قراءة في رواية: ثورة الذاكرة

أحمد العربي

آية محمد العاسمي روائية سورية، وهذا أول عمل لها، هي مازالت في مقتبل عمرها. قدّم للرواية الباحث السوري رياض نعسان آغا، واثنى على الرواية وعلى الموهبة المبكرة لآية العاسمي.

تعتمد الرواية طريقة السرد بلغة المتكلم على لسان شخصيتها المحورية أمل، حيث تتعاقب الفصول منذ بداية الثورة السورية في درعا في أواسط شهر آذار عام ٢٠١١م. كما تقاطعها فصول تحت عنوان متكرر “الآن” وتقصد عام ٢٠١٨م وقت تدوين الرواية. لتكتمل الرواية في ختامها حيث تصل إلى منتهى أحداث الثورة السورية وكيف عاشتها أمل ومن حولها حتى أواخر عام  ٢٠١٨م.

تبدأ الرواية من عودة أمل إلى سورية عام ٢٠١٨م. تختم جوازها في المطار قادمة من ألمانيا، تعود الى مدينتها المدمرة درعا. وإلى ما تبقى من أهلها في دمشق. كما تعود في ذاكرتها إلى بدايات الثورة السورية أوائل عام ٢٠١١م.

تتحدث أمل عن بدايات تشكل نويات من الشباب في مدينة درعا بدء من شهر كانون الثاني، متأثرين بثورات الربيع العربي التي حصلت في تونس ومصر وامتدت إلى ليبيا واليمن بعد ذلك. لم يكن ينقص الشباب الدافع للثورة على النظام المستبد؛ فكل ما يعيشونه يدفعهم للثورة، الفساد والبطالة والمحسوبية والقمع والاستبداد، الطائفية والظلم وتغوّل أجهزة السلطة على المواطنين وحقوقهم، كل شيء في سورية يستدعي الثورة. لكنّ النظام وبلسان رأسه الأسد الإبن تحدث عن استحالة ذلك في سورية، لأن الشعب والسلطة في سورية على تواؤم كما ادّعى، والحقيقة هي أنه كان واثقا من درجة قمعه وهيمنته على المجتمع السوري. لكن الحراك في سورية بدأ فعلا، جنينيا في سوق الحريقة حيث واجه مواطن شرطي بالقول: الموت ولا المذلة، وكذلك في سوق الحميدية جوار الجامع الأموي حيث تحرك بعض الشباب بتظاهرة  يطالبون بالإصلاح والتغيير.

 في درعا كتب بعض الأطفال على سور مدرستهم جملتهم الشهيرة” جاك الدور يا دكتور” والتي أدت إلى إعتقال عدد من الأطفال والتنكيل بهم، وعندما ذهب ممثلوا الأهالي والوجهاء لمقابلة مسؤول الأمن عاطف نجيب قريب رأس النظام، قابلهم بشكل سيء وسفيه ولا أخلاقي، ومن ثم سلّم الأمن الأطفال لأهاليهم مقتولين وعليهم آثار التعذيب. أدى ذلك إلى إشعال فتيل الثورة في درعا. بدأ الشباب في التظاهر وكان الجامع العمري في مدينة درعا مركز تجمع واحتشاد الشباب لأجل الإنطلاق بالتظاهرات.

 أمل تنتمي لأسرة درعاوية، لها ثلاثة أخوة ذكور يكبرونها وهي الأصغر. الأكبر حازم كان كتوما، وظهر أنه حيادي اتجاه الحراك الثوري الذي بدأ في درعا ومن ثم أمتدّ ليصل لكل سورية. الثاني عماد اختار منذ البداية أن يلتحق بصفوف النظام ويصبح شبيحا. مختلفا مع المزاج العام للعائلة كلها، وسرعان ما أصبح منبوذا. غادر البيت نهائيا وبقي على تواصل مع أمه بالسر، يحادثها بالهاتف على فترات. الثالث كان جلال الأخ الذي كان إبنا للثورة وأصبح أحد ناشطيها الاساسيين في درعا، كان له دورا اعلاميا ايضا. تتحدث أمل عن تطور الحراك الثوري والتظاهر في درعا، وكيف اندفع الشباب يطالبون بالحرية والكرامة والعدالة والحق بالحياة الأفضل، وكيف بدأ النظام بمواجهة التظاهر بالسلاح الحي، وسقوط الشهداء الضحايا، وكيف تطورت شعارات الحراك لتصبح ثورة، وتدعو لإسقاط النظام. وكيف اضطّر الشباب الثائر للتسلح ببعض البنادق لحماية التظاهر. لكن النظام طوّر هجومه لتطال البنية المجتمعية الحاضنة للمتظاهرين. لقد أصبحت بعض البلدات والمدن خالية من سلطة النظام، يعني تحررت، لكنها أصبحت تحت القصف بجميع أنواع الأسلحة من المدفعية والصواريخ والطيران عبر براميله المتفجرة، لقد استباح النظام المجرم حياة الناس وبيوتهم، مما دفعهم للهروب داخل سورية من مناطق منكوبة مستهدفة إلى أخرى أقل استهدافا، وكذلك خارج سورية، إلى دول الجوار لبنان والأردن والعراق وتركيا، والكثير منهم أكمل طريقه مغامرا بحياته إلى أوروبا.

انتقلت عائلة أمل الأب والأم وأمل وجلال الى بيتهم الثاني في دمشق بعد أن أصيب منزلهم وتدمر، هم لم يتأذوا، لكن عائلة عمها استشهدت بالكامل تحت انقاض بيتهم الذي قصف، ولم ينجو منهم إلا ابنهم زياد الذي لم يكن في البيت وقتها، والتحق بعائلة عمّه والد أمل، وكان ناشطا ثوريا من جلال أخا أمل. في دمشق إمتدْ الحراك الثوري، وعنف النظام، واصبحت حياتهم مهددة هناك أيضا، لذلك أخذت العائلة قرارها أن تغادر إلى تركيا، ومن هناك إلى أوروبا. غادر الأب والأم وأمل وأخاها جلال وإبن عمها زياد ليساعدوا العائلة، و يقوموا بدورهم الإعلامي للثورة بالخارج، بالتواصل مع أصدقائهم إعلاميي الداخل السوري. بقي في سورية عماد الذي اصبح قائدا عند شبيحة النظام، وكذلك حازم، الذي تبين أنه أصبح جاسوسا لصالح النظام، بعد أن اعتقله النظام وهدده بحياته، وكاد أن يودي بحياة أخاه جلال وإبن عمه زياد حين أخبر الأمن عن مكان تواجدهم، لولا أن استطاعوا الهرب حين داهم الأمن مكان تواجدهم. لقد خرج الأخين عماد وحازم من عقل ووجدان العائلة، سوى الأم التي تمزقت نفسيا بين أفراد عائلتها: الأخوة الأعداء.

