تجدد أزمة الشرعية في ليبيا

بين فيشمان

على واشنطن وأوروبا الإشارة بوضوح إلى أنهما لن تؤيدا أي ترتيبات حكم جديدة إلى أن تلتزم جميع الجهات الفاعلة المحلية بشكل سلمي بخارطة طريق سياسية يتم التوصل إليها عن طريق التفاوض.

في ١٠ شباط/فبراير، صوّت مجلس النواب الليبي على نحو عاجل لتعيين وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا رئيساً جديداً للوزراء. ومن المقرر أن يحل محل عبد الحميد الدبيبة، الذي شغل منصب رئيس “حكومة الوحدة الوطنية” المعترف بها دولياً والذي جرى تنصيبها قبل نحو عام. ونظّم عملية التصويت رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، بحجة أن فترة ولاية “حكومة الوحدة الوطنية” الحالية انتهت في كانون الأول/ديسمبر بعد تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة. وأمام باشاغا اليوم أسبوعين لتشكيل الحكومة وتقديمها لمجلس النواب لتنال الثقة.

ومع ذلك، ظل الدبيبة معانداً، حيث أكّد أنه لن يتنحى حتى يتمكّن من تسليم السلطة إلى حكومة منتخبة من الشعب الليبي. كما تعهد بتقديم جدول زمني جديد للانتخابات يجري التصويت بموجبه في حزيران/يونيو واقترح إمكانية إجراء الانتخابات البرلمانية قبل التصويت الرئاسي (يُشار إلى أن النقاش حول التسلسل الزمني ساعد في إحباط عملية التصويت في كانون الأول/ديسمبر). وفي الوقت نفسه، وافق مجلس النواب على فترة انتقالية جديدة أمدها أربعة عشر شهراً سيتم تحديد تفاصيلها لاحقاً من جانب لجنة مكلّفة لهذا الغرض.

واستناداً إلى توازن القوى السياسية والأمنية في طرابلس – العاصمة التي وصل الباشاغا إليها بعد أن اختير من البرلمان بفترة وجيزة – فإن الأيام المقبلة قد تؤدي إلى حدوث تحول في الحكومة. ولضمان قيام التطورات الأخيرة بدفع عجلة المرحلة الانتقالية المعطلة في ليبيا بدلاً من مفاقمة تعطيلها، يجب على الولايات المتحدة وشركائها تلافي أي اعتراف إلى أن يتم وضع جدول زمني انتخابي واضح وتوافقي.

غياب خارطة طريق متفق عليها يؤدي إلى فوضى انتخابية

لا يُعزى تعطيل المرحلة الانتقالية في ليبيا، التي تزيد على عقد من الزمن، إلى الحروب الأهلية الطويلة فحسب، بل أيضاً إلى الافتقار إلى خارطة طريق متفق عليها مع جداول زمنية واضحة لإنشاء مجالس منتخبة على أساس دستوري. ففي ظل غياب خارطة الطريق هذه وعدم وجود نظام قضائي فعّال، ادعت العديد من المؤسسات التنفيذية والتشريعية الشرعية وتحدت منافسيها.

من الناحية العملية، لا تزال ليبيا تعمل بموجب نسخة معدلة من الإعلان الدستوري المؤقت لعام 2011 الذي صاغه “المجلس الوطني الانتقالي” الذي نصّب نفسه بنفسه، وهو الهيئة السياسية التي عارضت معمر القذافي أثناء الثورة. تجدر الإشارة إلى أن الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الليبي المنتخبة والمكونة من ستين عضواً قد صاغت مشروع دستور في عام 2017، ولكن هذه الوثيقة لا تزال مثيرة للجدل، كما هو الحال مع قانون الاستفتاء اللاحق.

