غالباً ما يستذكر سوريون كثر مع مرور ذكرى استقلال بلدهم عن الانتداب، من يسمونهم «الآباء المؤسسين» أي الذين أسسوا البلد عقب خروج الجنود الفرنسيين من أراضيه. غير أن هذه المقولة تحمل قدراً لا بأس به من المبالغة، فالذين يصنفون «مؤسسين» مارسوا السياسة استنادا إلى فهم تقليدي بسيط، وانحازوا إلى محاور المنطقة، بدل وضع معنى لسوريا ينطلق من عناصر داخلية تتعلق بالمجتمع وهواجسه. وعلى نقيض ما يشاع عنهم حاليا، هم، هدّموا ما جرى تأسيسه قبل الاستقلال، أي ما يسميه الكاتب الراحل ياسين الحافظ «بقايا المرحلة الكولونيالية».
ومع أن ذكر عبارة «آباء مؤسسين» تستحضر إلى ذهن أي سوري أسماء مثل شكري القوتلي وهاشم الأتاسي وخالد العظم، لكنها فضفاضة جداً، ويمكن أن تندرج ضمنها أسماء أخرى كثيرة، تورطت في لعبة الانقلابات العسكرية، مثل أكرم الحوراني وميشال عفلق. وعليه، فنحن لا نعرف، حتى الآن، من هم «المؤسسون»؟ هل هم كل من شارك في الحياة السياسية عقب الاستقلال، بغض النظر عن سلوكهم؟ أم هم الزعماء المدنيون؟
الإجابة عن هذا التساؤل ليست بسيطة، بسبب الالتباس الذي حصل في الحياة السياسية السورية منتصف الأربعينيات، وحتى الوحدة مع مصر الناصرية، أواخر الخمسينيات، وما تلاها من عدم استقرار سياسي. خلال تلك الحقبة، تداخل المدني بالعسكري، والانقلابات بالانتخابات، والتحالف مع الخارج بموازين القوى في الداخل. وبقدر ما صنع هذا الالتباس شخصيات الفاعلين في تلك المرحلة، بقدر ما أنهم شاركوا كذلك في صناعته، مفضلين الصراع على سلطة في وطن لم يتأسس بعد، على تأسيس وطن الصراعات فيه مضبوطة بقواعد دستورية، والجيش فيه مهني وخاضع للسلطة المنتخبة. بدل العمل لتثبيت المسار الأخير، أصبح هذا المسار نفسه ساحة صراع. فشكري القوتلي مثلاً، الذي عُرف بكونه رمزاً من رموز الاستقلال، صار هدفه تعديل مادة في الدستور للبقاء في الحكم، بعد انتخابات 1947، قبل أن ينفذ حسني الزعيم انقلابه ويدخل البلد، في حالة تأرجح بين حياة سياسية مدنية مؤقتة، وتدخل دائم للعسكر وانجذاب لمحاور خارجية. وعليه، لم يعد مستغرباً، بعد ذلك، أن يصبح طموح السياسيين الحزبيين الراديكاليين، الذين انتخبوا لتمثيل الناس في البرلمان، هو تعزيز حضورهم في الجيش، عبر زيادة عدد الضباط الموالين لهم.
جعلُ الصراع على السلطة، أولوية على بناء مؤسسات الدولة وتثبيت قواعدها، قد يكون مدخلا لفهم الفشل لدى «المؤسسين» لكن الفشل مرتبط أيضاً بسلوك الجيل الأول من هؤلاء، أي القوتلي والأتاسي وغيرهما من أبناء العائلات، حيث أنهم مارسوا السياسة بشكل تقليدي، فاعتمدوا، حسب وصف باتريك سيل، في كتابه «الصراع على سوريا» على «الدعم العائلي والصلات مع الأحياء القديمة وتسابقوا على كسب ود قبضايات الأحياء» أي الاستعاضة عن تمثيل المجتمع، بكسب وجهائه وأعيانه والأقوياء فيه، وإهمال التناقضات الهائلة المتراكمة عبر عقود. هذه الأخيرة، أي التناقضات، ساعدت القوى الراديكالية من بعث وحوارنيين وناصريين، على الصعود، والسعي لـ»التغيير» بأي ثمن، حتى لو بالانقلابات. فكان الجيل الثاني من «المؤسسين» ليكتمل الخراب، بين تقليديين ضعيفي الصلة بالمجتمع، وراديكاليين، يستفيدون من تناقضاته، لدفع البلاد نحو مزيد من العسكرة وتحقيق «التغيير» بالقوة. وقد يفسر التمثيل المحدود للمجتمع من قبل التقليديين، واستغلال التناقضات المناطقية والطائفية والإثنية، من قبل الراديكاليين، عدم التفكير بسوريا، كمجتمع يضم جماعات لديها هواجس ومظلوميات وقضايا فرعية، والاهتمام بوضع تقاليد حكم تراعي كل ذلك، وتستوعبه مؤسساتياً. لقد غابت سوريا الحقيقية، واستعيض عنها، إما بأخرى تقليدية يعمل ساستها بعقلية الأعيان، أو ثالثة، وهي الأخطر، أيديولوجية ما فوق وطنية تغلي تحتها تناقضات الطوائف وانقساماتها، وغالبا ما ابتزت الأخيرة تلك التي سبقتها، واختلطتا معا، ليتنافسا على الذوبان في العراق أو مصر. ولتبقى سوريا غريبة عن نفسها، تسقط في استبداد طويل، تفشل في الثورة عليه، وتواصل الاحتفاء بـ»الآباء المؤسسين».
*كاتب سوري
المصدر: القدس العربي