تركيا تستند في عملياتها العسكرية شمالي العراق، على “اتفاقية أنقرة” التي وقعتها مع بريطانيا والمملكة العراقية عام 1926 لتسوية نزاعها معهما بشأن السيادة على ولاية الموصل
برز خيار المنطقة الآمنة شمالي العراق إلى واجهة النقاش كأحد الحلول المطروحة أمام تركيا لمواجهة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، خاصة بعد عملية “قفل المخلب” العسكرية الأخيرة التي أطلقتها لتأمين عدد من المناطق المهمة والحساسة بالنسبة لها.
وأشارت وسائل إعلام تركية إلى أن الهدف الوحيد الذي ترسمه أنقرة لعمليتها العسكرية المستمرة يتمثل في تطهير ما تصفه بممر الإرهاب في زاب وماتينا وأفاشين باسيان، وإنشاء منطقة آمنة، في حين قال موقع “المونيتور” الأميركي إن “تركيا تسعى لإنشاء مناطق آمنة في شمال العراق، لمنع حزب العمال الكردستاني من القيام بعمليات في أراضيها”.
في ظل تلك الأجواء لم يصدر موقف تركي صريح بشأن هذا المسار، لكن محللين ومراقبين يتحدثون عنه كجزء من التصور التركي لإيجاد حل دائم لمسألة حزب العمال الكردستاني، خاصة مع وجود تجربة “ناجحة” لتركيا شمالي سوريا، رغم اختلاف الظروف والأسباب.
صعبة الهضم
غير أن هذا التصور يكتنفه الكثير من الصعوبات؛ ففضلاً عن رفض الكتل السياسية العراقية النافذة، فإن إقليم كردستان العراق الحليف الأبرز لتركيا، بدا قلقا من هذا المسار، باعتبار أن ميدان تلك المنطقة سيكون قرى ومناطق في الإقليم إذا ما نُفذ بالفعل.
في هذا الإطار، قال عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني محمد زنكنة، إن المنطقة الآمنة التي تخطط لها تركيا ستكون صعبة الهضم، خاصة على العراق وإيران، وحتى الجانب الأميركي، لعدة اعتبارات؛ أبرزها أن إيران تستقوي بحزب العمال الكردستاني على دول المنطقة، فضلا عن أن تلك المنطقة ستزيد الوضع تعقيدا، خاصة أن تركيا لا تترك المناطق التي تقع تحت سيطرتها.
ويرى زنكنة، خلال حديثه للجزيرة نت، أن هذا المسار يمكن الاستعاضة عنه بالخطة التي طرحها رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني عام 2008، وهي تتضمن اتفاقا رباعيا، بمشاركة الولايات المتحدة وتركيا والحكومة الاتحادية العراقية، وكذلك حكومة كردستان العراق، وتنص على إخراج عناصر حزب العمال من العراق، وإجراء مصالحة شاملة في تركيا، بالإضافة إلى وجود حل جذري لمسألة وجودهم الدائم”. ويؤكد أن “مواجهة حزب العمال الكردستاني يجب أن تكون سياسية، وتنبع من داخل تركيا”.
وتثير العمليات العسكرية التركية بشكل دائم الجدل في الأوساط السياسية والمحلية العراقية، باعتبارها خرقا لسيادة البلاد، في حين تعبر حكومة بغداد وكذلك حكومة الإقليم عن قلقها إزاء تلك العمليات العسكرية وتصفها بأنها “خرق للسيادة العراقية وتهديد للأمن القومي العراقي”.
ورغم إنشاء تركيا منطقة آمنة شمالي سوريا، فإن الوضع العراقي يختلف لجهة عدم وجود نازحين لإسكانهم في تلك المنطقة، كما حصل مع السوريين، لكن بوجود مأزق حزب العمال الكردستاني، وطول الصراع مع تركيا، قد يجعل هذا المسار واقعاً، في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية الجانحة نحو تصفية الخلافات وتصفير المشكلات البينية.
الموقف العراقي
ويقول الخبير الأمني القريب من الدوائر العسكرية العراقية فاضل أبو رغيف إن النقاش الدائر بشأن عزم الجانبين العراقي والتركي على إقامة منطقة عازلة (آمنة) غير مطروح لدى قيادة الجيش العراقي، إذ إن أي تفاوض عراقي-تركي مبني في الذهنية العراقية على ضرورة جلاء تلك القوات وهو ما تصر عليه القيادة العسكرية العراقية.
ويرى أبو رغيف خلال حديثه للجزيرة نت، أن مسار المنطقة الآمنة ليس خيارا لدى القيادة العراقية، لكن هناك أيضا خطط للتعاطي مع حزب العمال الكردستاني؛ فإما التعامل معه بطريقة سياسية براغماتية لإنهاء الأزمة، وإلزامه بعدم اتخاذ الأراضي العراقية نقطة انطلاق أو عدوان على أية دولة، خاصة تركيا، أو الرحيل عن البلاد.
في هذا الإطار، يؤكد مستشار عسكري في مستشارية الأمن القومي العراقي، أن “التقارير المتداولة عن مسألة المنطقة الآمنة، لا تستند إلى وقائع على الأرض، فالعراق نظامه ديمقراطي ويتمتع بسيادة تامة على أراضيه، وإذا كانت هناك بالفعل مشكلة في بعض الأجزاء، فإن رؤيتنا للحل واضحة، ونتحدث بشكل دائم مع الجانب التركي”.
ويضيف المستشار العسكري الذي رفض الكشف عن اسمه للجزيرة نت، أن “مقاربة المنطقة الآمنة، بعيدة عن الميدان، لكن التحركات الجديدة سواء من الجانب التركي أو حتى العمليات العسكرية العراقية الجارية في سنجار، تأتي ضمن متغيرات دولية وإقليمية، يتعلق بعضها بملف الغاز الذي تضرر جراء الحرب الروسية الأوكرانية”.
وبدا لافتا إطلاق الجيش العراقي قبل أيام عملية عسكرية ضد عناصر حزب العمال الكردستاني في قضاء سنجار التابع لمحافظة نينوى، والقوات الموالية له هناك المعروفة باسم ” يبشه”، وهي المواجهة المسلحة الأكبر منذ سنوات، في حين بدا تحركا جديا من بغداد، تجنبا لسيناريوهات قد لا تكون في صالحها.
تاريخ من النزاع
وتكتسب المنطقة التي انطلقت فيها العملية التركية الأخيرة أهمية كبيرة، كونها ممرا إستراتيجيا بري لـ”حزب العمال” إلى تركيا، كما تتسم طبيعتها بالتعقيد، مع وجود الكهوف والتحصينات؛ مما يستدعي -وفق خبراء- البقاء العسكري الدائم فيها لتأمينها بعد السيطرة عليها.
وتستند تركيا في عملياتها العسكرية الدائمة شمالي العراق على “اتفاقية أنقرة” التي وقعتها مع بريطانيا والمملكة العراقية عام 1926 لتسوية نزاعها معهما بشأن السيادة على ولاية الموصل شمالي العراق، إذ قضت بتبعية الموصل للعراق على أن تحصل تركيا على امتيازات بينها نسبة من عائدات نفطها مدة ربع قرن، ورسّمت الحدود بين البلدين.
لكن أنقرة تقول إن المعاهدة تتضمن بنداً أساسياً لمكافحة تهديدات أمنها القومي القادمة من شمال العراق، كما أن الساسة الأتراك يذكرون بشكل متكرر بتلك الاتفاقية على أنها تسمح بالتدخل العسكري في شمال العراق، لمنع أي تهديدات على أمن بلادهم القومي القادمة من هناك.
ويخوض حزب العمال -الذي تصنفه أنقرة وحلفاؤها الغربيون منظمة “إرهابية”- تمردا ضد الدولة التركية منذ عام 1984.
المصدر: الجزيرة. نت