أنت سورية بلادي أنت عنوان الفخامة
كل من يأتيك يوماً طامعاً يلقى حمامه
قد يبدو من هذه الأشعار المنظومة أنّها مجرد مدائح عامة دُبّجت في سبيل حب الوطن والدفاع عنه، ولكن إشكالية كتاب الولاءات المتضاربة لجيمس غيلفن1 تبدأ من هنا تماماً، إذ يبين المؤرخ الأميركي أنها إحدى الأبيات التي أرادت الحكومة العربية (1918-1920) في ربيع عام 1919 تحفيظها في المدارس السورية كمظهر من قومية «حكومية» تنزل على قومية أخرى تنشأ بين جنبات مجتمع سوريا الطبيعية.
هذا يذكرنا باستعارة تقديم المؤرخ محمد م. الأرناؤوط لكتاب غيلفن تحت عنوان «الولاء المنقسم بين قوميتين» في كتاب من الحكومة إلى الدولة: تجربة الحكومة العربية في دمشق (2020)، حيث حضّ على ترجمته وأشار إلى تأخر ذلك نحو 22 عاماً بقوله: «مرّ هذا الكتاب وكأنه لم يكن ولم يحظ -بحد علمي- بعرض أو يستفاد من تجربته في اللغة العربية»، وأشار إلى أنه يلقي ضوءاً جديداً على فهم فشل تجربة الحكومة العربية الرائدة، دونما حصر ذلك في تآمر إنكليزي- فرنسي.
يصدر أخيراً هذا الكتاب المرجعي، الذي كان في أصله أطروحة دكتوراه غيلفن، بترجمة وتحقيق الباحث والمترجم السوري عمرو الملّاح تحت عنوان الولاءات المتضاربة: القومية والسياسة الجماهيرية في سورية مع أفول شمس الإمبراطورية ضمن سلسة «ترجمان» عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2021) في مقدمة مُطولة وثلاثة أقسام بستة فصول، مع ملحق لأعلام هذا الكتاب ضمن 464 صفحة.
لا يعمد غيلفن إلى تحليل المصادر المتناقضة لتكوّن القومية العربية في سوريا من خلال سرد الأحداث السياسية توالياً، بقدر ما يقدم ثلاث أطر متوازية في أقسام كتابه، تتناول المد والجزر الحاصل في عملية التشكل هذه بين قمة الهرم السياسي وقاعدته الاجتماعية عبر دراسة ثقافية أنثروبولوجية فريدة في تحليل مصادرها المختلفة.
تناول غيلفن في قسمه الأول الانقسام السياسي بين هذين البنيتين في الدولة المتشكلة، تلك النازلة بالقومية على المجتمع والأخرى الصاعدة بها إلى الحكومة، وفي قسمه الثاني أشار إلى نوعين عامّين من الخطاب المتصارع، ليختم في قسمه الثالث تناول احتفالات الحكومة والتظاهرات الجماهيرية ودورها في التشكل القومي، وكل ذلك على ستة فصول موزعة اثنين اثنين في كل قسم.
«بدو الدولة الرحّل الذين لا وطن لهم»
استعمل غيلفن مقولة نيشته أعلاه ليتحدث عن طبقة وسطى وشعبية من الأدباء والمهنيين، نشأت إثر تحولات في المجتمع والاقتصاد العثمانيين بعد منتصف القرن التاسع عشر، فكانت نواة مجموعات محلية، من خارج التركيبة النخبوية المعتادة، في طريقها للتفكير في بيئة سوريا الطبيعية كوطن، تحت المظلة العثمانية قبل الحرب العالمية. وهذا ما كان يشير إليه في منهجية دراسته بأنّها تحاول الكشف عن قومية شعبية بدلاً من التركيز فقط على القومية كخطاب رسمي يأتي من رأس هرم الدولة والمجتمع، كما فعل المؤرخون ذوو المقاربة المثالية قبل ذلك.
يعني هذا أن دراسته يمكن أن تندرج في ظل البحث عن تاريخ المهمّشين واستنطاقهم واكتشاف البيئة الاجتماعية والثقافية التي تكونت في حواضر سوريا عبر السياسة والتعبير الجماهيري المتنوع في النضال من أجل تقرير المصير، يضاف إلى ذلك كونها دراسة تُعنى بالمشكلة الاقتصادية الأمنية لظروف سوريا ما بعد العثمانية، كما يُشير، وحالة ما بعد الحرب كالضرائب والرواتب وارتفاع الأسعار وقضية العُملة وأثمانها المتغيرة.
فوق ذلك فإن دراسته تُعنى أيضاً بوضع المقاربة الأنثروبولوجية على طاولة البحث، تلك التي تدرس الرموز والشعارات والطقوس في الفضاء العام، فتبحث عنها في المصادر المتنوعة والرئيسية المتشكلة في سوريا الطبيعية، كالمذكرات والمصادر الأرشيفية وصحف الحكومة والجرائد المحلية والعرائض ومدونات الجدران. ورغم تطرق غيلفن بالعموم لرمزية اللباس إلا أنه لم يعتمده بشكل مباشر في دراسته.
نحو موزاييك قوميّ: «أيام السفربرلك أحسن بكثير»
لا يحسم غيلفن تشكل القومية من طرفين متنازعين، بل يقدم لنا عوضاً عن ذلك روافد شديدة التعقيد والتركيب في عملية التشكل هذه. لذا فإن دراسته تحاول إظهار هذا التداخل بوصفه السمة الرئيسية لتلك الحقبة التي حوت، كما يبين المؤلف، عدة أجيال وطبقات وأجسام سياسية، ابتدأت من حزب اللامركزية العثماني والعربية الفتاة، مروراً بجيل شباب التنوير النخبوي، ولم تنته بتجمعات مهنية ونقابية للتجار والقبضايات والزعامات المحليين. مع تأكيده على تواجد برازخ ملموسة بين الأعضاء المنتسبين للمجموعات المختلفة، إذ كان بإمكان العديد من الأسماء التواجد إما بين تحزبات السلطة أو تلك الناشئة لدى المجتمع، ولعب دور الوسيط.
فعلى صعيد النخب «المتنورة»، يتحدث غيلفن عن تفرعات مصادر القومية التي أتت على الشعب السوريّ من عِلّ عبر منتسبي المنتدى الأدبي، فالنادي العربي والعربية الفتاة وكافة الأحزاب المتشكلة في إطارها عبر من أسماهم «الأعيان الكلاسيكيين والوافدين الغرباء» (النخب العربية القادمة من اسطنبول أو الحجاز). أما على صعيد المجتمع فيبين غيلفن تكوّن الدور التضامني الترابطي بين المجتمعات المحلية، والذي أنتج عُصب اللجان الشعبية، مثل اللجنة الوطنية العليا والذراع الحمائي لها عبر لجان الدفاع الوطني، بُعيد الظروف القاسية للسفربرلك (النفير العام العثماني) والحرب العالمية الأولى ومصائب التهجير الأرمني والكوارث الناجمة وتشكيلها محاولات في مواجهة الفقر والعازة وفقدان أفراد الأسر، وغيرها من دواعي إنتاج هذا التضامن المحلي الذي أبرز قومية مدّ وجزر مع/ضد الحكومة العربية.
وفي ظل غياب فكر رجال البيروقراطية ونخب التنوير عن تلك القومية المجتمعية، ازداد تبلور ما أسماه غيلفن «الصلة الوظيفية بين العالم والتاجر والقبضاي»، إمّا في مواجهة تحديات ظرف البحث عن سيادة مجتمعية تجاه التحديات الصعبة التي أراد المجتمع تحمّل أعبائها، أو حتى قبالة الاعتراض على رموز تلك الحكومة وتوجيه النقد لها، باعتبار أن التعقيدات الناشئة كانت أشدّ من ظروف زمن الحرب.
حرب الرموز بين المشاغبين والحكومة
هكذا، تعاصر في خضم تلك الظروف تشكل إيدولوجيا الرموز الشعبية والأمة القومية، والمواجهة في حرب الرموز بين السياسة الشعبية والسلطة السياسية وهو ما يتقصاه غيلفن من خلال التركيز على مسألتي المجال الخطابي وطبيعة التجمهرات التابعة لمجال النخب والعموم.
عند حديثه حول المجال الخطابي، أشار الكاتب إلى خطاب نخبوي فوقي يقابله خطاب مجتمعي رخو وغامض لا محددات فيه ينفذ بسهولة إلى كافة البيوتات، مع تأكيده على أن القومية الناجمة عن هذا الأخير تشدّ أزرها عندما يحمى الوطيس في مواجهة ظرف طارئ أو ضربة قاسمة، وهي مميز هذه القومية التي تواجه الحكومة، إن صحّ التعبير.
سعى المؤلف لبيان المجال الخطابي لتلك الأطراف عبر تحليل محتوى الخطاب المكتوب والمُلقى الكمي والكيفي. وأشار غيلفن أن الحكومة، بعد مشادات حول أنواع الخطاب الذي ترتضيه في منصاتها المختلفة، كانت تخضع في كثير من الأحيان للجان الشعبية حينما يمسّ الأمر مسائل أشار إليها من مثيل «استقلال سوريا التام» و«الشهادة والشهداء» ودلالات الشعارات الإسلامية والتجاذب المستقطب حول كل ذلك.
وركّز غليفن على أحد أبرز هذه القضايا الحساسة حينها، ألا وهي قضايا المرأة، فبيّن أن خطاب «حزب التقدّم» المنسوب لمتنوريّ الحكومة اختار رمزية «التقدم» وبعثات المرأة إلى أوروبا وحصولها على التعليم وحق الإنتخاب، بينما كانت رمزية «الإرادة الشعبية» المتمثلة في «الحزب الديموقراطي» تعطي اعتباراً أكثر لحلول المرأة في المجتمع واتحادها معه عبر الخدمات الإغاثية والحضور في المظاهرات وحتى المساعدة العسكرية، وتشريع هذه الأدوار من خلال الإحالة إلى التاريخ والتقاليد.
امرأة مثل نازك العابد، مع كونها من عائلة الأعيان الكلاسيكيين في سوريا، إلا أنّها لم تدّخر جهداً في أن تلعب دوراً أكبر لدّى خُدّام قومية المجتمع. وهذا ما يودّ غيلفن الإشارة إليه، أن الظرف كان بالفعل شديد السيولة، إلا أنّه يمكن فهم وجود تلك الروافد المجتمعية «التحتية» للقومية التي تفرض نفسها على النخب بوضوح.
أشار غيلفن إلى الخطاب الأبوي الذي ارتسم بين خطباء الحكومة عبر وصف المخالفين بالمشاغبين، وبمثل مقولة رضا باشا الركابي في مايو 1919:«إن موقف الحكومة تجاه الشعب هو الأم المشفقة، والشعب تجاه الحكومة هو الابن البار». على صعيد آخر، يشير المؤلف إلى خطابٍ للشيخ كامل القصّاب بأنّه كان يحاول جذب حتّى رجال العصابات والبدو المتنقلين في سائر المناسبات؛ فكانت تنشأ بسبب هذا عملية استقطاب مشهودة كانت تنحاز «للطوائف الاجتماعية» وفق مسمّى المقاربة التي نقلها غيلفن عن السوسيولوجي دوركهايم.
ولادة الجمهور طبيعياً وتوليدهم قيصرياً
قد يكون حديث غيلفن عن هذا الموضوع أمتع جزء في أطروحته، إذ ينتقل لتحليل السياسة الجماهيرية كسياسة حكومة تسعى لإقرار الأعياد والمناسبات الرسمية والمسرحيات من جهة، في تقابل أو تنافر للجمهرة الشعبية في عراضاتها واعتراضاتها ومظاهراتها وتجمعاتها الطبيعية.
يُعبر غيلفن عن تينك المقاربتين من خلال بيان مقاربة الأنثروبولوجي الشهير كليفورد غيرتز لمسألة الاحتفال والتجمع الجمهوري وفق كونه أنموذجاً «للواقع» أو «عن الواقع»، إذ يشير إلى أن النمذجة عن الواقع يصحبها الطابع الإيعازي، وعلى العكس يكون في النمذجة للواقع، مع تأكيده على كونهما عمليتين مترادفتين في التشكل.
كان كل من الحكومة واللجان الشعبية يرنون إلى تقديم نموذج «عن الواقع» لطابع الاحتفالية بكل تأكيد. إلا أنه، في حالة اللجان الشعبية، تضائل أثر التخطيط الاستراتيجي لمثل هذه المناسبات وكانت أكثر تعبيراً عن الهيئة الشعبية.
شكلت المسرحية، على سبيل المثال، تكتيكاً حكومياً يجمع الجمهور في حيّز مغلق محدد وضيق في تناول أي قضية ترومها، بينما كانت المظاهرات في الساحات المفتوحة على أدنى المطالب تقلق هذه الحكومة. أيضاً، ظاهرة خلق الأعياد حصل فيها ضرب من هذه الحرب الرمزية، إذ أنزلت الحكومة عيدي الثورة العربية الكبرى وفتح سوريا بدخول الجيش العربي إليها، قابله اعتبار غيلفن أن عيد الاستقلال كان يمثل رمزية مباركة الأمة لتنصيب الأمير، إذ أن الأخير لا يكون إلا بوجود الأمة، بينما العيدان الأوليان كانا عيدين غريبين عن المجتمع ولجانه الشعبية.
في الختام، يشير جيمس غيلفن إلى أن عملية التكون القومي الشعبي لم تكن مقتصرة على فترة الحكومة العربية القصيرة 1918-1929 بطبيعة الحال، وإنما كانت هذه الفترة حلقة هامة ضمن سيرورة ممتدة ومتقطعة في نفس الوقت، ستمتد بعد ذلك لتؤثر على الثورة السورية الكبرى 1925-1927 والثورة الفلسطينية في 1936.
بين الترجمة والتأليف
أخيراً، لا بد من الإشارة إلى نص الكتاب العربي، إذ لم يكن العمل على ترجمته بالسهل. فترجمة عمل مؤرخ أجنبي عن التاريخ العربي يستلزم الرجوع إلى اقتباسات النصوص العربية الأصلية، وتعزيزها بمراجعة المصادر، لا أن يُكتفَى بترجمتها عن النص الأصل. وهذا ما قام به مترجم هذا الكتاب، عمرو الملاح، على أكمل وجه.
لم يظهر أن المترجم كان مجرد مُعرّب للنص، بل سار في هذه الحقبة من التاريخ السوري مع المؤلف بتخصصٍ واطلاعٍ عميقين في تدقيق ما لديه من هفوات وزلات في هوامش النص وبيان المراجع المتعلقة، يضاف إلى ذلك حصده الجهيد لكافة أعلام الدراسة بوضع مسرد يُعرّف بهم مع جلب المصادر التي ذُكروا فيها.
محمد عثمانلي هو باحث في التاريخ العثماني والعلاقات العربية-التركية
المصدر: الجمهورية نت