في أواخر عام ٢٠٢٠، حدد “ملتقى الحوار السياسي الليبي” شهر كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢١ موعداً للانتخابات المقبلة، لكن جهوده لوضع أساس دستوري لإجراء هذا التصويت تعثّرت بسبب القيادة غير الفعّالة للأمم المتحدة، وفي وقتٍ لاحق بسبب طريقة تعيين الدبيبة المثيرة للجدل في شباط/فبراير الماضي وسط اتهامات بشراء أصوات مجلس النواب، الأمر الذي أضر بمصداقية الملتقى. وفي أيلول/سبتمبر، قاد صالح حملة مصادقة على قانون الانتخابات الذي أوجد رئيساً يتمتع بصلاحيات واسعة وبرلماناً ضعيفاً، من بين جوانب أخرى مثيرة للجدل. وتبع ذلك اندفاع للترشح للرئاسة، حيث سعى أكثر من ١٠٠ شخص للترشح وسط معايير تدقيق ومراجعات قضائية محدودة فيما يتعلق بمؤهلات المرشحين الأكثر إثارة للجدل – ولا سيما الجنرال خليفة حفتر، ونجل القذافي سيف، والدبيبة الذي تعهد سابقاً بعدم الترشح للرئاسة. وهذا التدافع، من بين مسائل لوجستية أخرى، جعل من المستحيل على المفوضية الوطنية العليا للانتخابات أن تستعد على نحو كافٍ للتصويت في مثل هذا الجدول الزمني الضيق.

مسارات بديلة في المستقبل

إن السؤال الأكثر إلحاحاً الذي أثاره تعيين باشاغا هو ما إذا كانت ليبيا ستعود إلى مشكلة الحكومات المنقسمة – التي سعى إنشاء “حكومة الوحدة الوطنية” العام الماضي إلى حلها بعد سنوات من الانقسام – أو الأسوأ من ذلك إلى الصراع العسكري. وعلى المدى الطويل، يتعين على البلاد التفاوض على خارطة طريق سياسية جديدة، إلا أن أحداً لم يحدد سبيلاً واضحاً للتوصل إليها.

وعملياً، يمتد نطاق خارطة الطريق الأصلية لـ “ملتقى الحوار السياسي الليبي” ليشمل موعد انتخابات حزيران/يونيو الذي اقترحه الدبيبة. ففي ١٣ شباط/فبراير، كلّف الدبيبة وزير العدل باقتراح قانون انتخاب جديد يشمل احتمال إجراء استفتاء دستوري. غير أن تنظيم استفتاء وانتخابات وطنية وإجراءها في غضون أربعة أشهر أمر غير واقعي.

ويفضل مجلس النواب إطالة الجدول الزمني للانتخابات إلى أربعة عشر شهراً. ومن شأن ذلك أن يخصص وقتاً أطول لإنجاز هذه العمليات، لكنه يخاطر أيضاً بتأجيل التصويتين البرلماني والرئاسي إلى أجل غير مسمى إذا ما تم تأخير الاستفتاء الدستوري. ومن المفترض أن يتلخص السيناريو الذي يفضله صالح في تولي باشاغا رئاسة الوزراء فيما يبقى هو رئيساً للبرلمان – وهو المنصب الذي شغله لمدة سبع سنوات ويبدو أنه راضٍ عن شَغْلِه إلى أجل غير مسمى إذا كانت حظوظه التنافسية على هذا المنصب معدومة.

ويتمثل أحد الخيارات المعقولة في اتباع نهج هجين تتفاوض فيه الأطراف على أساس دستوري محدود لإجراء الانتخابات على النحو الذي توخاه “ملتقى الحوار السياسي الليبي” في الأصل. وسيتطلب ذلك صياغة وثيقة دستورية مؤقتة تحدد المؤسسات الرئيسية للحكومة وسلطات كل منها ومؤهلات المرشحين، بينما تُعنى عملية لاحقة بالقضايا القانونية الأوسع (مثل حقوق المواطنين). ويمكن أن يتفق كل من مجلس النواب المتمركز في الشرق و”المجلس الأعلى للدولة” الاستشاري المتواجد في العاصمة طرابلس على مثل هذا المسار، لكنّ علاقتهما المتقطعة باستمرار تُضعف هذا الاحتمال من دون وساطة نشطة من الأمم المتحدة.

نفوذ دولي كبير

على الرغم من انشغالها الحالي بأزمة أوكرانيا، بإمكان الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين التدخل دبلوماسياً لمنع ليبيا من الانقسام من جديد ولإعادة البلاد إلى المسار الانتخابي السليم، وهذا ما ينبغي فعله. ففي بيان صادر في ١١ شباط/فبراير، “أحيط الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش علماً” بتصويت مجلس النواب على اعتماد جدول زمني جديد مدته أربعة عشر شهراً وتعيين باشاغا رئيساً للوزراء “بالتشاور مع المجلس الأعلى للدولة” – وهو رد فعل يشير إلى أن الهيئات المتنافسة تجري بالفعل مفاوضات نشطة. وإلى جانب نهج التريث والترقب هذا، يتعين على واشنطن وأوروبا تبني استراتيجية تتألف من أربعة أجزاء لاستعادة إمكانية إجراء انتخابات مشروعة ودستورية.

أولاً، تظل “حكومة الوحدة الوطنية” الحكومة المعترف بها دولياً، لذا لا يمكن لمجلس النواب استبدالها بمجرد إجراء تصويت واحد مشكوك فيه من الناحية القانونية والإجرائية. يجب على المسؤولين الغربيين أن يوضحوا بشكل خاص وعلني أن وجهات نظرهم بشأن “حكومة الوحدة الوطنية” لن تتغير ما لم توافق جميع الجهات الفاعلة المحلية على تسليم سلمي للحكومة الجديدة – وإلا فإن النتيجة ستكون حكومة غير معترف بها ذات سلطة محدودة، والأهم من ذلك، ذات استمرارية مالية مقيّدة.

ثانياً، يجب على الغرب دعم عملية تتوسط فيها الأمم المتحدة لوضع أساس دستوري متفق عليه وجدول زمني للانتخابات. وبمعزلٍ عن التوصيات المعلّقة للجنة خارطة الطريق التابعة لمجلس النواب، يجب التفاوض على هذه العناصر مع “المجلس الأعلى للدولة”. وفي حال عدم اتفاق الجهات المتنافسة على عملية ما، يجب تمكين الأمم المتحدة للتوصل إلى حل وسط بين اقتراح الدبيبة الذي تبلغ مدته أربعة أشهر والجدول الزمني الذي قدمه البرلمان والذي يمتد إلى أربعة عشر شهراً. كما يجب أن يقتصر أي اقتراح للأمم المتحدة على تحديد تسلسل وتوقيت الانتخابات، وسيكفل نحو 3 ملايين مواطن مسجل للانتخاب أن تبقى العملية الانتخابية “مملوكة لليبيين”.

ثالثاً، يجب على مؤيدي ليبيا الحفاظ على الزخم الحالي المتعلق بالمسارين الاقتصادي والأمني. فالحوار الذي يهدف إلى توحيد مصرف ليبيا المركزي بفرعه الشرقي المنشق قد يعيد الرفاه الاقتصادي للبلاد وينهي بعض الممارسات التي زرعت بذور الانقسام، مثل دفع رواتب لجماعات مسلحة بوسائل غير مشروعة. علاوة على ذلك، لا يمكن أن تتحقق الوحدة من دون تعزيز الحوار الأمني الذي يهدف إلى ترسيخ اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٠، وإزالة القوات الأجنبية، وإعادة هيكلة قوات مسلحة وطنية موحدة. فمن شأن انقسام الحكومة أن يضرّ بهذا التقدم.

وأخيراً، على واشنطن الضغط من أجل تعزيز قبول دولي أوسع لخارطة طريق انتقالية متفق عليها من خلال الاستفادة من تقارب العلاقات بين تركيا ومصر والإمارات العربية المتحدة – وهي الجهات الفاعلة الرئيسية التي كانت على الطرفين النقيضين من النزاعات الليبية الأخيرة. وعلى الرغم من أن الفراغ القانوني في فترة ما بعد القذافي أنتج أزمة شرعية أخرى، إلا أن التدخلات الدبلوماسية المذكورة أعلاه يمكن أن تساعد في توجيه دفة المرحلة الانتقالية إلى مسارها الصحيح.

بين فيشمان هو زميل أقدم في “برنامج جيدولد” في معهد واشنطن ومدير سابق لشؤون شمال إفريقيا في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي.

المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى