تراجع الاهتمام الأميركي بالملف السوري في عهد إدارة الرئيس جو بايدن، ولم تتخذ هذه الإدارة، بعد مضي عام على وجودها في البيت الأبيض، استراتيجية واضحة تجاه هذا الملف. وقد دفع هذا التراجع الأميركي روسيا إلى استغلاله في محاولة إعادة تعويم النظام السوري، فمرَّرت الانتخابات الرئاسية السورية التي قوبلت بتصريحات أوروبية وأميركية بعدم شرعيّتها؛ ثم انفتحت دول عربية على النظام، وتم ترويج عودة مقعد دمشق إلى جامعة الدول العربية على أثر موافقة أميركية شفهية على تمرير خطوط الطاقة من الأردن ومصر عبر سورية إلى لبنان. رفضت مصر البدء بتمرير الغاز بسبب عدم وجود موافقة أميركية قانونية، باستثناء هذا المشروع من عقوبات قيصر، فيما تعثّر مشروع تعويم النظام عربياً، بسبب الرفض القَطري الجذري، والرفض السعودي الناري أخيرا، لأية محاولات لتلميع صورة النظام السوري وإعادة تأهيله.
المبادرات العربية التي تنادي بعودة دمشق إلى الحضن العربي من دون حل سياسي، تحت ستار الواقعية السياسية، تنتظر خطوة من النظام مقابلة لهذا الانفتاح، غير واقعية؛ فالنظام عاجز عن تقديم تلك الخطوة، والتي حُدِّدت بالكشف عن مصير المعتقلين والمفقودين، وضمان عودة آمنة للاجئين، وعاجز أيضا عن ضبط جماعات إنتاج المخدّرات وتهريبها على الحدود مع الأردن؛ ورجالاتُه هم أنفسهم متورّطون في تجارة الكبتاغون بالشراكة مع مليشيات حزب الله، فيما بات بقاء النظام واستمرار الوجود الإيراني في سورية أمرين مترابطين عضوياً. وبالتالي، من الوهم القول إن إعادة العلاقات العربية مع دمشق ستقلل من النفوذ الإيراني في سورية.
ظلّت سياسة واشنطن ثابتة في سورية في عدة أمور، أهمها أمن إسرائيل، والبقاء في سورية (بعد سياسات متضاربة بين الانسحاب والبقاء)، ومنع روسيا والنظام من الوصول إلى آبار النفط والغاز في الشرق، وتثبيت خطوط التماسّ بين الأطراف المتصارعة، وبالتالي منع روسيا والنظام من التقدّم في إدلب، وكذلك منع تركيا من التوغل أكثر شرق الفرات على حساب حلفائها من الوحدات الكردية؛ وهذا يعني أن واشنطن تضع الكرة في الملعب الروسي، بانتظار خطوةٍ مقبولةٍ باتجاه الحل السياسي. دفعت الولايات المتحدة باتجاه تنسيق بين “الإدارة الذاتية” والنظام برعاية روسية، والذي فشل، بسبب رفض النظام الاعتراف بهذه “الإدارة الذاتية” أمرا واقعا. وقد دفع هذا روسيا إلى تطبيق حصار خانق بإغلاق المعابر بين النظام والإدارة الذاتية بالتوازي مع إغلاق كردستان العراق معابره الحدودية، ما تسبّب بأزمة إنسانية ومعيشية وصحية كبيرة شرق الفرات، وشكّل ضغوطاً على “الإدارة الذاتية”، خصوصا بعد عودة قوات سورية الديمقراطية (قسد) إلى المناطق التي انسحبت منها لصالح النظام في ريف الرقة ومدينة عين عيسى، خلال فترة التهديد بالتوغل التركي في المنطقة.
حرفت روسيا مسار الحل السياسي عن جنيف باتجاه أستانة، بإشراك تركيا وإيران فيه، واللجنة الدستورية، برعاية أممية، والتي لم تحقق أي شيء، غير تمرير الوقت لمصلحة روسيا والنظام، ويشارك في عملية تمرير الوقت هذه المبعوث الأممي إلى سورية، غير بيدرسون، بمبادرته “الخطوة بخطوة”. وميدانياً، يدلّ انقلاب روسيا على اتفاق الجنوب في 2018 على فشل خطَّتها في تشكيل فرق موالية لها، وبعيداً عن سيطرة النظام وإيران، وقد اضطرّت إلى إبعاد الفرقة الرابعة عن درعا وريفها، وإجبار المليشيات الإيرانية على الانسحاب، لتأمين الحدود مع الحليف الإسرائيلي، والذي باتت تنافس واشنطن على حماية أمنه؛ ويتفق الروس والأميركان على السماح لإسرائيل بتوجيه ضرباتٍ للمواقع الإيرانية على الأراضي السورية.
ما زالت السياسة الأميركية في سورية تتّصف بالدور المعرقِل لطموحات روسيا القيصرية، في التوسّع أكثر في حوض المتوسط وأفريقيا وآسيا الوسطى، وهي تتمسّك بقرار مجلس الأمن 2254 آلية للحل السياسي في سورية، وباستمرار العقوبات، وتطبيق محاسبة النظام. هذا لم يمنع فتح آلية تنسيق أميركي – روسي عالي المستوى، أنتجت صفقة تمرير المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى ودمشق وعبر خطوط التماسّ، والتي أُقِرّت في مجلس الأمن ستة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة. وكانت موسكو قد راهنت على تقدّم أكبر في التنسيق مع واشنطن، وعلى نية الأخيرة الانسحاب من العراق وسورية، بعد أن انسحبت من أفغانستان. سياسة “تراخي” البيت الأبيض تجاه الملف السوري قوبلت بانتقادات كبيرة في الكونغرس من الجمهوريين والديمقراطيين على السواء، ولذلك تشدَّدت الإدارة الأميركية، أخيرا، في تصريحاتها تجاه النظام السوري، وفرضت حزماً جديدة من عقوبات قيصر، بينما تحاول أطرافٌ في الكونغرس الدفع باتجاه إقرار قانون مكافحة المخدّرات، وفرض آلية لمتابعة نشاطات النظام السوري في إنتاجها والاتّجار بها.
يلقي التوتر أخيرا في أوكرانيا بظلاله على الملف السوري؛ قد تنفّذ روسيا تهديدها بشن هجوم على إقليم دونباس في أوكرانيا، وهذا يعني تعرّضها لعقوباتٍ غربيةٍ تشكّل حصاراً لها، وتجعل سورية ورقة ضغط عليها، ما يدفعها إلى البحث عن مساوماتٍ قد تساهم في تحريك المياه السورية الراكدة. لكن المرجح هو توصل الأطراف المتصارعة في أوكرانيا إلى تهدئةٍ مؤقتةٍ للأزمة، وتأجيل حسمها.
إلى ذلك، فاقم الاستنقاع السوري الأزمات المعيشية في مناطق النفوذ الثلاث، حيث بات أكثر من 12.4 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي، و1.3 مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد، حسب تقرير برنامج الأغذية التابع للأمم المتحدة. وتعني هذه الأرقام المخيفة زيادة معدّلات الجريمة والتفكّك الاجتماعي في غياب أجهزة الدولة. هناك تضخّم اقتصادي مكبوت، ومن المتوقع انفجاره خلال العام الجديد، ولن تفيدَ حكومةَ دمشق إجراءاتُ إجبار المصارف والمستثمرين (من تجّار الحرب غالباً) على شراء سندات خزينة الدولة، وهي مضطرّة إلى الاستمرار بسياسة التمويل بالعجز، ما يعني مزيدا من الانهيار الاقتصادي والمعيشي في العام المقبل.
في مطلع عام جديد، لا متغيرات سورية تدعو إلى التفاؤل؛ تحاول أطرافٌ من المعارضة السورية تحريك الركود، بالدعوة إلى ندواتٍ هذه المرة، فهناك ندوة في الدوحة في فبراير/ شباط المقبل، دعا إليها، رياض حجاب، ينظمها مركزان معارضان للدراسات، وبعض الشخصيات، لوضع تصوّر للحل السوري، فيما يدعو تنظيم مجلس سورية الديمقراطية (مسد) إلى مؤتمر آخر في أوروبا، بمشاركة تيارات المجتمع المدني وشخصيات اجتماعية بارزة. من حيث المبدأ، هذه الندوات جيدة، لكن المشكلة الأساسية هي في عقلية المعارضة “المجرَّبة” القائمة على الارتهان لأجنداتٍ غير سورية، وفي استمرار عدم مراهنتها على دور الشعب، وفي التمويل الذي تتلقاه، ويجعل أولوياتها في مصالحها الشخصية؛ وهي ما زالت تشارك في اللجنة الدستورية، على الرغم من إعلان المبعوث الرئاسي الروسي، بالفم الملآن، رفض بلاده أي تغيير دستوري يخصّ صلاحيات الرئيس بشار الأسد.
المصدر: العربي الجديد