة المباشرة للقوة العظمى وأدواتها.
تحررت البنوك من قيود الكتلة النقدية، بعد أن طورت التعامل النقدي إلى أشكال ما عادت تحتاج معه إلى “العملة”، بل وخطت خطوة أكثر تقدما وخطورة حين بدأت تطور العملات الافتراضية.
ذهب الانسان مع الريبوتات بعيدا حتى بات التخلي عن قوة العمل في معظم مناحي الحياة لصالح هذه الريبوتات أمرا منظورا، وذهب في تطوير قدرات هذه الريبوتات في كل المناحي حتى باتت تحاكي ذكاء الانسان، وتسجل عليه تفوقا في العديد من المجالات.
فكك العلم التركيب الجيني للمخلوقات ومن بينها الانسان، وبدأ يضع الخارطة الجينية لكل مخلوق، ما يتيح له أن يتدخل فيها، يغير ويطور ويعدل ويحسن حسبما يشاء، وبدأ يستقر لديه أنه بات قادرا على التحكم فيما سيكون عليه حال هذا المخلوق مستقبلا.
تقدم هائل وغير مسبوق في كل المجالات، تقدم يتضاعف بمتوالية هندسية، مما خلف اعتقادا بأن الانسان بمختلف تجلياته وتكويناته: الانسان الفرد، والشركات، والدول. بات المسيطر على الحاضر وعلى المستقبل أيضا.
ومثًل كلُ ما تقدم جوهرَ العولمة، وظنت القوى الكبرى المسيطرة على هذا التقدم والمالكة لأسسه، أن من حقها أن تحمل “قطار العولمة” الذي أطلقته قيمها ومفاهيمها وثقافتها، وأن تفرض ذلك على العالم كله، وبدأت من خلال هذه القيم تحاول تغيير كل شيء، كل سنن الاجتماع الانساني، كل المعايير والمفاهيم التي خلص إليها المجتمع الانساني.
وفجأة ظهر الفيروس كورونا المستجد ” كوبيد 19″، ليقلب المعادلة التي ظن الانسان أنه أحكم صياغتها، معادلة القوة والتحكم، وليظهر أن هذه المعادلة شديدة الهشاشة، وشديدة الضعف. وأنها أعجز من أن تواجه اختبارا حقيقيا.
تحدي كورونا المستجد لا يتأتى من عدد الاصابات والوفيات، وإنما من سرعة الانتشار، وسهولته، ومن كون “الاتصال” هو المساهم الرئيس في انتقال وانتشار هذا الفيروس، لكن “الاتصال”، سرعة وكفاءة وشمولا هو سمة العصر، وهو المعنى الحقيقي للعولمة التي غطت جوانب الحياة كلها، في المجتمعات كلها، ولا مجال لضبط هذا الاتصال إلا بتقطيعه والعودة إلى سياسة الانعزال داخل كل مجتمع، وبين المجتمعات والدول المختلفة.
منظمة الصحة العالمية تقول إن ” العزل” هي السياسة الأهم في التصدي لهذا الفيروس، وشعار ” البقاء في البيوت”، هو الشعار الذي يختصر السياسة الأجدى في التصدي لهذا الوباء الذي يجتاح العالم.
أمام كورونا المستجد عاد الناس كما خلقتهم أمهاتهم، لا تفرق بينهم الثروات، فليس هناك غني أو فقير، ولا تفرق بينهم الأديان، فليس هناك مؤمن أو كافر، ولا تفرق بينهم المذاهب والقوميات، كلهم يعيش في “القرية الصغيرة” نفسها التي قالوا سابقا إن العالم إذ تعولم فقد بات “قرية صغيرة”، لكنهم على عكس ذلك العالم المتعولم القائم على التميز والانقسام الشديد يعيش حالة تكاد تكون واحدة في مواجهة هذا التحدي، بل لعلنا نستطيع القول إن الدول والمجتمعات التي غاصت أكثر في العولمة، باتت أكثر عرضة لاختراق الفيروس لها.
والدول والمجتمعات التي تقصر أو تتوانى، عن اتخاذ هذه الخطوة “خطوة الانعزال”، فإنها تدفع نفسها إلى حضن هذا الغازي المرعب، في وقت لا تملك هي أي طريق للتصدي له.
كل المستشفيات، والمراكز الطبية، والصحية التي تملكها أكثر الدول تقدما في مجال الرعاية الصحية باتت عاجزة عن تقديم ” الخدمة الأدنى” للمصابين، ليس هناك أسرة في المستشفيات تكفي الحد الأدنى للاحتياج، ليس هناك غرف عناية مركزة، ليس هناك أماكن إيواء، ليس هناك غرف عمليات، حتى ولا سيارات اسعاف، تستطيع أن تلبي الحاجة التي يطرحها هذا التحدي.
الانكشاف بات بشعا جدا، حتى أن الجهاز الطبي كله صار يتلقى تعليمات بالتخلي عن الحالات الميؤوس منها، والحالات الممكنة التأجيل، وصار مطلوبا منه أن يؤجل كل العمليات الممكن تأجيلها، وأن يخلي من المرضى كل المستشفيات التي يمكن إخلاؤها.
الانكشاف البشع أظهر فيما أظهر بشاعة وتفاهة قادة يتحكمون في مصائر أمم وشعوب لها تأثيرها المهم في العالم، بعد أن أظهروا مستوى شديد التخلف والبطء والعنجهية في إدراك خطورة هذا التحدي، وفي الاستجابة له، وما رأيناه في إيران وفي ايطاليا والولايات المتحدة نماذج حية لهذا النوع من القيادات. وما يمكن أن يتكشف عنه الأمر في دول كبرى ما زالت قياداتها تدعي خلوها من الفيروس قد يقدم درسا أقسى.
العالم سوف يخرج من هذه الأزمة، سيتمكن من هزيمة هذا الفيروس، لكن ليس في مقدور أحد أن يحدد متى، وعند أي مستوى من الضحايا سيتوقف هذا الوباء، وكم من الأحبة والأصدقاء سنفقد في هذه الأزمة، وكم حجم الخسائر المادية التي ستدفعها البشرية قبل أن تحقق الانتصار على هذا الوباء.
وإذا كان لنا أن نعتمد مقاربة مقارنة بين الخسائر المادية والبشرية، فنستطيع ان نقول إن الخسائر المادية حتى الآن هائلة، من الصعب جدا تقديرها، لارتفاع حجمها، وتشعب تجلياتها، والنظر إلى ما يحدث من انهيارات في أسواق المال العالمية، وفي قطاعات السياحة والسفر والانتقال (الطائرات، السفن، السيارات)، وفي الشركات والمصانع وأسواق التجزئة، وقطاع البنوك، والوظائف، فإن الاستنتاج الأولي والبسيط أن الخسائر حتى الآن دخلت نطاق “الترليونات” أي آلاف المليارات.
هل يمكن أن نعقد مقاربة بين هذه الخسائر والخسائر البشرية المتوقعة؟، نتيجة أي مقاربة ستكون مرعبة خصوصا إذا راجعنا تصريحات مسؤولين تحدثوا عن اصابات ممكنة بعشرات الملايين، ووفيات قد يتجاوز تعدادها بضع ملايين.
وأختم هذه الإطلالة على تحدي فيروس كورونا بالإشارة إلى نقطتين اثنتين:
النقطة الأولى: أن فيروس كورونا لن يكون التحدي العالمي الأخير الذي تفجر أمام المجتمع الانساني، ولا يجوز عقلا أن يقف هذا المجتمع أمام تحد مماثل سيأتي بلا شك، بمثل ما حدث ويحدث الآن، لا بد من آلية جديدة، عالمية تتيح للبشرية أن تتصدى لمثل هذه الأوبئة، ليس حين وقوعها، وإنما بشكل استباقي، وهذا يحتاج من المجتمع الدولي أن يولد مؤسسة أممية تكون مهمتها التصدي للأوبئة، و”الخطر الجرثومي”، قبل أن يقع، وذلك من خلال مراكز بحث علمية ومختبرات وأبحاث تقوم على منع وقع هذا الخطر، وأن تكون لهذه الآلية ميزانية توفرها الدول كل بقدر مساهمتها ونصيبها في الاقتصاد الدولي.
إن هذا العمل الاستباقي أقل تكلفة بكثير مادية وبشرية من تكلفة التصدي لمثل هذا التحدي حين وقوعه، ومن المهم أن تكون لهذه الآلية سلطة حقيقية تستطيع من خلالها تنفيذ برامجها الوقائية والعلاجية والبحثية، وهذه الآلية تتميز عما تقوم به منظمة الصحة العالمية مجالا وسلطة تتكامل معها بآن.
النقطة الثانية: أن تحدي كورونا المستجد كشف القوة المدمرة للحرب الجرثومية والفيروسية، ومثل هذه القوة يمكن لأي جهة “دولة، أو منظمة، أو عصابة” أن تستخدمها.
هذا سلاح أكثر شمولا وأثرا من السلاحين الكيماوي والنووي، لأن هذين السلاحين على فظاعة ما ينتج عنها محدودي المكان، آثارهما على أجيال قادمة ممتدة، لكنهما دائما محدودي المكان، ولاستخدامهما بفاعلية فإنهما يحتاجان إلى تكنولوجيا متقدمة، وإلى درجة في التعقيد للحصول عليهما، وللتمكن من زجهما في أي صراع.
لقد استخدم السلاح الكيماوي في الحربيين العالميتين، واستخدمته فرنسا في الجزائر، والولايات المتحدة في فيتنام، واستخدمته النظم المستبدة في مواجهة شعوبهما كما فعل ويفعل النظام السوري، وقد وثق المجتمع الدولي ذلك كله، واستخدمت الولايات المتحدة السلاح النووي في اليابان مرتين، واستخدمت “جماعة أوم” غاز السارين السام في عملية ارهابية محطة مترو في اليابان في 20 / 3 / 1995، لكن ذلك كله على بشاعته، بقي في الحدود الجغرافية المقصودة، ولم يخترق العالم كله.
السلاح الجرثومي الفيروسي سلاح عابر للحدود، عابر لكل أنواع التقسيمات الاجتماعية، وهو سلاح غير مرئي، له الاف مراكز الانتاج الممكنة في العالم وكلها مراكز شرعية الوجود، وحتى يتم الانتباه إلى استخدامه، والتعرف على وجوده، ونوعه، يكون قد انتشر وتحول إلى كارثة عالمية.
لأجل كل ما سبق فإن على المجتمع الدولي أن يمنع بكل الوسائل وجود هذا السلاح، وأن مينع وقوعه في أي يد، وأن يوفر الطرق والآليات لتحقيق هذا الهدف.
الأمر هنا صعب للغاية، لكن لا بد منه لأمان العالم، كل المختبرات ومراكز الأبحاث الطبية والجرثومية يمكن أن تكون مصدرا لمثل هذه الفيروسات، وبالتالي أن يستخدمها أحد ما، في أي صراع، ولتحقيق أي غرض، ولا بد من التصدي لهذا الاحتمال.
مرة أخرى من الضروري التأكيد على صعوبة الأمر لأن الدول الكبرى التي تضم أكبر وأهم المختبرات ومراكز الأبحاث، نظمها نفسها غير أمينة على إقامة مثل هذه الرقابة، وعلى تطبيق أي اجراءات يعتمدها المجتمع الدولي لتحقيق هذا الغرض. نظمها نفسها ذات قيم براغماتية، تحركها المصلحة الذاتية، ولا تقيم كثير وزن لمصلحة “الكل الانساني”. وما تم ويتم على مستوى الاتفاقيات الخاصة بالحفاظ على البيئة، والحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض والاتفاقات الخاصة بالمناخ شاهد واضح الدلالة على ما نقول.
من أجل ذلك تظهر مجددا أهمية أن تُبنى في المجتمع الدولي مؤسسات تمثل” الضمير الإنساني”، وتجسد احتياجاته، ويكون لها وجود وفاعلية في مختلف المؤسسات الرقابية التي يقيمها هذا المجتمع لتحقيق الأمان والاستقرار له، ولتحقيق السلامة والسلام للبشرية.
بعض هذا الحديث يبدو من قبيل الأمنيات، لكن من حقنا ونحن نواجه عُزلا مثل هذا الهجوم الكارثي، الذي يهدد حياتنا جميعا، أن نطرح أمنياتنا، وأن نحض العالم على الأخذ بها والعمل على تحقيقها، لأنه بدون تحقيق ما يجب تحقيقه، فإن البشرية كلها ستكون قد اختارت غير سفينة النجاة.