انشغلت الساحة العراقية، قبل أيام، باشتباكات مسلحة شهدها قضاء سنجار الحدودي بين مقاتلين أيزيديين والجيش العراقي، والتي أفضت إلى “بسط السيطرة الأمنية” للقوات العراقية، فيما أسفرت عن نزوح قرابة ألفي عائلة، من المعقل التاريخي للأقلية الأيزيدية.
ورغم أن ما حصل كان بالصورة العامة “شأنا عراقيا بامتياز”، إلا أنه لم يكن كذلك، بالنظر إلى تبعات القصة في المحيط من جهة، وطبيعة الأطراف المسيطرة في المنطقة هناك، وخلفياتها وتشعباتها المعقدة، والمتموضعة على طول الجزء الشمالي من الحدود العراقية-السورية.
وبينما كانت الاشتباكات بين وحدات حماية سنجار، المتهمة بارتباطها بحزب العمال الكردستاني، والجيش على أشدها سرعان ما انعكست على الطرف الآخر من الحدود، حيث تسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال وشرق سوريا، والتي تعتبر “وحدات حماية الشعب” (YPG) عمادها العسكري.
ونشر سيامند علي، الناطق باسم هذه “الوحدات”، بيانا أبدى “استعداد” الأخيرة “للدفاع عن شنكال (سنجار) في كل لحظة”، بقوله: “نحن مقاتلو وحدات حماية الشعب لا نقبل أن يتعرض شنكال لهجمات جديدة”.
وقبل هذا الموقف كان آلدار خليل، عضو هيئة الرئاسة المشتركة لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” (الذراع السياسي للوحدات) قد تحدث، في شهر أبريل الماضي، عن “مخطط موحد وشامل. إذ سيشمل أولا جبال كردستان ثم شنكال وروج آفا كردستان”.
وأشار خليل إلى عمليات “تطويق” تعمل عليها تركيا من أجل حصار المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الكردية في شمال شرقي سوريا، أولا من خلال العمليات العسكرية التي تتم حاليا في شمالي العراق (المخلب – القفل)، وثانيا بواسطة “الجدار الذي يتم بنائه حول منطقة شنكال (سنجار)” من الجانب العراقي.
“تطورات بالتزامن”
رغم أن التحرك الأمني للجيش العراقي في قضاء سنجار ضد “وحدات الحماية” المسماة باسمه كان مفاجئاً، إلا أن سلسلة من التطورات كانت قد تزامنت معه وسبقته أيضا.
وجاء التحرك عقب إطلاق تركيا عملية عسكرية حملت اسم “المخلب القفل”، واستهدفت مواقع “حزب العمال” في شمالي العراق، ووفق ما تقول وسائل إعلام تركية فإن الهدف منها “إنشاء منطقة آمنة، وتطهير ممر الإرهاب في زاب وماتينا ومنطقة أفاشين – باسيان”، وبالتالي “قطع طريق خروج مقاتلي حزب العمال من جبال قنديل”.
ولا تزال العملية مستمرة حتى الآن، بحسب تصريحات المسؤولين الأتراك، فيما لم يحدد توقيتا زمنيا لها، على المدى القريب أو البعيد.
من جانب آخر، جاء تحرك الجيش العراقي في القضاء الحدودي بعدما شرع ببناء جدار إسمنتي عازل مع محافظة الحسكة السورية، بطول 250 كلم وارتفاع نحو أربعة أمتار.
ومن المقرر أن يشمل الجدار كامل الحدود السورية- العراقية، ويزود بأبراج مراقبة تتضمن كاميرات حرارية، إلى جانب أجهزة لرصد الحركة على الحدود، وهو الأمر الذي قوبل أيضا برفض من جانب مسؤولي القوات الكردية في شمال وشرق سوريا.
ماذا وراء الربط؟
وتتهم “وحدات حماية سنجار”، المنضوية كذلك ضمن “الحشد الشعبي” الجيش العراقي بأنه يريد السيطرة على المنطقة وطردها منها.
في المقابل، يريد الجيش العراقي تنفيذ اتفاقية بين بغداد وأربيل، تقضي بانسحاب المقاتلين الأيزيديين وحزب العمال الكردستاني من سنجار.
وكانت قيادة العمليات المشتركة العراقية قد أعلنت، قبل أيام، عن وصول “تعزيزات عسكرية” كبيرة إلى سنجار “لفرض القانون”. وأضافت في بيان أنها لن تسمح “بتواجد المجاميع المسلحة” في القضاء.
ولم تتضح صورة الميدان في المنطقة هناك حتى الآن، وعما إذا كانت الاشتباكات ستتجدد أم لا، فيما تحدث مراقبون لموقع “الحرة” عما وصفوها بـ”بؤرة التوتر”، التي قد تكون تداعياتها على طرفي الحدود.
واعتبر الباحث السوري المختص بالشؤون الكردية، بدر ملا رشيد، أن حكومة بغداد وحكومة إقليم كردستان تحاولان تطبيق اتفاقية “شنكال” بين الجانبين، والتي تم توقيتها في عام 2020.
وذلك من أجل “إعادة الأوضاع إلى طبيعتها، نتيجة إدارة المدينة من قبل مجموعات مسلحة غير شرعية، تسمى بوحدات حماية شنكال وهي تابعة لحزب العمال الكُردستاني”، وفق رأيه.
وتشمل أهم بنود الاتفاقية “وضع إدارة مشتركة من الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، وتوكيل مهمة الأمن للشرطة الاتحادية بالتعاون مع إقليم كردستان”.
ويضيف ملا رشيد، في حديث لموقع “الحرة”، أن للأمر انعكاسات على الوضع في شمال شرق سوريا، “نتيجة قيام حزب الاتحاد الديمقراطي، ووحدات حماية الشعب بربط مصير المنطقة بسياسات حزب العمال الكُردستاني الإقليمية”، معتبرا أن “حزب العمال يستخدم وحدات حماية شنكال، كقاعدة للتمركز والمرور إلى سوريا”.
لكن عضوة هيئة الرئاسة المشتركة لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي”، فوزة يوسف، ترى أن ما يحصل في سنجار “هي حرب على روج آفا أيضا”، في إشارة منها لمناطق شمال وشرق سوريا.
وتقول يوسف: “في البداية يخططون لخنق الإدارة الذاتية في شنكال واتباع ذلك بخنق الإدارة الذاتية في روج آفا. علينا أن نكون حذرين من هذا المخطط. علينا أن نقاوم هذا المخطط بكل السبل وإفشاله”.
واعتبرت أن “الهجوم الأخير هو نتيجة لمخطط مشترك بين حكومة الكاظمي وتركيا و”الحزب الديمقراطي الكردستاني”.
من جانبه يشير الباحث ملا رشيد إلى أن الربط الذي ذكره سابقا، انعكس “في تصريحات من قادة في قوات سوريا الديمقراطية كمحمود برخودان، ومؤخرا من قيادي من حزب الاتحاد الديمقراطي، ووحدات حماية الشعب بأنهم جاهزون للقتال إلى جانب حزب العمال الكُردستاني ضد بيشمركة إقليم كُردستان العراق”.
وفي أغسطس 2021، كان القيادي برخودان قد صرّح لوكالة “anha”، بقوله: “هناك مناطق تحت حماية قوات البيشمركة وأخرى تحت حماية قوات الدفاع الشعبي (الكريلا)” في شمالي العراقي، مضيفا “في حال هاجمت قوات البيشمركة قوات الدفاع الشعبي لن نقف على الحياد، أوضحنا موقفنا وطرفنا قبل الآن”.
وحذر القيادي بأن “قواتهم لن تقف مكتوفة الأيدي في حال واصل الحزب الديمقراطي الكردستاني هجماته على قوات الدفاع الشعبي”.
“اتفاق ومعضلة”
وفي أكتوبر 2020، توصلت الحكومة العراقية مع إقليم كردستان في شمال البلاد إلى اتفاق بشأن تسوية الخلاف على إدارة منطقة سنجار (كواحدة من أربع مناطق متنازع عليها) عبر نظام إدارة مشتركة، ونشر قوات شرطية اتحادية لفرض الأمن.
وشمل الاتفاق إنهاء وجود حزب العمل الكردستاني في سنجار، وكافة الكيانات المرتبطة به.
لكن المعضلة التي تواجه الحكومة المركزية في بغداد، بحسب المركز الأوروبي للعلاقات الخارجية، هي اندماج عناصر حزب العمال الكردستاني مع وحدات مقاومة سنجار التي تندرج تحت الحشد الشعبي منذ عام 2015.
ويرى الباحث السياسي العراقي، مجاهد الطائي، أن “هناك ربطا بين مناطق القتال الكردية على طول الحدود السورية العراقية التركية الإيرانية؛ وهو ربط يحقق التعاون والتنسيق ما بين الميليشيات الكردية”.
وتقوم تركيا بعملياتها العسكرية لفصل مناطق جبال قنديل عن جبال سنجار، كما يقوم الجيش العراقي ببناء سور على الحدود مع سوريا لفصل القضاء عن الحسكة السورية.
ويتابع الطائي في حديث لموقع “الحرة”: “بالتالي ستعزل كل منطقة وتضعف تحركات الميليشيات الكردية وهو ما حفزها للتعاون، لمواجهة التحركات العراقية والتركية”.
وتعتبر “سيطرة الجيش العراقي على جزء من المنطقة أفضل الحلول لفرض سلطة الدولة والسيطرة على الحدود السائبة منذ اجتياح داعش في 2014″، بحسب الطائي.
واعتبر الباحث السياسي أن سيطرة الجيش العراقي “ستحجّم وجود الميليشيات الكردية والشيعية وقد يمنعهم من عبور الحدود، كما يحد من توغل الجيش التركي الذي يتمدد بغياب سلطة الدولة وصراع الإرادات والولاءات للميليشيات والقيادات العسكرية”.
هل من حل جذري؟
وتعود القضية بمجملها إلى عام 2014، إبان هجوم تنظيم “داعش” على منطقة سنجار. وحينها تدخلت “وحدات حماية الشعب” على خط المواجهة، وقامت بفتح ممر لنقل النازحين إلى داخل الأراضي السورية في محيط مدينة ديريك/ المالكية، والكثير منهم لا يزال يسكن في مخيمات خصصت لهم.
فيما بعد تأسست “وحدات حماية سنجار”، والتي يوضح الصحفي، باز بكاري، أنها “تحمل ذات الفكر الذي تحمله وحدات حماية الشعب، ومرجعيتها الزعيم الكردي المعتقل لدى تركيا، عبد الله أوجلان”.
ويقول الصحفي لموقع “الحرة”: “أي ذات الخلفية الفكرية، وحتى في تأسيسها أيضا. فوحدات حماية الشعب في سوريا وحماية شنكال في العراق أشرف كوادر من حزب العمال الكردستاني على تدريبهما في بداية تأسيسهما”. وهو الأمر الذي لا تؤكده أي تصريحات رسمية من جانب “الوحدتين” في العراق وسوريا.
وحاول موقع “الحرة” التواصل مع “وحدات حماية الشعب” للحصول على تعليق، إلا أنه لم يتلق ردا حتى ساعة إعداد هذا التقرير.
لكن في التاسع عشر من أبريل الماضي، كان عضو هيئة الرئاسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم، قد أشار إلى أن “المرحلة التي نمر بها مرحلة حساسة وحرجة”، معتبرا أنها “مرحلة النهاية”.
وقال في حوار صحفي: “الهجمات ضد جنوب كردستان وروج آفا وبناء الجدار بين روج آفا وشنكال جميعها مرتبطة ببعضها البعض”.
وبعد قرار الجيش العراقي بتنفيذ الاتفاقية التي وقعت قبل سنوات مع حكومة إقليم كردستان بإنشاء إدارة مشتركة في سنجار، يُطَالب مقاتلو “حزب العمال الكردستاني” والمقاتلين المرتبطين به في سنجار بالخروج من المنطقة “على أساس عدم شرعية وجودهم كقوة مسلحة غير رسمية”.
بدوره يرى الصحفي بكاري أن “هناك تأثيرا للتجاذبات الإقليمية على هذا التحرك وفي هذا الوقت”.
ومن هذه التجاذبات “تحرك تركيا للتضييق على العمال الكردستاني ومن تجدهم امتدادا له في سوريا والعراق، إضافة إلى الصراع السياسي في العراق واصطفاف الصدر والحلبوسي وبارزاني وتشكيلهما لتحالف إنقاذ وطن”.
وبحسب الصحفي “لا يتوافق هذا التوافق مع المشروع الإيراني، عكس كتل أخرى كالإطار التنسيقي وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني. هذا التيار يجد فيه العمال الكردستاني أنه الأقرب له، وكل هذه الأسباب أدت لخلق هذا الاحتقان”.
ويتوقع بكاري أن يسفر الاحتقان عن “حل نهائي للقضايا العالقة”، معتبرا أن ما حصل “جولة من جولات قادمة، وسيتم تحريك هذه الأوراق حسب الوقت المناسب، وفقا للحسابات السياسية للدول والكتل السياسية في سوريا والعراق”.
من جهته وبينما يرى الباحث العراقي، مجاهد الطائي، أن “تحركات الجيش العراقي لن تؤدي إلى حل جذري، إنما ستحد من تطورات الأحداث وانعكاساتها على الوضع في المنطقة”، يشير إلى أن العمليات التركية – العراقية “ستمنع أو تحد من التنقلات بين الحدود لعناصر الميليشيات الكردية”، وذلك “ما سيجعلها تحت الضغط المالي والحصار العسكري، ويمنعها من خلق بؤر صراع جديدة وتمددها لمناطق أخرى أو توسعها”.
واعتبر الباحث أن تلك التحركات “منسّقة مع العراق في بغداد وأربيل”.
ويتابع: “وإن أتت تحركات الجيش العراقي متأخرة وكتعويض عن عدم تنفيذ اتفاقية سنجار التي كانت ستضعف أوراق إيران السياسية والعسكرية وتحركاتها في المنطقة، وتشكل خطرا على مصالحها وفق مشروعها التوسعي الذي يوظف الميليشيات في كل مكان، ويجد خطوط ونقاط التقاء مصلحية مشتركة تناكف تركيا في العراق وسوريا”.
“تقرير لافت”
وكانت التطورات المذكورة سابقا قد تزامن معها تقرير “لافت” لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، حيث أشار إلى أن استهداف تركيا للكوادر “المخضرمة” من “حزب العمال الكردستاني” في العراق دفع المقاتلين الأكراد إلى التعاون مع شريك غير متوقع.
وتعتقد المخابرات العسكرية الأميركية أن الميليشيات المدعومة من إيران تنسق مع المقاتلين الأكراد لشن هجمات على الوجود العسكري التركي في شمال العراق، وفقا لتقرير للمفتش العام في “البنتاغون” صدر في الثالث من شهر مايو الحالي.
ولطالما انتقدت الميليشيات البارزة المدعومة من إيران (الحشد الشعبي) علنا العمليات العسكرية التركية التي تستهدف مقاتلي “حزب العمال” في جبال شمال العراق، متذرعة بـ”انتهاك سيادة العراق”.
ووفقا للتقرير الذي رفعت عنه السرية، ونشرته وسائل إعلام أميركية فإن الميليشيات تقف أيضا وراء عدد صغير ولكن متزايد من الهجمات الصاروخية على القوات التركية في كل من العراق وسوريا في الأشهر الأخيرة.
وفي فبراير 2021، هددت حركتا عصائب أهل الحق والنجباء القوات التركية في شمال العراق، وأعلنتا “الاستعداد” للوقوف بوجه “قوات الاحتلال التركي” المتواجدة شمالي البلاد، في حالة “غزو مناطق جبل سنجار”.
كما أعلنت مجموعة “أصحاب الكهف” أنها هاجمت قاعدة عسكرية تركية عند الحدود مع العراق. ويعتقد مسؤولون عراقيون وغربيون أن مجموعة “أهل الكهف” هي “واجهة” لجماعات أخرى، بحسب ما نقلت “فرانس برس”، في ذلك الوقت.
وجاء في تقرير البنتاغون: “قيّمت وكالة الاستخبارات العسكرية أن الميليشيات ستستمر على الأرجح في التنسيق مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، وهو منظمة إرهابية أجنبية صنفتها الولايات المتحدة، ردا على الضربات الجوية والطائرات بدون طيار التركية على مواقع حزب العمال الكردستاني”.
المصدر: الحرة. نت