المرياع

عبد الحفيظ الحافظ

ثوى قطيع الغنم يجتر في أصيل يوم ربيعي . اقترب خروفٌ من المرياع وخاطبه :

– إني أرى نفسي في الأحلام مرياعاً مثلك يا جدي … نظر المرياع في وجه الخروف ولاذ بالصمت . سأل الخروف :

– لم لا تقص عليّ يا جدي سيرة حياتك ؟ ..فردّ عليه المرياع :

– إنها رحلة العمر الطويلة يا ولدي . رحلةٌ قطعت بها هذه البادية المترامية الأطراف . لمْ تفتني يوماً ولادة فجرٍ ولا غروب شمس ، فأنا أسعد برؤية قطرات الندى وهي تغسل بقايا الليل عن أوراق الزعتر والشيح ، ثم لا تلبث أن تصعد إلى السماء .

أحببتُ هذه الأرض التي شهدت طفولتي وصباي ، عشقت هضابها ووديانها وما أزال أعيش على أعشابها ونباتاتها ، ولي فيها قصص حب وذكرى معارك عند كل غديرٍ ورابية .

جلس الخروف على قائمتيه الأماميتين أمام المرياع وقال :

– آه يا جدي كم أنا فخورٌ بكَ، وبشوقٍ لمعرفة قصة حياتك بكل ما فيها من أفراحِ وأحزان ومن انتصارات وهزائم. كيف غدوتَ مرياعاً يهابك القطيع؟!. متى نما قرناك هذان؟! .. إنك لطيفٌ ووديع لكن منظرك بهما واللبدة حول رأسك تبث الخوف في قلوبنا، لقد حدثتني أمي عن شجاعتك ومغامراتك.

– دعك من هذا يا ولدي ، فالمديح في الوجه تملق واستجداء ، وما أنا إلا مرياع . نعم مرياع وحسب ، ثم تابع حديثه :

– تجولت في هذه الأرض الطيبة صغيراً ، قدتُ القطيع كبيراً، انتصرت على من سوَّلت له نفسه بمنازلتي اعتقاداً منه أن الوهن قد دبَّ بي ، المنصب الذي لا يسعى إليك ولست جديراً به لا تسعَ إليه يا ولدي ، واحفظ عني وصية جدي :

المرياع الذي لا يؤدي حقوق الآخرين ويتمسك بقيادة القطيع أرموا به من فوق صخرة الموت المطلة على وادي ” سويحل ” .

داهمت المرياع الذكريات الحزينة فصمت ، وتقافزت حملان جذلى من حوله ، وعندما ابتعدت تابع قصته :

تمتعت بلذات الحياة ، مضغت سعيداً أعشاب وأوراق نباتات هذه البادية ، اعتليت مزهواً ظهور النعاج الجميلات ، لكنني سهرت الليالي أحرس القطيع، قد تغفوا عيون الكلاب لكن عيني المرياع يجب أن لا تنام، عليها أن تسامر النجوم وتتعقب الشهب، وتخترق الحجب في الليالي المظلمة وتعتاد الصمت، وتشمَّ رائحة الخطر من مسافات بعيدة .

في تلك الليالي تداهم الذئاب الجائعة القطيع . كنت أحوم حوله مسدداً قرنيَّ لأي وحشٍ يبغي سوءاً بأحد أفراده ، وحين أحسُّ بالخطر أحدث رنيناً بالجرس الذي أحمله وساماً على صدري وكأن عشرات الأجراس تُقرع ، وكم خلَّفت العواصف آثار وحوش لاذت بالفرار .

منذ سنوات بعيدة جنَّت السماء ، تسابقت فيها الرعود والبرق ، هبت عاصفةٌ عاتية ، اقتلعت أوتاد الخيام ، فلاذ القطيع إلى سفح جبلٍ قريب ، واختبأ الراعي تحت جِلال الحمار ، وكان في القطيع كلبان قويان . هاجمتنا الذئاب الضارية فتصدى لها الكلبان ، ووقف المرياع خلفهم ، والحق يقال كان كبشاً شديد الشكيمة والحنكة ، لكنه لمْ يقوَ على الوقوف بوجه العاصفة وغدر الذئاب ، حينئذٍ خرجتُ من بين القطيع ، وقفت أحمي ظهري الكلبين .

شاهدت ذئباً متشحاً بالغدر فكاد الخوف يقتلني ، تماسكت ، نطحته بقرني فهوى يموء كالقطط .

في الصباح أقبل أهل القطيع فوجدوا الذئب مضرجاً بدمائه التي تصبغ قرنيَّ ، في ذاك اليوم تُوجت مرياعاً ، ولم يداهم المقص صوفي حتى اليوم .

لقد اعتدت على الجرس في رقبتي لكني رفضت أن أربط إلى ذيل الحمار ، وامتنعت عن التقاط فتات الخبز التي يرميها الراعي في طريقي ، وكانت نفسي تهفو لقطعة منها ، فتركت وشأني ، أتقدم القطيع نهاراً وأحرسه ليلاً ، أدفع نعجةً تتلكأ في المسير ، وأحث حملاً لا يقوى على الوقوف ، واصرخ بجرسي منادياً الكلاب عندما أشمُّ رائحة وحشٍ قريب .

نهض الخروف على قوائمه ، قفز في الهواء أمام عيني المرياع ، نطحه بقرنيه ، ثم وقف أمامه متحدياً ، فضحك المرياع .

هذه هي حكايتي يا ولدي ، وأعلم أنني قبل تلك الليلة كنت أتدرب على حراسة القطيع ، أسهر على راحة النعاج ، أساعد أقراني ، تعفُّ نفسي عن عشبة رغب بها أحد أفراد القطيع ، أضرب صخور الوديان بقرني استعداداً لمنازلةٍ طارئة ، وكنت وفياً لوصية أمي فهي تطن في أذني إلى اليوم :

-لا خير في حملٍ يرضع ثدياً غير ثدي أمه .

-لا خير في حملٍ لا يميز رائحة أمه من مئات النعاج .

-لا خير في خروفٍ بلا قرنين وخصيتين .

حفظت هذه الوصية يا ولدي ، وعملت بها طيلة حياتي ، للزمن كيدُه وغدرُه ، لذا عششت في ذاكرتي قصص وحكايا جدي .

يحزنني أنني لا أرى على هذه الأرض جواداً يخبو ويثير النقع إلى أعالي السماء ، لا أسمع شدو ربابةٍ تبث لواعج عاشق أضناه الحنين إلى من يحب ، لا أتتبع صرخة شاعرٍ يطلب من حادي العيس أن يعرّج على الخيام ليودع أحبته لأن في ترحاله الأجل ، غاب غناء الصبايا الذي تردد صداه الوديان.

منذ سنين لم أرَ غزالاً يُسحرك حورُ عينيه ، وكانت قطعانها تسبقنا إلى الغدران ، ولا يحوم فوق رؤوسنا نسرٌ أو صقرٌ أو عقاب . خالط صوتَ المرياعِ الحزنُ فصمت بعض الوقت ، ثم تحدث :

أرى قطعاناً غريبةً تجوب في هذه الأرض ، إنها بلا ألية تستر عوراتها ، وترتع حولها خرافٌ مخصية ، لقد أتوا بالعلف المركز ليقدموه لحملان تؤخذ بعيداً عن النعاج ، إن خراف هذه الأيام لا تميز رائحة أماتها ولا تعرف أعشاب البادية ، لا تفرق بين بيت الخلد وتشقق الأرض مرشدة عن كمأة اختبأت حياءً تحتها .

آه من هذه الأيام … بالأمس صرخت بوجه حملٍ حاول أن يرضع ثدي أتان ولود ، رأيته يتمسح بها ويشم رائحتها كأنه يرغب أن تسكن ذاكرته المثقوبة ، لقد سمعت الرجال يتحدثون عن خصي الخراف الصغيرة وعن تلقيح النعاج بالأنابيب كما فعلوا بالبقر ، واستشهدوا بالنعجة ” دولي ” .

قاتل يا ولدي ومت دفاعاً عن قرنيك وخصيتيك ، فلا عزة لخروف بدونهما . انظر إلى ذاك الراعي ، إنه يحرق العشرات من شجيرات الشيح ليغلي إبريق شاي واحد … فرَّغوا الحياة في البادية من الحياة .

ضاعت تتمة قصة المرياع مع وصول جرارٍ يجرُّ خلفه صهريج ماء، فنادى الراعي على القطيع، وأخذ يرميه بالحجارة، فأسرع المرياع يركض خلف الصهريج ، أما الخروف فذهب باحثاً عن أمه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى