قراءة في رواية: الشحاذة

أحمد العربي

هيفاء بيطار روائية سورية لها العديد من الروايات. الشحاذة؛ رواية كتبت بلسان المتكلم، من بطلة الرواية، و عن بطلة الرواية، حيث تتغير وضعية السرد في ثنايا الرواية، تختلط على القارئ، هل هو أمام شخصية الراوية التي تتحدث عن نفسها تارة، وتارة عن البطلة، بلغة الاخبار، الالتباس يكمن اننا امام ذات الشخصية، التي يعبر عنها بصيغة الأنا، أو الحديث عن (هي).

لا تشذ الرواية عن اغلب الروايات التي كتبها سوريون وسوريات، بعد عام ٢٠١١م، عام الثورة السورية، الأغلب منشغل بهذه الثورة ويحاول أن يغطي احد اوجهها المتنوعة، متابعة حياة السوريين في الداخل السوري أو في بلاد اللجوء، الحالة الميدانية العسكرية او المدنية او في كل ذلك.

في الشحاذة تغوص هيفاء البيطار عميقا في شخصيتها المحورية، تلك المرأة السورية ، الخمسينية العمر، ابنة اللاذقية المدينة، ديانتها المسيحية، تنتمي نفسيا ووجدانيا الى الثورة السورية، لا تغوص عميقا في أسباب الثورة، لكن يفهم من سياق روايتها أن الثورة حق طبيعي ومشروع ويجب أن تحصل، وأنها معها. وتتحدث عن تداعيات الثورة وعنف النظام ووحشيته على الشعب كله، سواء الذين ثاروا و حاضنتهم الشعبية، أو ما تبقى من الخائفين، أو الموالين المنتفعين من النظام، الذين قدموا ارواح ابنائهم ثمنا لولائهم للنظام ، ترى بطلة الرواية ان كل الشعب السوري قد اكتوى بنار حرب يستفيد منها قلة تتربع على رأس السلطة والقوى الخارجية خاصة روسيا وإيران ومرتزقتهم، اضافة ل(إسرائيل ) التي تراقب موت السوريين وتشريدهم وتدمير بلادهم وهي في غاية النشوة. تخاف  بطلة الرواية من هذا العنف الذي حول حياة الناس إلى جحيم وأن الثوار واجهوا النظام بالعنف المضاد، رغم عدم توازي هذا العنف مع عنف النظام ووحشيته، ما تعاني منه بطلة الرواية هو هذا المآل المأساوي للإنسان السوري. حيث سيطر عليها هاجس الانتحار لتخرج من معاناتها بما اصاب السوريين جميعا وسورية البلد الذي فقد اعتباره واصبح ضحية صراع تدخلت به كل الدول الفاعلة واصبح حربا بالشعب السوري وعليه وهو ضحيتها الاولى. كانت بطلة الرواية قد احبت احد الشباب الذي واكب نضجها منذ ايام مراهقتها، كان سكناه بالحي نفسه جوارها باللاذقية، ومن ثم تابعا اللقاء والتفاعل ايام الجامعة، تعرفت معه ومن خلاله، على بعض الطلاب اليساريين الناشطين في أحزاب جذرية معارضة، كانت قريبة من أجواء رابطة العمل الشيوعية، التي اعتنقت الفكر الماركسي، وعملت لتبني حزبا طموحا يريد إسقاط النظام، كانت العلاقات بين الشباب والفتيات مفتوحة جنسيا، حيث يعتبرون ذلك جزء من الحرية الشخصية والعامة التي يسعون لتحقيقها وتعميمها في المجتمع، كانت صاحبتنا مسكونة في فكرة حرمة غشاء البكارة في المرأة، قدسيته وصونه الى زواجها و ليلة دخلتها، وأنه تعبير عن طهارتها وعفتها، أما الشلة المحيطة بها فقد اعتبرته جزء من التخلف ورواسب الأديان المعتبرة عندهم أفيون الشعوب . تأثرت صاحبتنا بالاجواء وحصل بينها وبين حبيبها فعل جنسي ادى لفقدان بكارتها، فقدت ثقتها بنفسها وتوترت و انهارت نفسيا، و اجبرت حبيبها على ان يجد الطبيب المناسب، لأن ذلك ممنوع قانونيا، ويدفع التكاليف لإجراء عملية استعادة غشاء البكارة، ثم تزوجته لعدة أشهر وأنجبت ابنتها منه، تطلقا بعد ذلك، هو غادر لامريكا وهي ربطت حياتها بابنتها، كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي، ابنتها اصبحت صبية الآن وتدرس بالجامعة، صاحبتنا تكتب الشعر والقصة وبعض المقالات وتنشرها، وتستفيد من ريعها. عملت صاحبتنا على ارسال ابنتها الى لندن لاكمال الماجستير، و تبعدها عمّا يحصل في سورية واجواءها من عنف النظام و إجرامه بحق الناس في سورية. صاحبتنا مسكونة بحب سورية الى درجة الهيام، وتعاني مما أصاب البلد بعد مضي ما يزيد عن خمس سنوات من بدء الثورة. النظام ضرب الكيماوي على بلدات مختلفة في ريف دمشق، وسقط ما يزيد عن الألف وخمسمائة من الشهداء الأطفال والنساء، أمريكا تلوح برد عنيف على النظام، وصل أعداد الشهداء من الشعب الأعزل الى مئات الالاف، ومثلهم مشردين ولاجئين، ملايين غادروا سورية ، وترك البعض بيوتهم انتقالا الى اماكن اكثر امنا، أغلب مدن سورية مدمرة، كل ذلك جعل صاحبتنا في حالة من الموات النفسي الذي يدفعها للانتحار، ما يربطها بالحياة هو وجود ابنتها التي أمنت عليها بذهابها لبريطانيا. صاحبتنا تعيش في بيتهم باللاذقية مع والدتها ووالدها المعمرين، وسرعان ما أمنت لهم السفر إلى باريس حيث يقيم اخوها واختها الطبيبين مع أسرهم. كانت تفكر بالانتحار وتعجز عن فعل ذلك. تستعيض عن ذلك بتناول الحبوب المهدئة، لتستطيع تحمّل العيش وتتحمل ما يحصل في سورية. لم تستطع الحبوب المسكنة ولا تواصلها مع ابنتها ان تجعلها تتحسن نفسيا، لذلك قررت ان تذهب الى فرنسا حيث اختها واخوها و والداها، وبالفعل ذهبت الى هناك. لم تحتمل تعامل الغرب والفرنسيين مع ما يحصل مع السوريين وكأنهم غير موجودين، ومأساتهم مهملة وغير حاضرة، جرحها نسيان المأساة السورية من قبل الغرب. آلمها ما حصل مع سوريين وصلوا إلى أوروبا بصعوبة بالغة متحدين الموت غرقا، إضافة للمال الكثير المدفوع للمهرب، البعض يغرق والبعض ينقذ ، الكل ذهب حماية حياة أصبحت مستحيلة في سورية، وخلق بداية جديدة في بلاد اللجوء، اخوتها تعاملوا مع الحالة السورية وكأنها لا تهمهم، فهم متغربين منذ عقود ويعملون وحياتهم مرفهة، مشغولون بتفاصيل حياتهم وعملهم الذي يأكل اغلب وقتهم. استغربت كيف يحصل هكذا مع اخوتها، سورية ذاتهم التي لا يستطيعوا أن يتنكّروا لها. عاشت بين عيادتي اخوتها، متسكعة في مقاهي الأرصفة تشرب القهوة وتحاول نسيان سورية واوجاعها، لكنها لم تستطع التحرر من حبها لبلدها وتحمل فقدانها، لم يفتر اهتمامها ومتابعتها لما يحصل في سورية. استمر تواجدها في فرنسا حتى الحصول على بطاقة الإقامة الدائمة، حيث تستطيع الخروج من فرنسا والعودة دون اجراءات فيزا وقبول أو رفض من جديد. وبعد ذلك قررت العودة إلى سورية.

 صحيح أن عملها في نشر القصص والموضوعات المتزنة والموضوعية قد أمن لها بعض المال للعيش، لكن ذلك كان أقل من حاجتها، خاصة أن ناشر كتاباتها منعها من الاقتراب مما يحصل في سورية.

عادت بطلتنا الى اللاذقية لتجد ان حياة الناس قد ساءت أكثر، زاد الفقر والخوف، كثرت بيوت العزاء وامتلأت البيوت بصور الشهداء، كل الميتين في هذه الحرب عند كاتبتنا شهداء. تواصلت مع صديقاتها. فوجدت  أن أغلبهن قد هاجرنّ، تواصلت أيضا مع الشغالة التي تنظف منزلها. وجاءت انها ازدادت نحولا ومرضا، كانت تعاملها بمحبة ومودة، لكنها علمت بعض وقت ان الأمن قد وجدها منتحرة في احد المراحيض العمومية التي كانت وظيفتها تنظيفها دوريا، وكانت قد فقدت اخاها في هذه الحرب، وعدت بمليون ليرة تعويضا لأهل “الشهيد”، لكن الدولة لم تعد تدفع، لقد كثر “الشهداء” (ضحايا حرب النظام ضد الشعب) وفرغت خزينة الدولة التي تقتل شعبها.

تنتهي الرواية بعودة صاحبتنا الى اللاذقية ومعرفتها بإنتحار الشغالة، وانتصار فكرة العيش كتحد لفكرة الموت.

في تحليل الرواية نقول:

٠ نحن أمام نص يريد الانتصار لمطالب الناس بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل، لكن فعل النظام العنيف و نتائجه المأساوية على حياة كل الناس. كان أكبر من حلم الناس وما أرادوا، مما أخاف بطلة الرواية وعادت لفكرة الحفاظ على حياة السوريين.؟!!. اذن اين معادلة الظالم والمظلوم في سورية ؟!. وكيف ينصف المظلوم من الظالم.؟. وان الخوف والاستسلام للواقع ليس حلا، وما زال حاكمك ظالمك.

 ٠ كنا ننتظر من البطلة مبادرة ايجابية سواء مع نفسها او محيطها وحتى غربتها في فرنسا، بدل استسلامها لمشاعر سلبية أو الاستسلام للانتحار.

٠ مفهوم الشعور الإيجابي عن حب سورية والزعل عليها. لكن الأهم هو انتصار الحق فيها وإسقاط النظام ومحاسبته، وبناء الحياة الافضل.

اخيرا: لا نستطيع أن نلزم أحدا بطريقة محددة لكيفية محبة سورية، بل الاهم انه علينا كلنا ان نحبها بغض النظر قدرة هذا الحب لفعل شيء، أو مدى اختلاف نوعية التعبير عنه. لكن المعيار النهائي لهذا الحب هو مدى انعكاسه خيرا أو شرا على النفس وعلى عموم الناس، وهكذا يتم فرز أعداء الشعب عن ابنائه المخلصين المقدمين له الغالي والرخيص لحمايته وبناء حياته الافضل، ممن يستغل الشعب ويقتله، والكل يدعي حبه لهذا الشعب، وانه يريد له الخير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى