“أنا لهلق بخربط إسمو مع أخواته” تختم أم أنس بصوت مخنوق حديثها بعد لحظات من الصمت قالت كلماتها الأخيرة، كأنها توصل رسالة بأنه رغم الغياب ما زال هناك وجود لابنها أحمد بينهم، ما تزال تسكنني خيالاتٌ عالقة من طيفه، تعلم أنها ستبقى ما عاشت تدفع ثمن أمومتها وفقدان فلذة كبدها، فمنذ بدأت الحرب في سوريا والأمّ هي الخاسر والمضحي الأكبر، لماذا يتعين على الأمهات أن يفقدن أبناءهن؟
لحظات الفراق
أم أنس امرأة خمسينية مهجرة من “خان شيخون” أجبرتها الحرب على فراق أوسط أبنائها أحمد في قصفٍ روسي على “مركز الدفاع المدني” حيث تطوع كعنصر فيه.
أحمد الابن الذي لم يبلغ ستةً وعشرين عاماً، زُف للموت ليترك في روح أم أنس غصة العمر ووجعاً لا يُداوى، تقول أم أنس: “هو أصعب من كونه وجعاً أقسى من كونه ألماً”.
تستذكر تفاصيل ذاك اليوم مضيفة:” سمعنا دوي الانفجار، اعتقدنا أنه بعيد، تداولت أصوات بالحيّ أنها في مركز الدفاع المدني، ذهب إخوته فقالوا لي أحمد أصيب، لحظتها تيقنت أنه رحل فقلت لهم أحمد مات”.
ترجو أم أنس في سريرتها أنه ما زال على قيد الحياة ويخطئ حدسها – بحسب تعبيرها – فتردف حديثها “دعوت ربي أن يكون حدسي خطأ لكنه أتاني مفارقاً الحياة، من يوم اللي رحل فيه لم يبق عندي عيد أو فرحة”، أحمد الذي رحل ليترك رحيله سواداً يغلب باقي ما تبقى من عمر أمه.
لم يكن موتاً واحداً
لم يكن مصاب آمنة “أم نزار” أخف من مصاب أم أنس، فقد أجبرتها الحياة على وداع ثلاثة من أبنائها.
أم نزار أم لسبعة أولاد فقدت ثلاثة شباب منهم، تروي لنا حكايتها مع أول موت يخيم على حياتها، ابنها (فوزي)، تقول في “عام2011 كان ابني يخدم في الجيش فأتانا خبر أن ابنكم قد قتل نفسه تعالوا لأخذه، ذهبنا وبقي ابني في المشفى مدة أسبوع في حالة خطرة، وبعدها توفي، ليقول لنا رفاقه بعد قيام الثورة أن الضابط قد قتله”.
تضيف أم نزار والدموع تتفجر من عينيها وتسيل على خطوط وجهها: أنه “مع بداية الثورة في معركة المعرة أتاني خبر أن ولدي الثاني “سعيد” أصيب، ولم يأت المساء إلا وقد حملوه لي فاقداَ الحياة”.
لم يكن مصير ابنها عماد مختلفا عن إخوته، تكمل حديثها: “ذهب عماد للمعركة مع رفاقه، ولكنه لم يعد، قال لي رفاقه أنه توفي ولم يستطيعوا انتشال جثته تحت وطأة الرصاص واحتدام المعركة، عماد توفي وهو لم يكمل أشهرا من زواجه، الآن لديه طفلة أقوم على رعايتها”.
تختتم حديثها بغصة: “لا أستطيع قول شيء ماذا أقول؟ ولادي ما في حدا جنبي” بحسب تعبيرها.
الحرب لا ترحم الصغار
سبعةُ أعوامٍ لم تزد “أم بكور” الأم الصابرة، إلا شوقاً وحزناً على رحيل طفلها الذي خرج إلى المدرسة ولم يعد إليها إلا أشلاء.
تحكي “أم بكور” تفاصيل ذلك اليوم الذي قلب حياتها فتقول: “في 16/11/2016 ذهب ابني بكور إلى المدرسة وكان عمره ثلاثة عشر عاماً، وفي طريق العودة مع ابن عمه، استهدفت غارة للطيران محيط المدرسة في” الهبيط” على طريق عودتهم فحولت أجسادهم إلى أشلاء”.
“الأيام لا تُنسي”
شادية “أم محمد” تعمل في مجال التدريس أمٌ لسبعة أولاد، أذاقتها الحرب أصعب ما يمكن أن تتحمله الأم، فقدت أحد أبنائها تقول لتلفزيون سوريا “إنها فقدت ابنها صلاح الدين بعد ما أُخرجت مكرهة من منزلها وعانت النزوح والتهجير”.
تضيف أم محمد “قتل ابني صلاح الدين في قصفٍ جوي، وذلك بعد تهجيرنا إلى مدينة اللطامنة بريف حماة عام 2014، كان يبلغ حينذاك 24 عاماً ولديه طفلان.
تكمل أم محمد: “ما أزال أعاني مرارة فقد ابني خاصة في المناسبات والأعياد ينهكني شوقي لفقيدي، كلما نظرت إلى أطفاله الذين يعيشون ما تبقى من حياتهم بلا أب”.
لم تدرك الأم في المشهد السوري أنها عندما وضعت مولودها أنها تضع وجعاً لمستقبل مجهول وأن الدروس ستكون قاسية بهذا الحجم من موت وفراق، وقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان منذ آذار 2011 حتى آذار 2022 ما لا يقل عن مقتل نحو ربع مليون مدني، منهم نحو 150 ألفاً بين اعتقال وتعذيب وإخفاء قسري.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا