-قصور الوعي لدى النخب أدى إلى محنة شعبنا.!
-على الفكر العربي أن يتطور بما يستجيب للتحديات.
الدكتور حبيب حداد وزير الاعلام الأسبق، 1968، يعد أحد رموز مرحلة وطنية وقومية عرفت بغليانها وتقلباتها، أحلامها وإخفاقاتها، وهو منذ 1970 وحتى اليوم، معارضاً وطنياً صلباً في مواجهة نظام آل الأسد، الأب والابن، ومنذ قيام الثورة السورية استعاد حضوره الوطني عبر مشاركاته ومسماهماته العديدة.
للدكتور حبيب حداد العديد من الكتابات أهمها كتابه الأخير الذي صدر حديثاً (النهضة المعاقة).
1-تمر هذه الأيام ذكرى ثورة 23 يوليو/ تموز أين تضع هذه الثورة بما مثلته من مشروع نهضوي عربي في سياق حركة النضال القومي العربي، ماذا بقي منها.؟
ج 1_ لقد دشنت ثورة 23 يوليو/تموز أهم مرحلة في تاريخ مصر الحديث من حيث الإنجازات التي حققتها على طريق استكمال مقومات الاستقلال الوطني، وذلك مقارنة لها بمرحلة الإصلاحات التي قام بها محمد علي باشا خلال منتصف القرن التاسع عشر والتي رمت إلى نقل مصر من وضعية القرون الوسطى إلى دولة حديثة في مصاف الدول الاوربية. وكذلك مقارنة بنتائج ثورة الشعب المصري عام 1920 بقيادة سعد زغلول من أجل الاستقلال وإنهاء الوجود الاستعماري البريطاني.
وبإيجاز فقد مثلت ثورة يوليو في حينه أكبر مشروع نهضوي عربي في الفترة التي أعقبت تخلص معظم الدول العربية من السيطرة الاستعمارية المباشرة مطلع النصف الثاني من القرن العشرين وتجلى ذلك في الأهداف التي تبنتها والانجازات التي حققتها على مختلف الصعد الوطنية والعربية والعالمية.
فعلى الصعيد الداخلي وكما هو معروف حققت ثورة يوليو إصلاحات ومنجزات هامة في بناء اقتصاد وطني مستقل والقضاء على الاستغلال الطبقي وتعظيم دور القطاع العام مثل قوانين الإصلاح الزراعي والتأميم وتعزيز دور العمال والفلاحين والبورجوازية الوطنية وإصلاح ومجانية منظومة التربية والتعليم، ولا نغفل هنا ذكر بعضاً من أهم الانجازات التي تحققت في المرحلة الناصرية والتي يأتي على رأسها تاميم قناة السويس وبناء السد العالي وخطط التنمية الشاملة لمختلف قطاعات المجتمع.
أما على الصعيد العربي فقد دعمت مصر الناصرية دعمًا مطلقًا كل حركات التحرر الوطني العربية انطلاقًا من دور مصر الذي اضطلعت به كقائدة لمشروع نهضوي عربي تمتد آفاقه من مغرب الوطن إلى مشرقه.
لقد دعمت مصر الناصرية دعماً غير محدود كل القضايا المركزية للأمة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وثورة الجزائر والثورة اليمنية وكفاح شعب جنوب اليمن المحتل.
كذلك قادت مصر الناصرية كفاح الشعوب العربية في مواجهة المشاريع والأحلاف الاستعمارية التي استهدفت المنطقة وفي مقدمتها حلف بغداد الذي سمي بحلف المعاهدة المركزية ومبدأ ايزنهاور الذي سمي مبدأ سد الفراغ في الشرق الأوسط والذي استهدف وضع المنطقة تحت الهيمنة الامريكيه بعد الفراغ الذي نجم عن اندحار نفوذ كل من بريطانيا وفرنسا من المنطقة بعد حرب قناة السويس عام 1956. كما وقفت مصر الناصرية مع الأنظمة العربية التقدمية الأخرى في وجه مشروع الحلف الإسلامي محذرة من أخطاره على المنطقة كلها.
كما أن علينا هنا ان لانغفل دور مصر الناصرية في دعم ومساندة حركات التحرر والاستقلال على امتداد القارات الثلاث: أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ودورها البارز والمميز في إطار حركة عدم الانحياز.
لقد كان أهم الانجازات التي تحققت في المرحلة الناصرية استجابة لارادة الشعبين الشقيقين في كل من القطرين السوري والمصري بل استجابة لإرادة شعوب الأمة في كل أقطارها هو بناء دولة الوحدة التي كانت تعتبر بحق أكبر انتصار لإرادة الأمة في مرحلة تحرر معظم أقطارها من السيطرة الاستعمارية. هذا الانتصار الذي كما ذكرنا جاء تجسيداً لإرادة الشعب المصري بقيادة عبد الناصر وإرادة الشعب السوري بقيادة قواه الوطنية والتقدمية وفي مقدمتها حزب البعث العربي الاشتراكي، وهكذا كان وقوع الانفصال بعد مرور ثلاث سنوات ونصف على الوحدة وقيام الجمهورية العربية المتحدة أكبر الهزائم التي لحقت بالنضال العربي التحرري بعد نكبة فلسطين، وقد استدعى هذا الحدث الجلل كما هو متوقع من جميع القوى الوطنية والنخب الفكرية العربية أن تعيد النظر في ايديولوجياتها وبرامجها وممارساتها من أجل وعي علمي صحيح للتحديات والعقبات التي تعترض كفاحها في طريق تحقيق أهدافها: التحديات والعقبات الذاتية وتلك التي تمثلها القوى المعادية في النطاقين المحلي والخارجي.
لقد كانت هزيمة الخامس من حزيران وما خلفته من نتائج كارثية على مستوى الأمة كلها مناسبة أخرى أمام النظامين الوطنيين في كل من مصر وسورية من أجل مراجعة جذرية في سياساتهما وتصحيح شامل في أوضاعهما بما يكفل إقامة حياة ديمقراطية سليمة تؤمن للشعب في كل من البلدين أن يمارس حقوقه في إدارة شؤونه وصنع مستقبله، غير أن هذا الأمر كما هو معروف لم يحصل سواء نتيجة عجز وتردد القيادات المعنية في السير في طريق الإصلاح الجذري المطلوب، أو ان الظروف لم تسمح بذالك نتيجة رحيل عبد الناصر المبكر، وهذا كما رأى المفكر سمير أمين أن وفر للجناح اليميني المرتد في كل من النظامين الانقلاب على الوضع القائم لتبدأ مرحلة جديدة في كل من القطرين ما تزال مستمرة حتى اليوم، مرحلة كان أخطر مافيها خروج مصر من ساحة الصراع العربي الصهيوني وتراجع دورها المعهود أيام المرحلة الناصرية لا على الصعيد العربي فحسب وإنما أيضا على المستوى الدولي وفي كل المجالات.
الثورة المصرية انتهت أو على الأصح أجهضت بعد غياب عبد الناصر ولم يبق منها إلا التجربة الناصرية التي كان يتوجب علينا وما يزال استيعاب دروسها ووعي إيجابياتها وسلبياتها في ممارستنا لمهامنا الوطنية لتحقيق أهداف شعبنا.
التجربة الناصرية لا يمكن أن تستعاد و تبعث من جديد ولكن دروسها لا تزال تشكل معطى هاماً في تسليح وعينا وتسديد رؤيتنا على طريق تحرر وتقدم مجتمعاتنا العربية.
2- هل من أزمة بنيوية في الفكر القومي، على ضوء مواقف بعض التجمعات والمكونات القومية مما تتعرض له أمتنا وأوطاننا من مخاطر، ما مستقبل الفكر القومي.؟
ج 2_ في محاولة أولية لإيجاز المراحل التي قطعها الفكر القومي العربي منذ انبعاثه أواسط القرن التاسع عشر وحتى اليوم يمكن تمييزها بثلاث: المرحلة الاولى ركزت على إحياء الشعور القومي وتأكيد أصالة وجود الامة ودورها التاريخي ومساهمتها المميزة في مسار الحضارة الإنسانية، والمرحلة الثانية وهي مرحلة تحقيق الاستقلال الوطني وتجسدت في المواجهة المباشرة مع الاحتلال العثماني وعمليات التتريك وما اعقبه من احتلال الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية لمعظم الأقطار العربية، وكان أخطرها طبعًا مواجهة المخطط الاستعماري الصهيوني، أما المرحلة الثالثة الممتدة منذ خلاص الكيانات العربيه من السيطرة الاستعمارية المباشرة وبناء كيان الدولة- الامة في كل منها، أي الدولة الديمقراطية الحديثة التي تواكب مسار العصر والتي تمثل في الآن نفسه قاعدة الانطلاق نحو توحيد الكيانات العربية الأخرى وفق الصيغة التي توحد إمكاناتها وطاقاتها البشرية والمادية خدمة لمصيرها المشترك واضطلاعها بدورها في مواجهة التحديات والأخطار العامة التي تواجه عالمنا وتدعيم قضايا الحرية والعدالة والسلام في كوكبنا.
3-هل من علاقة بين الفكر القومي والاستبداد في ضوء تجارب الحكم العربية التي رفعت شعارات العروبة والقومية وانتهت نهايات مأساوية وبائسة.؟
ج 3_ استكمالًا لما طرحناه في إجابتنا عن السؤال السابق فقد فشلت معظم إن لم نقل كل تيارات حركة التحرر العربية، وفي المقدمة منها تلك التيارات التي تحسب على الفكر القومي العربي، والتي وصلت الى السلطة والسبب الأساس الذي أدى إلى هذا المصير في رأينا أن تلك الحركات فشلت فشلاً ذريعاً في الانتقال بعد الاستقلال من عالم الشعارات والايديولوجيا الى عالم الواقع والممارسة، فلقد رأت في الديمقراطية الليبرالية أداة القوى والطبقات البورجوازية والرجعية التي تكرس هيمنتها على المجتمع، وتبعيتها لقوى الامبريالية العالمية. وهكذا، فإن السبب الرئيس في فشل تجارب الحكم العربية كانت في عزلتها المباشرة عن شعوبها لغياب الديمقراطية حيث واجهت هذه الانظمة قوى الارتداد من داخلها التي قضت عليها بإقامة أنظمة استبداد عسكرية غاشمة تعاملت مع الأوضاع الدولية بما يؤمن إعادة إنتاجها واستمرارها في السلطة إلى أطول أمد ممكن، كما حدث في مصر وسورية والعراق وليبيا وغيرهما.
4 – لماذا وقفت معظم القوى القومية إلى جانب نظام الأسد، ألا يعود ذلك إلى ماهو أبعد من التفسيرات المتداولة عن الاختراق والارتزاق وعمى البصيرة.؟
ج 4_ في البداية أنا لدي اعتراض على تسمية هذه القوى بالقوى القومية العربية، وكذلك على تسمية حركة القومية العربية، وإن كنا نتفق على مضمون تلك التسميات وسأشرح ذلك في إجابتي على السؤال الذي يتلو هذا السؤال.
أما ما يتصل بهذا السؤال بالذات فالجواب على ذلك أن ليس كل القوى القومية أو التي تدعي ذلك لها نفس الرؤية السياسية أو نفس السلوك العملي سواء في نطاق كل قطر أو على الصعيد العربي العام، وأكثر من ذلك اذا ما دخلنا الى نطاق كل فصيل من التيار القومي العربي العام نجد نفس الحال فليس كل الناصريين اليوم تجمعهم وحدة في الموقف والممارسة تجاه أي من القضايا الأساسية وليس كل البعثيين موحدين تجاه هذه القضايا والأمر ينطبق أيضا على كل القوميين التقدميين في إطار الثورة الفلسطينية، هذا اذا لم نغفل هنا وجود نفس الظاهرة لدى الاتجاهات الماركسية داخل أطراف الحركة الماركسية السورية، وكذلك المجموعات والفرق المحسوبة على تيار الإسلام السياسي. السبب الأساس في هذا الواقع من وجهة نظري هو قصور الوعي السياسي في ظل حياة الارهاب والاستبداد والفساد التي عاشتها تلك القوى ثم يأتي بعد ذلك دور العوامل الاخرى كالاختراق والعمالة والارتزاق وضعف المناعة الوطنية والخلقية.
واذا كان لا بد هنا ان نوضح بعض النتائج المأساوية التي تكشف عن دور قصور الوعي لدى أغلبية النخب الفكرية والسياسية السورية والتي أسهمت الى حد كبير في المحنة التي يعيشها شعبنا اليوم، فهي أن هذه النخب كانت وما تزال تعلن منذ نهاية السنة الأولى للانتفاضة الشعبية بانه لا بد من القيام بمراجعة شاملة وموضوعية للأسباب التي أدت إلى انحراف هذه الانتفاضة، التي كان يمكن لها أن تكون مشروع ثورة تحرر وطني ديمقراطي لبناء دولة مدنية عصرية، قبل أن تتحول الى حرب أهلية داخلية وساحة صراع مباحة لتصفية الحسابات الدولية، ومواجهة كل الأخطار التي تهدد وحدة وكيان ومصير وطننا.
5- هل من مراجعات نظرية للفكر القومي العربي في ضوء ما كشفت عنه ثورات الربيع العربي.؟
ج 5_ في أعقاب هزيمة حزيران من عام 1967 وما أعقب ذلك من سقوط النظامين الوطنيين في كل من مصر وسورية، بقوى اليمين والارتداد في داخلهما، وما أعقب ذلك من هزائم ونكسات لحقت بحركة التحرر العربية وفي مقدمتها اتفاقات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة واحتلال العراق وتدمير كيانه، إلى انتفاضات ما سمي بالربيع العربي كان الفكر العربي ومايزال في عملية مراجعة وإعادة تقييم للنجاحات والاخفاقات التي مرت بها حركة التحرر وأسبابها سواء على صعيد الفكر والتنظير أم على صعيد الممارسة والتدبير، فلقد كان نصف القرن الماضي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية مرحلة استثنائية ومميزة في التأريخ الانساني، مرحلة الحرب بين قطبين دوليين يهيمنان إلى حد كبير على الوضع الدولي ومن ثم انهيار أحدهما ونعني بذلك ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي حيث انفرد الاخر أي المعسكر الراسمالي بالهيمنة على الوضع الدولي حتى وقت قريب، وترافقت هذه المرحلة بتطورات عاصفة على صعيد عولمة الاقتصاد وعولمة الثقافة مثل نظريات صدام الحضارات وبلوغ نهاية التطور الانساني والاجتماعي والموقف النقدي من الحداثة و الدعوة إلى تجاوزها إلى مرحلة ما بعد الحداثة.
كان وما يزال من الطبيعي والمطلوب أن تضطلع بمهمة هذه المراجعة جميع القوى والحركات السياسية وكان الأجدر أن ترعى هذه المهمة المؤسسات الرسمية المعنية ولكنها لم تقم بالاهتمام المطلوب حتى الآن.
في هذا الصدد كنت شخصيًا قد شاركت، ولو عن بعد، في توضيح وتطوير بعض المفاهيم الأساسية التي تشكل قوام البنية الفكرية والمفاهيمية لحركة التحرر العربية مثل، مفهوم الأمة ومقوماتها ومفهوم القومية العربية ومفهوم العلمانية، والديمقراطية، والأصالة والمعاصرة وغيرهما.
فبالنسبة لحركة القومية العربية حتى لايفهم من هذه التسمية أي مضمون اثني او عنصري مارسته بعض التيارات الشوفينية التي نسبت لنفسها تمثيل إرادة الأمة وأهدافها كان لا بد من الاستعاضة عن تسمية حركة القومية العربية بحركة التحرر العربية التي تعبر عن إرادة الامة العربية بكل شعوبها ومكوناتها الدينية والثقافية والاثنية،
فالأمة العربية ليست أمة مكون غالب واحد واعتبار المكونات الأخرى أقليات في المجتمع، فالأقليات والأكثريات هي حالات سياسية تتقرر وتتغير عن طريق عمليات الاستفتاء والانتخابات الدورية، كذلك فإن مايربط بين شعوب وكيانات الدول العربية ليس هوية القومية العربية وإنما هي الهوية العروبية التي هي الرابطة التي تجمع بين شعوب الأمة في ماضيها وتاريخها المشترك وفي مصيرها المشترك الذي يوحد امكاناتها البشرية والمادية من أجل بناء المستقبل الأفضل.
اما على صعيد كل بلد أو قطر من اقطار هذه الأمة حيث تواجه الهوية الوطنية والوحدة الوطنية أشد الأخطار والتحديات المهددة فينبغي لأي موقف وطني أو حراك سياسي مهما إدعى لنفسه من مشروعية أن يضع الهويات الجزئية الثقافية أو الاثنية أو الدينية أو الطائفية أو الجهوية فمثل تلك المواقف لن تكون في مصلحة الجزء اذ تقف ضد الكل كما لن تكون في مصلحة الخاص عندما تقف في مواجهة العام والمشترك.
6- هل من فرص لنجاح محاولات تأطير عمل قومي سياسي.. نضالي.. فكري، في ظل المعطيات الحالية، حتى ولو كان ضمن مفاهيم جديدة تستوعب الحالات الوطنية، وتتجاوز الفرقة والتشرذم بين مجموعات العمل القومي.؟
ج6_ ليس الأمر المطلوب اليوم أن نتساءل عن إمكانات تأطير عمل عربي تحرري نهضوي سياسي وفكري في ظل معطيات الواقع الحالي بل المطلوب الإقدام على محاولة إنجاز هذه المهمة التاريخية اليوم قبل الغد والتعامل مع الواقع بوعي موضوعي لكل الامكانات والمصاعب التي تعترض طريقها فباستيعاب صحيح لتجارب الماضي القريب والبعيد وبوعي مطابق لمعطيات الواقع الراهن في نطاق كل قطر وعلى الصعيد العربي العام و اطلاع كاف على دروس حركات التحرر العالمية يمكن المباشرة في تفاعل الجهود والإمكانات المتواضعة لوضع الأسس الكفيلة بتمهيد الطريق نحو تحقيق هذا الهدف.
أعتقد هنا أن البدء في تشكيل اللجان أو المجالس المحلية في بعض الاقطار العربية المعنية أكثر من غيرها بتحقيق هذا الهدف هي المهة الأولى التي ينبغي إنجازها في هذا السبيل.
7-مامعنى أن تكون عربياً، أو قومياً، اليوم، في ظل حالات الانفكاك عن كل ماهو قومي، هل الفكر القومي ماضوي أم حداثي مستقبلي.؟
ج 7_ لقد ظل الفكر العربي حتى اليوم في طابعه العام، وفيما يخص تياراته الرئيسية الثلاثة: تيار الإسلام السياسي والتيار الماركسي والتيار القومي أو الوحدوي، ظل فكراً ماضويا وسلفيا، فإذا كان الامر مفهوما بالنسبة لتيار الإسلام السياسي الذي يرى أن مستقبل الأمة يبنى بالعودة إلى ماضيها الذهبي المجيد فكيف نبرر دعوة التيار الماركسي الذي كان يرى أن رسالته تتمثل في نقل النموذج الواحد المثالي المتحقق مسبقاً في الدولة السوفياتية دون الأخذ بعين الاعتبار مستوى التطور الاجتماعي واختلاف الظروف التي يعيشها كل بلد وعلى وجه الخصوص عندما اتخذ موقفًا معاديا من الديمقراطية الليبرالية. أما التيار القومي فقد اتخذ نفس الموقف من الديمقراطية الليبرالية، كما رأى ان البلدان العربية في واقعها الراهن هي كيانات غير شرعية لأنها كانت صنيعة السيطرة الاستعمارية وأن المطلوب تجاوز هذا الواقع وبناء كيانات أكبر تفتح الطريق نحو تحقيق الوحدة العربية الشاملة، وذلك بدل أن تكون المهمة الأولى بناء أنظمة وطنية ديمقراطية في كل من هذه البلدان، أنظمة تجسد إرادة الشعوب العربية ومصلحتها في السير على طريق التكامل والوحدة، هذا الواقع هو الذي أدى بالفكر السياسي العربي أن يواجه أزمات وتحديات متلاحقة كانت وما زالت تستدعي منه التطور الدائم للتعامل باقتدار مع الظروف المحلية والإقليمية والدولية المستجدة.
8-كيف ترى مستقبل العرب والعروبة في ظل المشاريع المتغولة على المنطقة، من جوارها ومن القوى الدولية الكبرى، هل من مكان للعرب في عالم الغد.؟
ج 8_ إن الإجابة على هذا السؤال الأساسي الذي يتعلق بمصير الأمة حاضراً ومستقبلاً تستدعي منا أولاً أن نعي طبيعة الواقع العربي اليوم: ما هي التحديات التي تواجهها الشعوب العربية وماهي العوائق والكوابح الذاتية والخارجية التي تحول دون تحررها وتجهض نهضتها ومواكبتها لمسار التطور العالمي، هذا من جهة ومن جهة أخرى أن نعي طبيعة وحجم القدرات والإمكانات الذاتيه البشرية والمادية والحضارية والاستراتيجية الهامة التي تتوفر للأمة في مختلف أقطارها والتي اذا ما أمكن حشدها واستخدامها في اطار خطط تنموية شاملة ومستدامة يمكن أن تنقل واقع تلك الأقطار، اذا ما تكاملت وتوحدت امكاناتها، إلى مستوى الدول المتقدمة.
فالعالم العربي اليوم من أقصاه إلى أقصاه يعيش واقعًا مأزوماً، حيث العديد من بلدانه مهدد باستقلاله ووحداته الوطنية معرضة للتشظي والتجزئة. وأنظمة الحكم العربية في معظمها، إن لم نقل كلها، لا تمثل إرادة شعوبها بل انها تتسابق للانخراط في الأحلاف والمشاريع التي تطرحها الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية، تلك الأحلاف والمشاريع إذا ما تحققت في أرض الواقع فإنها تستهدف تصفية القضية الفلسطينية والأهداف المشروعة للأمة في التحرر والتقدم والوحدة.
وبإيجاز فليس أمام العرب اليوم، ونعني بذلك تحديدًا كل المجتمعات العربية، وهم في مثل هذه الحال من الهامشية والعطالة والانهيار، ليس أمامهم إلا طريقان أو خياران لا ثالث لهما: فإما الاستسلام لهذا الواقع والتعايش معه كمناطق نفوذ وأطراف ملحقة بالمحاور الدولية، وإما أن تتسلح نخبها السياسية والمدنية والثقافية بالوعي المطلوب والإرادة الفاعلة فتتجاوز تناقضاتها الثانوية وتتحمل مسؤوليتها التاريخية وتنطلق من الإعتماد على النفس بالدرجة الأولى وتنجح في تجسيد إرادة شعوبها بإنهاض الجبهات الشعبية الوطنية الديمقراطية في نطاق كل قطر وعلى صعيد الوطن الكبير، فهذا هو السبيل الوحيد في هذه المرحلة كي تستطيع شعوبنا العربية استعادة زمام المبادرة من أجل تقرير مصيرها وبناء مستقبلها المنشود.