عاشت “القومية العربية” ظاهرة تاريخية أكثر من مائة عام بامتداد القرن العشرين، متضمّنة أربعة أجيال: جيل الرواد النهضويين الأوائل، وجيل خريجي الجامعة الأميركية في بيروت في ما بين الحربين العالميتين، وجيل الراديكاليين العرب بعد الحرب الثانية ممثّلا بالناصريين والبعثيين والحركيين، ثم جيل المنسحقين والمهزومين في ظل الديكتاتوريات والمستبدّين بتبلورهم بعد 1979. وإذا كانت سورية التاريخية مهداً لنشوء الظاهرة القومية، فقد شاركهم العراقيون نخبويا، ونمت نموا طبيعيا في العشرينيات على عهد فيصل الأول 1921-1933، لكنها ستغدو خطيرةً في الثلاثينيات على عهد غازي الأول 1933- 1939، وستخفق سيرورتها بتحالف القوميين العروبيين مع ألمانيا الهتلرية، وتنهزم بهزيمة الجيش العراقي أمام البريطانيين في معركة الحبانية 1941.
الحركة السرّية العربية
ولد تنظيم سياسي قومي عربي سنة 1929 في العراق بقيادة فريد زين الدين ( 1909 – 1973)، وهو من سورية ولبنان، وكان معظم خرّيجي الجامعة الأميركية الشباب الأوائل في بيروت من أصلب القوميين، وتمرّسوا على العمل السرّي سياسيا، وتشبّعوا بمثاليات راديكالية، وتأثروا بتنظيمات قومية سرّية، وجمع السوريون حولهم عراقيين ومصريين وتوانسة وجزائريين ومغاربة في باريس وغيرها، وأثاروا أنظار الأمن السياسي الفرنسي. وفي جنيف، التقى فريد زين الدين بكل من نافع شلبي (حلبي) ودرويش المقدادي (فلسطيني) خرّيج الجامعة الأميركية أيضا، وكان يعمل مدّرساً في العراق، وهو مؤرّخ له كتبه المنشورة. وكشف شفيق جحا، في كتابه “الكتاب الأحمر” أو “ميثاق الحركة العربية السرّية”، معلومات جد مهمة عن نشاط جمعية سرّية خطيرة كان عضواً فيها، وأنشأتها نخبة قومية راديكالية، وتوزّعت فروعها في لبنان وفلسطين وسورية والعراق والكويت لإثارة الوعي القومي والاستقلال عن الأجنبي ومقاومة الصهيونية. وتفيد أوراق كاظم الصلح ونديم دمشقية بأن المؤرّخ قسطنطين زريق هو الرأس المدبّر للحركة، ونصّب رئيسا للتنظيم ولكنه آثر تركه خوفا من ملاحقة الفرنسيين، فانتقل النشاط إلى العراق، برئاسة كاظم الصلح وثوار فلسطين 1936. ثمّة معلوماتٌ خفية نجهلها في العمل القومي وقت ذاك، الذي قام به عشرات الأعضاء، لم تُعرف جزئياتها وخفاياها، وذلك بسبب سرّية التنظيم، بحيث لم يكن يعرف الأعضاء أحدهم الآخر، حتى إن كانوا إخوة.
جمعية التحرير العربية
تأسّس تنظيم قومي سرّي يهدف الى تشكيل سلاسل تنظيمات عربية سرّية جبهوية، وسمّي “جمعية التحرير العربية”. وأرسلت رسائل إلى كلّ من شكري القوتلي وشكيب أرسلان ونبيه العظمة وياسين الهاشمي، وانتشرت بالفعل عدة هيئات للتنسيق والاتصالات تربط التشكيل ببيروت وبغداد وفلسطين وسورية والأردن ومراكش واليمن وتونس… إلخ. ونجح كل من فريد زين الدين ودرويش المقدادي بالتحرّك نحو العراق، من خلال نخبة مثقفين ومعلمين عرب وعراقيين قوميين، أمثال واصف كمال وممدوح السخن وفريد يعيش وخلوصي خيري ومحمد علي عمارة وغيرهم، فكانت لتأثيرهم قوته في الشباب العراقي، فانضم كثيرون منهم إلى التنظيم أمثال حسين جميل ويونس السبعاوي وصديق شنشل وفائق السامرائي، وكل القوميين الأوائل الذين اختلفوا عن رواد النهضة القومية من المدنيين والعسكريين العراقيين. وبدأ هؤلاء ينشرون أفكار “العروة الوثقى” الثقافية التي أسّسها قسطنطين زريق في الجامعة الأميركية في بيروت، وسيبرز من تحت عباءته جيل راديكالي التفكير ومتطرّف النزعات ضد المعارضين له من مارونيين وقوميين سوريين! وستولد في رحمها لاحقا حركة القوميين العرب.
الصورة
عصبة العمل القومي
قبل رحيل الملك فيصل الأول عام 1933، ولدت منظمة قومية في لبنان أنشأها شباب من سورية ولبنان وفلسطين والعراق، وأصدروا بيانا لحزب سياسي عرف باسم “عصبة العمل القومي”، وراح كل من قسطنطين زريق وكاظم الصلح ومحمد علي حمادة وعادل عسيران وفؤاد مفرج وغيرهم إلى وضع دستور للقومية العربية، موضحين فيه جملة مفاهيم واسعة، وكلها حالمة بعالم تتحكّم فيه الأخيلة بعيدا عن الواقع.. وقد نضج التنظيم أواسط 1935، فصدر ميثاق الحركة الذي عرف بـ”الكتاب الأحمر”، وبدأت الحركة أنشطتها بمنتهى السرّية والتكتّم، فعرفت باسم “الحركة السرّية العربية” أو “جماعة الكتاب الأحمر”، وهي تحمل أهدافها الوحدوية للبلاد العربية قاطبة بتأسيس دولة عربية واحدة، لها استقلالها وديمقراطيتها وعلمانيتها تعيد للعرب كلهم كرامتهم القومية، وتقوم على إحياء أمجادهم وحضارتهم الغابرة، وتنهض بالعرب لتصل بهم إلى مصاف التقدّم (جحا، 253). وانبثقت عن التنظيم حركاتٌ منظّمة خطيرة، مثل جماعة الكفّ الأصفر التي قتلت القنصل البريطاني في الموصل عام 1939 انتقاما لمصرع غازي.
لقد توسّعت الحركة، بفروعها العربية، ونقلت إلى بغداد، فتولى شؤونها كاظم الصلح من سنة 1939 إلى 1940، ثم تولاها درويش المقدادي عدة أشهر، فتسلمها يونس السبعاوي، واستمرّ فيها حتى كانت نهايتها بهزيمة حركة 1941 المريرة للعقداء الأربعة ورشيد عالي وحكومة الدفاع الوطني، ونشوب الحرب العراقية البريطانية وانهيار العراق وعودة البريطانيين والقبض على الانقلابيين الذين اتهموا بالتعاون مع ألمانيا الهتلرية، وحوكموا وأعدم قادتها ويونس السبعاوي. وقد هرب رشيد عالي والحاج أمين الحسيني وكل القوميين المتعاطفين معهم، وكلهم من ثمار الحركة السرّية العربية ورجالها الذين مُنحوا الجنسية العراقية، ومنهم ساطع الحصري ودرويش المقدادي وغيرهما، وقد أسقطت تلك الجنسية عنهم لاحقا.
تأثرت تلك الحركة “تأثرا مباشرا بالتنظيمين، النازي الألماني والفاشي الإيطالي، باتباع شبكة علاقات سرّية بين الوحدات الإدارية جغرافياً، والاعتماد على الاستقلال الذاتي لكل وحدة. وتتولى “العمالات” إدارة ذاتها، ومفردها “عمالة”، وتشكلت عام 1940 سبع عمالات في لبنان وسورية وفلسطين والعراق والكويت وأميركا الشمالية وألمانيا، ويرأس كل عمالة العامل الذي يتلقى أوامره من القيادة العليا للحركة السرّية. وغدت بغداد مركزا خطيرا لها بواسطة درويش المقدادي، وهو الأستاذ الفلسطيني في العراق خرّيج الجامعة الأميركية، وكان خطيبا مفوّها ويعتمد على عمالة برلين، ويعتمد التنظيم على الخلايا. وامتدّت سيطرتها على نادي المثنى وجمعية الجوال كأبرز واجهتين قوميتين في العراق، فتحققت سيطرة الحركة عليهما، وأحكمت قبضتها على كل الأعضاء الذين كانوا لا يعلمون شيئا عن مبدأ السرّية الذي يطبقه القادة الحركيون العرب.
العراق “بروسيا العرب“
تفيد الوثائق بأنه، بسبب إجهاض الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 – 1939)، وسياسة الملاحقة للوطنيين في فلسطين وسورية ولبنان، انتقل معظم القادة والمناضلين الفلسطينيين إلى العراق الذي احتضن كل تلك الجماعات على أراضيه مع سبل الإقامة والعمل والعيش الكريم، إذ فتح كل من الوصي على العرش عبد الإله، ورئيس الوزراء نوري السعيد، أبواب العراق أمام أكثر من 500 فلسطيني، وفي مقدمتهم الحاج أمين الحسيني، الذي بدأ يعمل ضد السياسة العراقية من خلال علاقته الوطيدة مع ألمانيا الهتلرية. كان العراق تتجاذبه النزعة القومية، وراح مندفعا بقوة، إبان الثلاثينيات، ليسجّل رصيدا عاليا من التشكيلات، ومنها نظام الفتوة في الثانويات، لتأهيل الطلبة عسكريا وتدريبهم على السلاح، مع زيارات شخصيات عربية سياسية وعسكرية وثقافية تكيل المفاخر والأمجاد. وظهرت تجمّعاتٌ، مثل الكتلة القومية والكتلة العسكرية والوردة البيضاء وفوج العروبة وشيخ العروبة… إلخ. وزار العسكري والدبلوماسي المصري عزيز علي المصري (1880- 1965) العراق، والتقى القادة العراقيين أمثال صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد. وكان المدنيون ينشطون ويكتبون ويحاضرون ويؤلفون في صناعة الموت، متأثرين بتفاقم النازية، وراح العراقيون يتخيّلون أنفسهم أنهم بقوة ألمانيا والتغوّل في ممارسة المغالاة في القوة والعنف والتعصّب، وخصوصا عند يونس السبعاوي وسامي شوكت ويونس بحري وغيرهم.
كان العراق الملكي قد أفرز تيارين سياسيين كبيرين، أولهما تيار وطني بدأ مع جمعية أصحاب الصنايع 1929، ثم جمعية الإصلاح الشعبي 1936 وجماعة الأهالي، وانتقالا إلى الحزب الوطني الديمقراطي، ومنه إلى الحزب الشيوعي العراقي، وثانيهما تيار قومي بدأ مع جمعية الجوال ونادي المثنى، وانتقالا إلى حزبي الإخاء والاستقلال، ومنه إلى حزب البعث العربي الاشتراكي والفئات الناصرية والحركية. وكانت سياسة العراق 1933- 1941 قومية قوية ومتطرّفة، فبدأ العرب ينظرون إلى العراق مخلصا ومحرّرا ومنقذا لتحرير بلادهم من الهيمنة الأجنبية، وأنه سيوحدّها في إمبراطورية عربية موحدة، حتى أسموها “بروسيا العرب” و”بيدمنت العرب” تيمنا، وقد ازدحم بالمدرسين والأساتذة واللاجئين العرب بسبب مواقفه القومية، وعاشوا فيه بمنتهى الحرية. وكان درويش المقدادي من أخطرهم، إذ حرص على أن تكون الجوال العربي واجهة قومية للتكتل السرّي مع علاقاتها الوشيجة بالجمعيات المشابهة الأخرى. وكان واصف كمال قد عيّن سنة 1939 مدرّسا في الإعدادية العسكرية التي أتاحت مجالا واسعا للتنظيم في صفوف الجيش (من المنتمين إلى هذه الحلقات في ذلك الوقت عبد السلام عارف، زعيم انقلاب ورئيس جمهورية لاحقا)، وأنشأ العقداء الأربعة تلك الحلقات العسكرية، وارتبطت بواسطتهم بالتنظيم السرّي (كان للمفتي الحاج أمين الحسيني في هذا كله دور لا يُنكر، على غموض معالمه وتفصيلاته)، وأدّت كلها دورا في حركة رشيد عالي 1941، مع وجود تجمّعات أخرى، مثل لجنة الدفاع عن فلسطين وغيرها.
الميثاق القومي واندلاع الحرب
نشر كرّاس سمّي “الميثاق القومي” مع نشر رسائل تفضح مخطّطات الصهيونية في فلسطين. وبدا واضحا أن كاتبه درويش المقدادي كان قد حظي بمكانةٍ كبيرةٍ في الدولة العراقية، وجعلته عراقيا، وأرسلته مبتعثا وموفدا على حسابها للدراسة في ألمانيا، فأقام في برلين خلال 1935- 1939، إذ ذهب طالبَ دراسة عليا للحصول على الدكتوراة. وخلال إقامته في برلين، كان نشيطا سياسيا وتنظيميا، إذ تولى معتمدية برلين من الحركة العربية السرّية، وغدا رئيسا لاتحاد الطلاب العرب (VAS) في برلين 1936، وسعى إلى توحيد الأنشطة الثقافية العربية، وبدأ حملة تبرّعات لإصدار مجلة بالعربية، فضلا عن ارتباطه بـ “نادي الشرق” في برلين الذي أسسه محمد طلعت (1921 – 1972)، ومن ثم تولى قيادته شكيب أرسلان 1940، وهو منتدىً يمالئ سياسات هتلر. وعليه، فقد كُرّم المقدادي في ألمانيا بميدالية المعرفة، وكرّمه هتلر بمنحه وسام الصليب المعقوف نظير خدماته. وللعلم، كان ذلك الجيل من القوميين في ما بين الحربين العالميتين شديد الإعجاب بهتلر، حتى قلّدوه في مشيته وشاربه.
انبثق حزبٌ قوميٌّ آخر في العراق باسم “الحزب العربي القومي” بالأهداف والسرية نفسها. وانتخب المقدادي سكرتيرا لمكتبه السياسي، مع الأعضاء أنفسهم، معتمدين على مبادئ نادي المثنى وميثاق “عصبة العمل القومي”. السؤال: ما الذي جعل النخبة العربية تتحرّك سياسيا سرا بكلّ مرونة في العراق؟ ولماذا كان عملها سرّيا تحت غطاء التربية والتعليم علنا؟ وكيف تعاونت مع السلطات العراقية قبل اقتناع العراقيين بأهداف هذا الحزب لتأسيس دولة قومية؟ ولماذا سمح لهذا الحزب بتشكيل ارتباطاتٍ مع كتلة الضباط القوميين العراقيين؟ هكذا اجتمع أركان الحركة العربية السرّية ببغداد في 15 مايو/ أيار 1940، واتخذوا قرار اعتبار العراق عمالة واحدة مستقلة، وعيّنوا صديق شنشل عاملاً عليها، وفاز في الانتخابات المقدادي رئيساً للحركة، وبقية الأعضاء وكلاء (وزراء) كما نصّت لائحتهم. وبدأت الحركة أنشطتها السياسية بضمّ عراقيين عاملين أصلا في المؤسستين المدنية والعسكرية والمعاهد، فضلا عن المهنيين من محامين وأطباء وصحافيين وتجار وسياسيين ودبلوماسيين… إلخ.
خطر على الجيش ومؤسّسات الدولة
لم يكن الجيش العراقي مسيساً أبداً على عهد فيصل الأول، ولكنه بدأ يتدّخل سياسياً على عهد غازي بحدوث انقلاب بكر صدقي 1936، وغدا طرفاً سياسياً. ومع توّسع الأنشطة القومية، ضمت الحركة العقداء صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب، الذين سيدفعون حياتهم ثمنا للحركة الانقلابية القومية التي قاموا بها عام 1941، وغدا الإعلام بيد صديق شنشل، أحد القادة القوميين الذي عيّن مديرا عاما لمصلحة الدعاية والإعلام، فانساق العراقيون وراء الدعايات الموجّهة عاطفياً، وبقي المقدادي في رئاسة الحركة السرّية قرابة ستة أشهر، لكنه تنحّى، بعد مصرع غازي واندلاع الحرب العظمى، لرفيقه يونس السبعاوي، وهو رجل مواجهة عرف بصلابته السياسية مقارنة بالمقدادي، فمُنح السبعاوي صلاحيات واسعة.
تطوّرت الاحداث سريعاً في العراق مع بدء 1939، إذ لجأ المفتي الحاج أمين الحسيني إلى العراق مع أتباعه من المناضلين الفلسطينيين وعوائلهم. وغدا محوراً سياسياً له نفوذه، وتماسكت علاقته برشيد عالي، وكانت الحرب مستعرةً في أوروبا، وبدأ العراق ينقسم إلى جناحين، أولهما مع البريطانيين والحلفاء، وثانيهما مع الألمان والمحور بتأثير الحركة السرّية العربية والمفتي الحسيني وفريتز غروبا، وزير هتلر المفوّض في العراق، فتوسّعت شقة الخلاف. وقد استبشر كلّ القوميين بذلك، للتخّلص من البريطانيين والفرنسيين معا، فقويت الاتصالات بين القوميين والألمان، وغدت الحركة السرّية العربية يمثلّها السبعاوي والعقداء الأربعة (المربع الذهبي بتوصيف الإنكليز، فقد كانوا سابقا من أصدقائهم)، وقد شكّلوا مع المفتي (نصّبه الإنكليز مفتيا على القدس سابقا)، وكل العاملين العرب والعراقيين، مراكز قوى سياسية مضادّة، ومن أبرزهم درويش المقدادي وواصف كمال وممدوح السخن وعز الدين الشوا، وغيرهم. وبناء على موافقة هذه النخبة، بدأت مفاوضة المفتي الحسيني مع الألمان بواسطة سكرتيره عثمان كمال حداد، فبدأ المفتي يتّصرف كمركز قوة سياسية في العراق، ما قاد إلى حدوث انقلاب عسكري في 1 إبريل/ نيسان 1941، قام به العقداء الأربعة، وانبثقت حكومة الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي، وصدرت بيانات كان يكتبها رجال الحركة السرّية ضد الوصي عبد الإله ونوري السعيد، واتهام النظام السياسي كله بممالأة الحلفاء والإنكليز. ولكن الحرب الأنغلو – عراقية اللاحقة أعادت مسار التاريخ إلى طبيعته، وأرجعت الوصي ونوري إلى سدّة الحكم، بعد أن تبعثرت القوات العراقية أمام الإنكليز، وأجبرت على الهدنة في 31 مايو/ أيار 1941. ومن أخطاء الانقلابيين انطلاء خدعة هتلر عليهم، بالاعتماد على وصول الطائرات والأسلحة الألمانية، وعدّ دخول العراق الحرب مغامرةً جنونيةً كانت لها مضاعفاتها الوخيمة، إذ أدى التغيير في الحكومة إلى الغزو البريطاني للعراق وآثاره.
.. وكانت الاتصالات بين الانقلابيين والألمان، والتي يحكم السيطرة عليها كل من المفتي الحسيني ورجال الحركة السرّية العربية المذكورة أسماؤهم أعلاه، الذين وجدوا في ألمانيا هتلر خير من سينقذهم من الاستعمارين البريطاني والفرنسي، أو هكذا توهموا موقف هتلر. لم يدرك هؤلاء أنهم قد وقعوا في أزمة حقيقية وتاريخية، وأنهم غير قادرين على مواجهة الحقائق على الأرض. ولم يتعلّموا شيئا، بل لم يتعلم غيرهم من هذه التجارب المؤلمة شيئا، إذ ستختفي هذه التنظيمات بعد الحرب الثانية، وستولد بعد عام 1949 تنظيماتٌ راديكالية قومية أخرى من رحم الحركة السرّية العربية، وهي أكثر عنفاً وبأساً. وسيبقى قسطنطين زريق منظّرا لحركة القوميين العرب في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كما حلل ذلك المؤرّخ عزيز العظمة في كتابه عنه.
المصدر: العربي الجديد