ربما يسأل سائل، لماذا في العراق بلد التقاليد العسكرية العريقة والجندية الأصيلة، يقبل ضابط كبير له سجل حافل بكل ما هو مشرف، وبالبطولات الوطنية والقومية، وشغل مناصب عسكرية رفيعة عالية، بما فيها منصب قائد فرقة وقبلها آمر لواء مدرع، أن يقبل تولي منصب آمر لواء فقط؟ أهي عقوبة له بسبب خطأ في مسيرته العسكرية؟ أم ماذا؟ لا سيما وأن انشغال الجيش العراقي بهموم الأمة ودفاعاً عن أمنها القومي، ومعارك الحفاظ على وحدة التراب الوطني ونشر الاستقرار في عموم الساحة العراقية، قد دفع بكثير من القيادات العسكرية الشابة إلى الواجهة، فتسلموا إمرة ألوية فعالة بعد أن أثبتت المعارك التي خاضوا غمارها أنهم مبدعون في إدارتها وتحقيق الانتصارات بأقل الخسائر، فكان حريا أن يتقدموا في سلم القيادات العسكرية في العراق الجديد.
هل يُعقل أن يرضى ضابط له كل هذا السفر الكبير من الانجازات المشهودة، مثل اللواء الركن دخيل الهلالي الذي سبق أن شغل منصب آمر لواء مدرع ثم قيادة الفرقة السادسة الفعالة؟ أن يشغل منصب آمر لواء مهمات خاصة لا يزيد موجوده عن 1100 متطوع؟
تبدأ الحكاية في تشرين الأول عام 1981، عندما أعلنت القيادة عن تشكيل ألوية المهمات الخاصة، لتكون قوة مدربة من داخل التنظيم الحزبي فتشد عضد القوات المسلحة بقوات يشعر متطوعوها أنهم يحملون على أكتافهم همين، هم الوطن المستهدف من وصول خميني إلى السلطة في إيران، وهم تجربة حزبهم الذي آمنوا بأهدافه الوطنية والقومية، فانضموا إليه وأقسموا على الدفاع عنه في كل الظروف ومهما قست عليهم.
كنت حينذاك عضو قيادة فرقة في تنظيمات الحزب في فرقة اليرموك، كان الرفيق دخيل الهلالي رفيقا لنا صاحب تجربة عميقة في الحياة، وكنا ننهل من خبرته الشيء الكثير، بعد إحالته على التقاعد من الجيش، وبعد بدء العدوان الإيراني في 4 أيلول 1980، رأت القيادة، أن وجود اللواء الركن الهلالي في موقع على صلة فعالة في حركة القطعات ونقل الأسلحة والعتاد، فاختارته ليرأس المؤسسة العامة للنقل البري، التي ترتبط بها المنشأة العامة للنقل البري والمنشأة العامة لنقل المسافرين والمنشأة العامة للسكك الحديد، ومعرفة واجبات هذه الجهات في تسهيل حركة الجنود وتنقل القطعات ونقل الأعتدة والأسلحة، وبالفعل فقد وضع الخطط اللازمة بما يؤمّن انسيابية كل ما يراد من مؤسسته نقله، في ذلك تطوعنا معا لألوية المهمات الخاصة، كنت حينها مديرا عاما لدائرة الإعلام الداخلي في وزارة الثقافة والإعلام، وعقدنا العزم معا على أن ننجز مهمتنا على الوجه الأكمل وعلى الله المقادير.
انتقلنا إلى معسكر الورار لغرض التدريب، لم يكن اللواء الركن الهلالي ليتذمر من نوعيات التدريب الابتدائي، ولم يعلن شيئا عن وضعه العسكري، ولكن الظروف تغيرت بعد زيارة الرئيس الشهيد صدام حسين لمعسكرنا في شباط 1982، وذلك عندما عرف بوجوده ضمن اللواء 11 مهمات خاصة، فعرض عليه بما يُعرف عن الرئيس الشهيد من تهذيب وتقدير للّبنات الأساسية التي بُني منها الجيش العراقي، وتقدير خاص للضباط الذين تركوا بصماتهم الواضحة في سجل انتصارات القوات المسلحة العراقية وخاصة من كبار السن، عرض عليه فكرة أن يتولى ضباط من الجيش قيادة ألوية المهمات الخاصة، ذلك أن الألوية العشرة الأولى أي من اللواء 1 إلى اللواء 10 مهمات خاصة أنيطت إمرتها برفاق حزبيين، قد يكونوا ممن كانت له تجربة عسكرية، أو لم تكن له، عندما تحدث الرئيس الشهيد في هذا الأمر مع اللواء الركن دخيل الهلالي، قال له هذا هو الإجراء الصحيح، ثم قال للرئيس دون أن يسترد أنفاسه، وأنا جاهز لتولي إمرة أي لواء يتشكل من المهمات الخاصة، ضحك الرئيس الشهيد وقال حسنا إذا لم ترَ في ذلك بأسا فتول إمرة اللواء 11 الذي تنتمي إليه، ومتى ما رأيت أن نُغير وضعك فاتصل بمكتبي وأبلغهم برغبتك.
وبعد تدريبات لم تُكتمل، وبسبب وجود حاجة ملّحة لجبهات القتال التي تبتلع الكثير من الرجال والعتاد، تحرك لواؤنا إلى القاطع الجنوبي يوم 16 آذار 1982، وهناك وبعد لقاءات سريعة مع قيادة الفيلق الرابع والفرقة العاشرة والفرقة الأولى، تم تنسيب لوائنا إلى قاطع الفكة، ومضينا إليه في ليلة مطرة، وكأن الغيوم اختزنت ما في جوفها لعام كامل ثم أفرغته في ليلة تحركنا إلى هناك، ربما كان ذلك حماية إلهية لنا من غدر الغادرين الذين يترصدون تحرك القطعات فيغدروا بها وهي في حالة عدم استعداد، مضت الأيام وهي حبلى بمواليد كثار.
وصل لواؤنا اللواء 11 مهمات خاصة، إلى القاطع قبل أيام قليلة من بدء الهجوم الإيراني، وكان علينا أن نحتل مواقع قاطع من قواطع الجيش الشعبي في جبل المشداخ، على العموم في 24 آذار من كل عام أكاد اختنق عندما أتذكر أنه اليوم الذي شعرت فيه بالضياع لأول مرة في حياتي ولكن أي ضياع، على كثرة ما صادفت من محن ومتاعب، لم أكن لأتصور أنني سأواجه مثلها مرة أخرى، وإذا بجبل المشداخ في عمق الأراضي الإيرانية، يقول لي، تريث قليلا فإن هذا اليوم لن يكون أسوأ ما مر بك، بل ستمر عليك أهوال وأهوال وما عليك أن توطن نفسك على تحملها سواء جزعت منها أو صبرت عليها.
يوم الأربعاء 24 آذار 1982، كان اليوم الرابع لبدء إيران هجومها الواسع، على قاطع جبهة الفكة في محافظة ميسان، وأطلقت عليه القيادة الإيرانية اسم عملية “الفتح المبين”، والتي كانت تهدف إلى استعادة أراضٍ إيرانية بعمق يزيد على 90 كيلومتراً، وتمتد على مساحة شاسعة، وكانت ضمن عمليات الفيلق الرابع، بقيادة الفريق الركن هشام صباح الفخري رحمه الله، وتحت إمرته الفرقة الأولى والفرقة العاشرة، وهناك قوات تجحفلت مع القوات التي جُلبت من قواطع أخرى على عجل، لا سيما ألوية المهمات الخاصة، التي كان مقرراً إرسالها إلى جبهات أخرى، ولكن تواتر المعلومات الاستخبارية الموثوقة عن استعدادات إيرانية لشن هجومها على القاطع، دفع بالقيادات الميدانية إلى طلب المزيد من القوات من أجل ترصين القاطع وزيادة فعاليته القتالية أمام الهجوم المنتظر.
لست عسكريا كي أصدر تقييما منصفا لقادة كبار تم وضعهم في مواقع قيادية ميدانية عليا، ولكنني أقول بلا تردد، إن للحرب ظروفها وشروطها، لا سيما إذا باغتنا عدو لئيم غادر، بأطماعه التوسعية التي لا تعرف حدودا جغرافية أو سياسية أو قانونية أو أخلاقية، لنزعة الشر التي اختزنها عمرا طويلا، ومع ذلك فقد عشت في وسط عدد كبير من القادة العسكريين العراقيين الكبار، لمدة تزيد على عشر سنين، لعل أكثرهم بروزا في العلوم العسكرية اللواء الركن دخيل علي الهلالي، آمر لواء المهمات الخاصة 11، الذي كنت انتسب إليه، هذا إضافة إلى أعداد من حملة الرتب العسكرية الكبيرة، ممن شغل منصب آمر لواء مثل العقيد الركن نريمان بكر سامي آمر اللواء 96 مشاة، والذي تجحفل لواؤنا معه وكان يشغل جبهة عريضة في قاطع الفكة، لعل أخطرها وأكثرها قربا من مواضع العدو الإيراني في جبل المشداخ الجبل العصي على حركة القطعات، والعقيد الركن سردار بهاء الدين آمر اللواء الأول، والعقيد الركن خطاب عمر وهو آمر لواء أيضا، والعقيد الركن عبد الكاظم الأسدي آمر اللواء 111، والعميد الركن جميل أحمد حسين البياتي، واللواء الركن علي حسين عويد قائد قوات منطقة حلبجة “فرقة في طور التأسيس”، هذه العقليات العسكرية الكبيرة، أجمعت على أن الأخطاء التي ارتكبتها القيادة الميدانية وانعدام حالة الانسجام بين “قائد الفيلق الرابع وقائد الفرقة العاشرة”، أدت إلى الارتباك الكبير الذي حصل في جبهة القاطع، وما تركه من تداعيات على طول جبهة الحرب عام 1982، وخاصة ما حصل بعد ذلك في عمليات الطاهري والمحمرة، ففي الأولى أشارت تقارير غير موثوقة إلى وقوع 15 ألف أسير عراقي، وفي الثانية 19 ألف أسير عراقي، وربما اعتمدت تلك التقرير إلى ما كان يصدر من بلاغات عسكرية إيرانية مبالغٍ فيها، وعلى العموم كانت خسائرنا في تينك المعركتين كبيرة.
كانت قيادة العراق السياسية والعسكرية، مضطرة للتعامل مع الظرف الذي أوجده وصول خميني إلى السلطة في إيران، وما رفعه من شعارات استفزازية وعدوانية توسعية مثل شعار تصدير الثورة سيء الصيت، بما يمليها عليها واجبها الوطني في حماية العراق، فاضطرت لدخول حرب الكرامة والسيادة ودفاعا عن الشرف الوطني وحماية للأمن القومي العربي، حتى تكللت المعركة بعد ثماني سنوات مثقلة بأوزار الحرب، بنصر لامع للعراق تمثل بإعلان الخميني صاغرا القبول بقرار مجلس الأمن الدولي 598، بعد أن تجرع كأس السم.