من يتابع حوارات السوريين في شتاتهم، على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي منابرهم الإعلامية يعرف جيداً كيف يستعر الحوار بين السوريين، وكيف يدور في غالبه داخل حلقة مفرغة.
من الطبيعي اليوم أن ترتفع وتيرة الحوار بين السوريين، فالأسئلة التي يطرحها واقعهم الراهن، ومشهد وطنهم المدمر، وغموض القادم، كل هذا يفرض عليهم وبإلحاح أن يحاولوا الإجابة عن هذه الأسئلة، وأن يتحاوروا، وأن يحاولوا إيجاد سبل خلاصهم من الكارثة التي تعصف بهم.
لكن المفارقة المستمرة منذ أن انفجرت الثورة السورية تتجلى في أن السوريين المتحاورين لا يكادون يتفقون على شيء، حتى اتفاقهم الظاهري في بعض القضايا سرعان ما يتحطم عند الغوص قليلاً في تفاصيل هذا الاتفاق، على الرغم من أن لديهم اليوم مشتركات كثيرة تشكل أرضية يمكن أن تكون منطلقاً لحوار يكرّس اتفاقاً عريضاً يجمعهم، فهم جميعهم مهددون بمصيرهم، وبمصير وطنهم، وهم جميعاً عاشوا الآلام ذاتها، وتشاركوا القهر والقمع والخسارة من الجهة ذاتها.
يمكن القول إنه من أهم سمات الحوار السوري هو هذا الإصرار على استبعاد المشتركات، والتشبث بالاختلافات، ولا أدري إن كان هذا الإصرار مردّه إلى حالة اليأس والقنوط وعدم القدرة على الفعل، وهي حالة تتأتى من فكرة عبثية الوجود والفعل، التي تنتشر في المجتمعات الغارقة في الحروب والمبعثرة بين شتات الداخل والخارج، وبين المخيمات واللجوء والهجرة، والغارقة في استحضار ذكريات الحرب والموت والقهر، أم أنه فقط نتاج تغييب الثقافة والسياسة، وعقود القمع التي عاشوها؟
ثمة سمة أخرى أيضا في الحوار السوري، إذ لا يستحضر السوريون الماضي القريب، والحاضر المعاش في حواراتهم كمقدمة لصياغة المستقبل، ورغم انطلاقهم من هذه العناوين في بدايات حواراتهم، إلا أنهم سرعان ما يذهبون إلى تحويل هذا الاستحضار من عامل للبناء والاتفاق إلى عامل للاختلاف، وإغلاق بوابات الحوار.
نحن السوريين نتصارع في الماضي، ولا نرى الحاضر إلا بوصفه استمرارا لهذا الصراع، ونتخيل مستقبلنا أيضاً كامتداد لهذا الصراع، نتفنن في نبش أحداث الماضي، نسترجع تفاصيلها كأنّنا نريد معايشتها من جديد، ولا يهمنا في استحضارها، إن كانت انتصارات لنعزز ممكناتها، أو هزائم لنتجنب أسبابها، ولا ننتبه أنّنا في هذا الاستحضار العبثي للماضي، نسحق حاضرنا ومستقبلنا.
ثمة صراعات محتومة النتائج، وخوضها انتحار عبثي لا معنى له، والتاريخ كريم للغاية في أمثلته عن صراعات العبث هذه، ومآلاتها.
من أين إذاً يأتي كل هذا العناد على خوضها؟! فما من تحديث يقوم إذا تمَّ فصله عن قيم الحداثة أياً يكن مصدر هذه القيم، ولم يعد بإمكان أي تطرف أيديولوجي، أو قومي، أو ديني أو طائفي.. إلخ، أن يصمد طويلاً أمام مدّ الديمقراطية، خصوصاً بعد أن اجتاحت العولمة كوكبنا، ولم يعد بالإمكان إغلاق أي مجتمع وعزله عن العالم ومجرياته، وتطور التقنيات فيه.
إذا كانت المفاهيم والمؤسسات والقيم التي ارتبطت بالحداثة، قد ولدت ونشأت وترعرعت في مجتمعات وثقافات أخرى، فإنها وبمرور الزمن فقدت انتماءها الحصري لتلك المجتمعات والثقافات، واكتسبت أبعادا عالمية، وأصبحت لازمة لا بديل عنها إذا كنا نريد لمجتمعنا أن يكون جزءاً من حاضر البشرية الراهن ومستقبلها، وإن تجاهل مسلمات الحداثة لن يوصلنا إلا إلى الاستغراق في دوامة التخلف، وهدر الزمن، والقدرة على التطور، وإن أي مجتمع حداثي، يتطلب بالضرورة فصلاً بين الديني والسياسي، يتحدد حجمه وفق حاجة المجتمع وضرورات تطوره.
إن أكثر ما تحتاجه سوريا اليوم، وما يحتاجه أي حوار سوري/ سوري، هو إزاحة أي عصبية منه، بغض النظر عن هذه العصبية ومرجعيتها، فما من عصبية دينية، أو قومية، أو طائفية أو أيديولوجية.. إلخ، يمكنها أن تؤسس لسوريا قابلة للعيش، وإن تفخيخ أي صيغة لسوريا القادمة بعصبية ما، سيقودها لاحقاً إلى انفجار أكيد.
من جهة أخرى، فإن سمة أخرى تظهر جلية في أي حوار بين السوريين، وهي القفز بعيداً في رسم تصور سياسي حالم لسوريا القادمة، ووضع الاشتراطات له والاختلاف حول هذه الاشتراطات كما لو أنها راهن لا يمكن بأي حال تنحيتها جانباً، هذا التصور يتطلب حصول معجزة سياسية، وإنسانية، وقانونية في لحظة واحدة، وأزعم أنه لا تجنيَ بالقول: إن هذا ضربٌ من ضروب المحال، ففي الزمن السياسي لأي مجتمع بشري ثمة تدرّجات حتمية لا يمكن إزاحتها، وترتيب أولويات هذا التدرّج السياسي هو جوهر الفعل في السياسة.
إن نسف ترتيب الأولويات وبعثرتها، وعدم الاعتراف بأهمية ترتيبها، هو انتحار سياسي لن يقود إلى أي جدوى.
في مسرحيته الشهيرة (في انتظار غودو) للكاتب المسرحي الأيرلندي الشهير «صمويل بيكيت»، «1906 1989»، نجد حوارا يشبه إلى حد بعيد حواراتنا نحن السوريين، إذ يخوض بطلا المسرحية «فلاديمير»، و«استراغون» حواراً غير محكم، وبلا تسلسل منطقي، يرتديان ملابس رثّة، وترتسم على وجهيهما ملامح الملل والتعب، يقفان في مكانٍ بعيد، لا يوجد فيه سوى شجرة عارية بلا أغصان أو أوراق، بانتظار شخص ثالث هو «جودو»، لكأنّما يريد أن يقول الكاتب لنا إن بعض الحوارات ليست إلا صدى اليأس والانتظار الذي لا طائل منه، ومع هذا فالبطلان يتشاجران ويذكران بعضهما: بأن ما من شيء يستوجب عمله سواء البقاء وانتظار المدعو «جودو»، الذي لن يأتي أبداً.
هل يمكن إطلاق حوار سوري بصيغة أكثر جدوى، حوار مسؤول يقطع مع هذا العبث غير المجدي الذي يسم معظم حواراتنا، حوار يرتب مشتركاتنا وأولوياتنا، لنستعيد قدرتنا على الفعل والتأثير في معادلة رسم مصيرنا ومصير وطننا؟
إنه سؤال برسم كل السوريين، لكنه أولاً برسم المثقفين، والسياسيين، والمفكرين، ورجال الدين، والاقتصاديين، والفنانين، والإعلاميين والعسكريين.. إلخ، الذين يريدون فعلاً أن تكون سوريا وطناً حراَ سيداً لكل السوريين.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا