على الرغم من كثرة الاتفاقات التي شملت محافظة درعا على مدار السنوات الماضية، وكان آخرها اتفاق التسوية لعام 2021، فإن ثمة مؤشرات متزايدة على أن المحافظة الجنوبية لا تزال بعيدة من حالة الاستقرار، لا سيما في ظل تصاعد عمليات الاغتيال المتبادلة بين قوات الجيش السوري والفصائل من جهة، والمجموعات الرافضة لهذا النهج من جهة ثانية.
بعض التطورات الأخيرة في المنطقة أضعفت الأمل بتراجع نفوذ إيران في المنطقة، والذي ترافق مع تقدم مفاوضات الاتفاق النووي، حيث بدا جلياً بحسب الأجواء السائدة أن إيران عبر ميليشياتها العديدة لا تزال تؤدي دوراً محورياً في ملف الجنوب السوري. ولعلّ الانشغال الروسي في حرب أوكرانيا، وعدم رضا موسكو عن موقف إسرائيل من هذه الحرب، قد دفعا موسكو إلى غض الطرف عن المساعي التي تبذلها إيران لتعزيز نفوذها في المنطقة المحاذية لإسرائيل.
تحرّكات عسكريّة لافتة
لاحظ موقع “تجمع أحرار حوران” أنه مع الانشغال الروسي في الحرب الأوكرانية، لم يكن من خيار أمام موسكو سوى فسح المجال لقوات النظام والميليشيات الإيرانية لتقوية سيطرتها في سوريا، منعاً لحدوث أي اختراق لما حققه النظام بدعم روسي، وهذا ما يفسر غلبة الجناح الإيراني في الآونة الأخيرة حتى في تعيينات الضباط ومناقلاتهم وتحركاتهم.
وانطلقت الشرارة الأولى لهذه المناقلات التي أشار إليها الموقع السابق، مع اغتيال الرائد ماهر وسوف، وهو مسؤول معبر نصيب بين سوريا والأردن. وقد جاء الاغتيال نتيجة الموقف الوسطي الذي حاول وسوف اتخاذه لمعالجة ملف التهريب الذي بات نقطة توتر رئيسية بين عمّان ودمشق. ويبدو أنه دفع حياته ثمناً لهذا الموقف الوسطي الذي لم يلق ترحيباً من قبل الجماعات المستفيدة من التهريب وعوائده. لكن اغتياله شكل منعطفاً رئيسياً في تطورات درعا، لا سيما بعدما استندت إليه دمشق لإجراء مناقلات لافتة في صفوف الضباط المسؤولين عن ملف الجنوب.
فقد تقرر نقل الرائد رئيس مفرزة الأمن السياسي في مدينة إزرع، يحي ميّا، وتعيينه مسؤولاً عن معبر نصيب الحدودي، ويُعرف عن ميّا أن توجهه بالكامل هو نحو إيران، وفق “تجمع أحرار حوران”، كما تم نقل العميد عقاب صقر إلى مدينة الحسكة، وعزل رئيس فرع الأمن السياسي بدرعا العقيد أسامة أسعد من منصبه ونقله أيضاً. وفي مقابل ذلك، تم تعيين العميد بسام شحادة رئيساً لفرع أمن الدولة في درعا خلفاً للعميد عقاب صقر عباس، والعقيد سامر سويدان المتحدر من ريف بانياس، رئيساً لفرع الأمن السياسي بدرعا.
البعد العشائري
الأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها محافظة درعا لتنفيذ مشروع إيران في سوريا، والتي اكتسبتها خاصة نتيجة لموقع المنطقة الذي يتميز بأنه استراتيجي مهم، لقربه من الحدود مع الجولان المحتل والأردن، دفع إيران على مدار السنوات الماضية إلى إيلاء المنطقة اهتماماً خاصاً، تمثل في جهودها لتجنيد مئات من أبناء المنطقة في صفوف ميليشياتها عبر “حزب الله” اللبناني، وبعض القادة المحليين الذين تربطهم علاقات مباشرة مع الحرس الثوري الإيراني. غير أن الجهود الإيرانية بدأت منذ فترة تتخذ منحى مغايراً تمثل في محاولة تجنيد بعض قادة رأي وجهاء عشائر لضمان وجودها في المنطقة على المديين المتوسط والطويل، عبر شراء الولاءات من وجهاء عشائر، ومثقفين وطلاب علم.
ويعتبر عبد العزيز الرفاعي من أبرز الشخصيات العشائرية التي تمكنت إيران من تجنيدها في هذا السياق. وقد منحته طهران صفة شيخ وساعدته في الوصول إلى مجلس الشعب، وهو سبق أن زار إيران أكثر من مرة قبل وصوله إلى مجلس الشعب، وتصديره للشارع في المنطقة كوجه اجتماعي بارز يسعى إلى حل الخلافات وإصلاح ذات البين.
ويعتقد بعض الأهالي في المنطقة أن زيارة الرفاعي لإيران كانت بهدف تقديم الطاعة والولاء، مقابل حصوله على بعض النفوذ المجتمعي، ودعم كامل من إيران عبر الفروع الأمنية التي تسيطر على المنطقة والتي ستدعو الرفاعي إلى كل المناسبات العامة والخاصة.
من ناحية أخرى، عزز وجود الرفاعي في صف إيران موقف بعض أفراد عائلته المستفيدين من اتفاقات التسوية، ونجح بعضهم في الوصول إلى مناصب قيادية في المحافظة، من بينهم حسين الرفاعين، وهو أمين فرع الحزب في المحافظة، والقيادي السابق في المعارضة، محمد علي الرفاعي، المعروف محلياً بـ”أبو علي اللحام” الذي عاد من الشمال السوري المحرر إلى مسقط رأسه في أم ولد ليتزعم مجموعة عسكرية تعمل لمصلحة الميليشيات الإيرانية في المنطقة، وتؤدي وظيفة اعتقال واغتيال معارضي النظام وإيران في المنطقة، وتسهيل عمليات تهريب المواد المخدرة وترويجها.
ويأتي توسع النفوذ الإيراني في درعا في ظل تطورات دولية وإقليمية معقدة، ترافقت مع استمرار الحرب الروسية ضد أوكرانيا. ورغم أن التنسيق الروسي – الإسرائيلي في سوريا لم يتأثر حتى الآن بالسجالات السياسية التي أثارتها بعض مواقف تل أبيب الرافضة للغزو الروسي، إلا أنه من الواضح أن بعض مواقف وزارة الخارجية الإسرائيلية التي أدانت العملية الروسية واتهمت موسكو بممارسة جرائم حرب، قد جعلت روسيا تغضّ الطرف عن التطورات التي يحفل بها المشهد الجنوبي، في رسالة تحذير إلى تل أبيب بأن استمرارها في اتباع السياسة نفسها قد يدفع موسكو إلى التنصل من بعض بنود اتفاق “منع التصادم” الذي توصل إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، ونجح رئيس الوزراء الحالي نفتالي بينيت في تجديده.
كما أن التغاضي الروسي عن توسع إيران في درعا، وغض الطرف عن عودتها إلى سياسة التجنيد لمصلحتها، يتناغمان إلى درجة كبيرة مع تفاهمات عديدة بين إيران وروسيا، في الآونة الأخيرة، من أجل إعادة ترتيب المشهد العسكري السوري بما يتناسب مع انشغال موسكو في أوكرانيا وعدم تمكنها من التفرغ لتفاصيل بعض الملفات السورية، ما جعل إيران المرشح الأول لينوب عن موسكو في أداء هذه المهمة.
المصدر: النهار العربي