وصلت العائلة إلى تركيا دون صعوبات، حيث كان الدخول إليها مازال دون حاجة لتأشيرة. ومن هناك توجهوا الى المناطق المجاورة لليونان على بحر إيجه، التقوا بمهربين واتفقوا معهم على نقلهم إلى اليونان. كانت مغامرة الإنتقال إلى اليونان محفوفة بمخاطر؛ الضبط من قبل الأتراك والمنع من المغادرة، وهذا ما حصل معهم أول مرّة، كما وقعوا ضحية تلاعب المهربين، الذين يضعوهم في قوارب مطاطية صغيرة فوق طاقتها، ويتركونهم مع أقدارهم في عمق البحر. ركبت أمل ووالدها ووالدتها وأخوها جلال وابن عمها زياد قارب مع آخرين، عائلات وأطفال صغار ما يزيد عن ثلاثين إنسان، وتوجه بهم المهرب الى الحدود اليونانية، وبعد مضي حوالي النصف ساعة، القى المهرب بنفسه من القارب هاربا. حاول جلال وزياد قيادة القارب اتجاه الحدود اليونانية، وسط ذعر وخوف ركاب القارب، نجحوا لبعض الوقت، وسرعان ما نفذ وقود القارب وتوقف، ثم تبين أن القارب مثقوب وهاج البحر وبدأ بالغرق، غرق أغلب من بالقارب، انقذ جلال وزياد أمل ووالدها ووالدتها، الى أن مرت سفينة أوروبية أنقذتهم من موت محقق. ونقلتهم إلى الطرف اليوناني. لقد عاشت أمل وأهلها لحظات أحسوا من خلالهم أنهم على مشارف الموت. في اليونان أخذوا طريقهم إلى الحدود المقدونية والهولندية، كانت المعاملة متفاوتة، ووصلوا أخيرا إلى ألمانيا. هناك أحسوا بالأمان. استقبلوهم ووضعوهم في ملاجئ وقدموا لهم أسباب الحياة الأولية، واشترطوا عليهم أن يتعلموا اللغة الألمانية حتى يستطيعوا أن يحصلوا على إقامة لجوء، و يشقّوا طريق حياتهم هناك، كل وجهده وما يعمل. دخلت العائلة كلها في دورة اللغة الألمانية ونجحوا. الاب والأم بمعدل متوسط، أما أمل وجلال وزياد فكانوا متفوقين. عندها حصلوا على حق اللجوء، وقرروا أن يكملوا دراستهم بعد أن أعطتهم الدولة مسكنا وقدمت لهم ما استطاعوا العيش من خلاله بكرامتهم، وأمّنت لهم فرص التطور وبناء الحياة الأفضل. تابع جلال وزياد نشاطهم الإعلامي في الثورة بالتواصل مع أصدقائهم في الداخل السوري. أثرت الأحداث على العائلة كلها، حيث عانت الأم كثيرا، لقد تركت وراءها في سورية ولدين الأول شبيح والثاني جاسوس وقد انقطعت أخبارهم، وهي هنا في ألمانيا، لم تستطع التكيف، بدأت تدخل في حالة زهايمر “خرف”  مبكر، أثر عليها وعلى العائلة كلها. كذلك أخاها جلال فقد استشهد أحد أصدقائه من إعلاميي الثورة في الداخل، مما دفعه للعودة مجددا إلى سورية ليتابع دوره الإعلامي في الثورة. انهمكت أمل في التعلم وبناء حياتها، وما أن مرّت سبع سنوات على الثورة، حتى كبرت ونضجت، وحصلت على الجنسية الألمانية. قررت وقتها أن تعود إلى سورية لتعرف ما حصل مع بقية عائلتها، وبيتهم في درعا والشام. عادت إلى دمشق، وصلت إلى بيتهم القديم الذي كان لهم وكان قد باعه والدها لكي يستفيد من ثمنه بالغربة وخوفا أن يستولي عليه الأمن. وجدت أنه مسكون من عائلة رجل كانوا قد التقوا به في تركيا كان صاحب مكتبة أحبته أمل، تعرفت على ابنه وليد، تتوطد علاقتهما وتتطور إلى حب لم يكتب له التكلل بالزواج. لأن أمل ستغادر سورية ثانية وهو لا يستطيع المغادرة معها، وهي غير قادرة على العيش في  بعيدة عن العائلة، وسورية لم تتحرر من نظامها المجرم، الذي جعل حياة من بقي فيها جحيما وهم  مرغمين على ذلك ولا بديل لديهم. التقت في دمشق بأخاها عماد، وجدته مشلولا، لقد اصيب في احدى عمليات مداهمة تشبيحية من أحد العناصر، على أن إصابته بالخطأ. كان قد تزوج وأنجب طفلة، زوجته هجرته مع ابنتها، يعيش حياة الجحيم، وتأنيب الضمير، يؤكد لنفسه أنه يدفع ثمن خيانته لأهله والشعب السوري. كذلك ذهبت لزيارة قبر أخوها الأحب اليها جلال، الذي كان قد استشهد في إحدى تغطياته الإعلامية لأحد المواقع المقصوفة وضرب موقعه واستشهد تحت الأنقاض، كان ذلك بعد زمن من عودته لسورية. أما أخاها حازم فقد كان قد أعلن توبته وهرب من سورية إلى مصر وتابع دراسته وأصبح رجلا لامعا وناجحا. ذهبت كذلك لزيارة قبر عمها وزوجته، وهناك تفاجأت أن ابنة عمها سلام اخت زياد لم تمت بالقصف على منزلهم، وانها كانت معتقلة، وعانت في الإعتقال كثيرا وخرجت بعد ذلك وتزوجها، اخو وليد الشاب الذي أحبته أمل، وأنجبت طفلة أسمتها سلام على إسمها. كان خبرا سعيدا لزياد ابن عمها. توفيت والدتها بعد أن اشتد عليها المرض عندما كانت أمل في سورية، كذلك سرعان ما إنتكست صحة والدها وتوفي بعد والدتها في مدة صغيرة، ولم يبقى لها في غربتها سوى زياد إبن عمها، الذي كان سندها الأكبر.

ذهبت أمل الى درعا وشاهدت خراب المدينة ودمار منزلهم، وعاصرت انفجارات قنابل عنقودية ما زالت تحصد ارواح من تبقى هناك. عاينت ما يعيشه الناس داخل سورية من فقر وجوع وقهر وذل. واكتشفت استحالة العيش هناك. وأن الثورة ما زالت مشروعة، ولا بديل عن إسقاط النظام المجرم وبناء دولة ديمقراطية عادلة. تعمّقت علاقتها بوليد كثيرا، تصارحا بحبهما لبعضهما، بقيا على تواصل كل فترة تواجدها في سورية. كان لا بد أن تغادر أمل  سورية أخيرا، على أمل أن تتحرر سورية وتعود أمل لحبيبها وبلدها. أو يغادر وليد وراءها إلى ألمانيا حيث تعيش أمل ليبنوا حياة جديدة.

هنا تنتهي الرواية.

في تحليلها نقول:

إننا أمام رواية تتحدث عن مهد الثورة السورية درعا، وتتابع تطورات الثورة بسنواتها المتتابعة، راصدة رد فعل النظام الوحشي القاتل، والصمت الدولي، وهروب الشعب السوري باحثا عن حق الحياة. مضحيا بكل شيء راميا نفسه في البحار ومسلما نفسه لسماسرة التهريب، وتجار الحروب، وأن من وصل من السوريين الى بر الأمان بنى لنفسه حياة جديدة، نجح في زرع نفسه في مجتمعات أخرى وبنى حياة ايجابية.

الرواية إنتصار لحق الشعب السوري بالثورة، وكشف لكل الأفعال المجرمة بحق هذا الشعب، وأنه صنع من مأساته فرصة لحياة أفضل. رواية أخرى تنضم لروايات إحياء الثورة السورية وانصافها… لكي لا ننسى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى