ألحّت في السنوات الأخيرة قضية، ظاهرها سياسيّ وباطنها فكريّ لا يخلو من الفلسفة، طرحها سوريون مع تأزّم الحالة السورية وتخلّي “العرب” عن “السوريين”. لهذا كانت تطرح بنبرة غاضبة واستنكار: هل نحن عرب أم سوريون؟ والغريب أنّ الطرفين المتصارعين اشتركا في إعلان أننا سوريون ولسنا عربا، ولكلّ طرفٍ مسوّغاته التي يحتمي بها. مسوّغاتٌ هي أيضا، في ظاهرها مرحليّة ومسيّسة، وفي باطنها مشكلة تاريخية وجودية، فطرفُ الأسديّين يرى أنّ العرب طعنوا دمشق في ظهرها من خلال المؤامرة عليها، خصوصا بعد قطع الدول العربية علاقاتها مع دمشق، ثم تجميد كرسي سورية في جامعة الدول العربية الذي استدعى حملة شعواء ضد “العرب الخونة”. أما الطرف الآخر الذي تظاهر وتمرّد وانتفض على الأسد، ففي زعمه أننا سوريون نريد (استعادة سورية) التي اختطفها الأسد وطغمته الحاكمة. وارتفع الحسّ السوريّ لدى هؤلاء كثيرا، بحكم فداحة المأساة التي تراكمت عبر عقود مرعبة من حكم الأسديين.
ولكن في العموم، ساعدت على التصريح بهذا السؤال “هل نحن عرب أم سوريون؟”، عوامل عدة منها ما يعود، في الأساس، إلى رؤية معينة لتاريخ المنطقة، تؤمن بها أوساط داخل المجتمع السوري نفسه. وقد تلتقي هذه الرؤية (من حيث هي مقولة فكرية متكاملة) مع رؤية أنطون سعادة المعروفة. وليس بالضرورة أن يكون المؤمنون بها من أتباعه أيديولوجيا وسياسيا. إذ هناك أفكار يتبنّاها مثقفون وغير مثقفين، تصبّ في الإيمان بأن هناك مسوّغات لنكون سوريين أكثر من مسوّغات كوننا عربا. ما يعني أن هذه الأفكار كانت كامنة لدى أصحابها، ولكن الظروف السياسية لم تكن تتيح لهم حرية التعبير عنها. ولدى التدقيق في خلفياتها ووضعها موضع الدرس والبحث، سوف نعثر على كثير من إمكانية السجال التاريخي والثقافي المتعلّق بمفهوم الهوية، وهو سجالٌ يفصح لدى فئة من السوريين عن جدارةِ فكرة أننا “سوريون” ولسنا “عربا”. ويرون أنّ هذا ليس طعنا في عرب ولا عروبة، ولكنه وضعٌ لهما في سياقهما البحثي والتاريخي. ويمكن لحرية البحث أن تقود إلى أنّ “العروبة” مفهوم تطابق مع رؤية إسلامية موروثة كرّسها انتشار الإسلام في بلاد الشام، وشمال أفريقيا، حتى ما كان يسمّى الأندلس. بما يعني ذلك من هيمنةٍ ذوّبتْ هويات وإثنيات كثيرة، وأعادت صياغتها بما يتوافق مع الرؤية الإسلامية التي لم تكن إلا شكلا من أشكال العولمة المبكرة! لذلك نرى في أدبيات حزب البعث استلهاماً لثقافةٍ إسلاميةٍ ساعدتها في فرض رؤية الحزب وأيديولوجيته. وليس خافياً أن ميشيل عفلق كان يُعلي من شأن الدين الإسلامي، ويرى أن الإسلام هو الدين الذي يدخل في صميم مكونات القومية العربية! وأنّ أمة العرب هي أمة الإسلام! على الرغم من كونه من منبتٍ مسيحي. بل ربما كانت مسيحيته سببا في تلك المغالاة في رؤيته إلى الإسلام نوعا من ادّعاء التحرّر من حاجز الدين والهوية الضيقة. وإذا كان في رؤيته نوعٌ من القبول والتشارك مع ثقافات المنطقة، وهذا أمر محمودٌ، لكنه كمؤسس لحزبٍ يرى أنّ “الأمة العربية هي أمّة الإسلام”، فذلك ما يدخل في منطق الجدل والتحفيز على الحوار، قبولا أو رفضا. فهذا يعني إطلاق رسالة أيديولوجية، ليعرّف من خلالها بالآفاق المستقبلية لحزبه.
كان استعمال الدين حاجةً سلطوية أمنيةً في سورية أكثر مما هي حاجة معرفية لبناء مجتمعٍ متعدّد الهويات والمشارب. وقد كان من نتائج ذلك على المجتمع السوري أن تلاشت بعض ملامحه الداخلية الأصيلة، وجرى تسويق مشاريع عروبية لا تجد كثيرا من براهينها الواقعية. وقد فتح ذلك ثغرة بنيوية هائلة في جسد حزب البعث، وفي السلطة التي هيمنت عليه، سيما بعد الانقلاب الذي يوصف بـ “الحركة التصحيحية”. إذ لم يكن من مصلحة “الدولة” السورية محو هويات الأكراد والآشوريين والسريان على سبيل المثال، أو التشويش على هذه الهويات، وتعريب جغرافيتهم ومدوّناتهم لإجبارها على الانصهار في نسيج العروبة. كان هذا عملية قسرية أضعفت العلاقات داخل الدولة مجتمعا وسياسة، إضافة إلى أنه تزوير من عمل السلطة.
كانت اللغة التي جرى تقديمها رابطا أساسيا للعرب، أداة من أدوات الإسلام وليس العرب، باعتبارها لغة الأقوى والمهيمن. وليست هناك صلة بين ديمقراطية الدولة وسياسة الكبت والمنع التي مورست بحق الإثنيات والجماعات البشرية القاطنة في هذه المنطقة قبل انتشار العروبة فيها.
أجل، الصرخة الغاضبة “نحن سوريون، لسنا عرباً” يجب أن تجد وضعيتها الثقافية والفكرية والسياسية، وهي لا تعني القطيعة مع من يؤمنون بالعروبة، أو من يؤدلجون لها، ولكنها تأطير للفكرة وتنظيم علاقتها مع الأفكار الأخرى من غير محو ولا تشويه ولا افتراس.
من نتائج الدم “السوري”، أننا الآن نضع أيدينا على قناعاتٍ كانت متخفية، وربما كان من الأجدى تاريخيا أن نضع أيدينا عليها من غير هذا الدم. ولكن لو كان مسموحا لنا إشهار هذه القناعات والأفكار، فهل كان الدم السوري سال بهذه الغزارة الفاجعة من الأساس؟!
حين نرى عدم نقاش موضوع الهوية السورية بشكل حرٍّ وعقلاني، وبعيدا عن الولاءات المفروضة بقوة السلطة وأجهزتها، فنحن نعطي مثالا واحدا من أمثلة لا تحصى، منع فيها نقاش كل شيء مهمّ. ولا نعني أننا نقتصر على مثالٍ واحدٍ في كونه من أسباب ثورة أو انتفاضة أو احتجاج. المغزى البعيد من ذلك أن نظام الاستبداد البعثي لم يكن يقبل نقاش أي مفهوم بحرية، كان من حق الكردي، مثلا، أن يعبّر عن ثقافته وتاريخه بحرية، وبعيدا عن تعريبه بالقسر والإكراه كما حدث. من حقي أن أشعر بأن ما يربطني بالسوري الآخر أمر لا يحدّده مفهوم العروبة، ولا الدين، أنا السوريّ لا يربطني بمسلم سعودي الكثير، ولا بعربي يؤمن بالعروبة في الجزائر، هذا لا يعني أنني أقاطعه ثقافيا ولا سياسيا، بل يعني أن أطوّر من إحساسي بهويتي السورية، وليست العربية كما أملتها أدبيات حزب البعث. ربّ قائلٍ يقول: أنا وجدت نفسي عربيا بالمصادفة، ووجدت نفسي مسلما بالمصادفة، فلو لم يأت الإسلام إلى سورية، ربما ولدت مسيحيا أو يهوديا أو لا دين لي. وذلك كله كان في قائمة المحظورات داخل سورية. كان ممنوعا حتى أن تتحدّث عن التنوع الإثني والقومي في المجتمع السوري.
ليست القضية حربا ضد العروبة، والأمر لا يعني إلغاء ولا افتراسا، فنحن نكتب بالعربية نتاجنا الأدبي والفكري جميع مستويات خطابنا، فتلك مسألةٌ حسمها التاريخ حتى لو عبّر بعضنا عن “امتعاضه” منه. لكن ألا يحق لنا أن نطرح سؤال ما جدوى مشروع الوحدة العربية مثلا؟ ألم يكن وهماً جرى تسويقه بالإكراه؟ ومن أجله تمت التضحية بمقدّراتنا وطاقاتنا؟ أن تكون سوريا فهذا يعني أن تكون ابن المنطقة السورية اللبنانية الفلسطينية وعموم بلاد الشام. ألا تشكل هذه الجغرافية (وحدة حضارية) في هذه المنطقة كلها؟ ما جدوى وحدة هذه الجغرافيا مع مصر والسودان وصلاحيتها؟ أي مع وادي النيل؟ أو مع المغرب برمّته؟ أو بصورة أخرى: يمكن للدول العربية تشكيل وحدات حضارية متجاورة ضمن سياسة حسن الجوار وعلاقات الأخوة والصداقة. هذا أكثر قابليةً للتحقيق من مشاريع فضفاضة كالوحدة والقومية. حيث لم تعُد اللغة العربية، التي أجبر عليها كثيرون من سكان البلدان الأصليين، الجامعة بين عربٍ وغير عربٍ يشعرون بأن هويتهم مهدّدة ومحاصرة، وهم مجبرون على الاندماج في محيطات عربية لا تتجانس كثيراً مع ثقافتهم وذاكرتهم.
ربما نرى أنّ العروبة مجرّد مفهوم ثقافي نفسي لا يلغي إمكانية أن تترك خيارات أخرى لدول متجاورة في أن تصنع في ما بينها اتحاداً سياسياً اقتصادياً يوحّد عملتها وأسواقها، ويجعل لها علما مشتركا، إضافة إلى أعلامها الوطنية، وذلك استئناسا بتجربة الاتحاد الأوروبي. وتنظّم هذه الدول علاقات صداقة وتعاون أيضا مع دول لها اتحاد آخر وعملتها وعلَمها الواحد. ليست لدول الاتحاد الأوروبي لغة قومية جامعة، مع ذلك لم يمنع هذا من تكوين اتحاد قويّ يجمعها، في حين أن المواطنين في الدول العربية يحتاجون إعادة النظر في مفاهيم “القومية” والوحدة التي أكلتْ من أعمارهم وحوّلتهم إلى كائنات مغتربة لا كيان سياسيا حقيقيا يجمعها.
المصدر: العربي الجديد