المسار التفاوضي جامد وخيارات الحفاظ على الأمن المائي تضيق أمام القاهرة… وتطورات الحرب الإثيوبية وعدم الاستقرار في السودان يفتحان كل الاحتمالات.
بعد سنوات من الجمود والتأزم، بدأ الربع الثاني من العام 2021 بمزيد من الأمل المشوب بالحذر لحلحلة الأزمة المستعصية والمعقدة بين دولتَي مصب نهر النيل، مصر والسودان من جهة، وإثيوبيا من جهة أخرى، بسبب السد المثير للجدل الذي تبنيه أديس أبابا على النيل الأزرق، إذ أُعلن حينها عن جولة مفاوضات جديدة استضافتها العاصمة الكونغولية كينشاسا في أبريل (نيسان) الماضي، وذلك بعد نحو ستة أشهر من تحذير أطلقه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، من أن “مصر قد ينتهي بها الأمر إلى تفجير السد”.
لكن كسابقاتها، اصطدمت جولة كينشاسا بجدار الخلافات الصلب بين البلدان الثلاثة، وباءت ما سمته القاهرة حينها بـ”مفاوضات الفرصة الأخيرة” بالفشل من دون تحقيق أي تقدم يُذكر، لتتلاحق التطورات وتتسع هوة الخلافات على وقع اتهامات متبادلة بالتعدي على السيادة وتهديد حياة الملايين، وصلت إلى حد التلويح بالخيارات العسكرية للحفاظ على الأمن القومي المائي لدولتَي المصب، وذلك في وقت تمسكت فيه أديس أبابا باستكمال خطة الملء الثاني للسد في موسم الفيضان الماضي يوليو (تموز)، وأغسطس (آب) بشكل أحادي، ليدخل ملف الخلاف لاحقاً أروقة مجلس الأمن الدولي الذي أوصى بعودته إلى مظلة الاتحاد الأفريقي مع الدعوة إلى استئناف المفاوضات “بصورة بناءة وتعاونية”.
وفيما يستعد العالم والمنطقة لاستقبال العام الجديد، تبقى قضية “سد النهضة” وتحديات ملف المياه في دول حوض النيل من بين القضايا التي تنذر بمزيد من التدهور والانفجار إقليمياً، في حال عدم الوصول إلى حل توافقي يقضي بتجاوز الخلافات بين كل من القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، إذ ضاعفت التحديات الأمنية الداخلية التي يشهدها السودان وإثيوبيا تعقيدات المشهد. ويبعد تمسك الحكومة الاتحادية الإثيوبية بالمضي في خطتها نحو إتمام عملية الملء الثالث المرتقبة للسد في موسم الفيضان المقبل، إمكانية الوصول إلى حل على المدى القريب، ما يعني وفق مراقبين “مزيد من الضبابية والغموض بشأن مستقبل الأزمة في 2022”.
سنوات من الخلاف
على مدى السنوات العشر الماضية، لم تنجح محطات المفاوضات الممتدة والمحادثات الطويلة ومحاولات الوساطات المتعددة أو المبادرات المطروحة في إذابة الخلافات القائمة بين البلدان الثلاثة، أو الوصول إلى جدول زمني لمَلء وتشغيل السد، وهو إحدى العقبات الكبرى على طريق حلحلة أزمة سد النهضة، الذي ترى فيه أديس أبابا قاطرة للتنمية وتحريك عجلة الاقتصاد، من خلال كمية الطاقة المتوقع أن ينتجها، فيما تخشى كل من الخرطوم والقاهرة تأثيره العميق في إمداداتهما المائية.
ووفق رصد أجرته “اندبندنت عربية” للبيانات والتصريحات الرسمية الصادرة من العواصم الثلاث، تكمن نقاط الخلاف بالأساس، في قواعد الملء والتشغيل، وحجم الأضرار على دولتَي المصب، فضلاً عن عملية إدارة السد مستقبلاً، الذي تبلغ تكلفته الإنشائية 4.5 مليار دولار أميركي، وتأثيره في قدرات مصر والسودان التخزينية للمياه.
وفي ما يتعلق بالملء والتخزين، تسعى إثيوبيا إلى ملء بحيرة خزان السد، البالغة 74 مليار متر مكعب، خلال فترة تمتد بين أربع وسبع سنوات، وذلك في وقت تتمسك فيه مصر بأن يتم الملء على مدى عشر سنوات مع الاتفاق على منظومة قانونية لإدارة السد، بما لا يؤثر في السد العالي (أكبر السدود المصرية المائية) والسدود السودانية وإدارة التدفق المائي مع الأخذ في الاعتبار سنوات الجفاف. بالإضافة إلى ذلك، تتمسك أديس أبابا بالمضي قدماً في خطتها لعملية الملء (أتمت الملء الأول والثاني على مدى العامين الأخيرين) بشكل أحادي حتى من دون موافقة دولتَي المصب أو الاكتراث لاعتراضاتهما.
علاوةً على ذلك، وبحسب تصريحات مصرية وسودانية متواترة، فإن الخلاف مع أديس أبابا بشأن سد النهضة لم يتعلق فقط بمسألة الحصص المائية (تُقدر بـ55 ملياراً ونصف المليار متر مكعب لمصر، و18.5 مليار متر مكعب للسودان)، إنما بمسائل أخرى تشمل أمان السد والآثار البيئية المترتبة عليه والأضرار المحتملة على دولتَي المصب. إذ تخشى القاهرة والخرطوم من مدى قوة السد وأمانه وتأثيراته في قدرات التخزين المائية، وهي بنود ضرورية برأيهما، في أي اتفاق مستقبلي.
وعلى الرغم من أن الدول الثلاث تقدمت بـصيغ بديلة لمحاولة تقريب وجهات النظر في النقاط الخلافية المتعلقة بالجوانب الفنية والقانونية للملء والتشغيل، فإن الخلافات راوحت مكانها. وتعثرت هذه المفاوضات أكثر من مرة في السابق بسبب عدم التوصل إلى اتفاق حول هذه الجوانب، الأمر الذى دفع مصر والسودان إلى اللجوء لمجلس الأمن الدولي للتدخل، فأحال بدوره الأمر على الاتحاد الأفريقي.
وخلال العامين الأخيرين، ارتفعت نبرة الاتهامات المتبادلة بين القاهرة والخرطوم من جهة وأديس أبابا من جهة أخرى، إذ اتهمت دولتَا المصب في أكثر من مناسبة إثيوبيا، “بالتعنت والعمل على إفشال المفاوضات والتصعيد المستمر عبر اللجوء إلى التصرفات الأحادية”، معتبرتين أن ذلك “يؤثر في استقرار المنطقة، ويقود إلى عواقب سلبية، ويُعد خرقاً لاتفاق المبادئ الموقع في عام 2015″. في المقابل، لطالما نفت أديس أبابا هذه الاتهامات، وكررت في أكثر من مناسبة أهمية السد في تنميتها الاقتصادية مع حرصها على عدم الإضرار بدولتَي المصب، متهمةً القاهرة بـ”محاولة السيطرة على مياه النيل”.
ونصت الاتفاقيات الموقَّعة في عامي 1929 و1959 على حصة مائية لكل من مصر والسودان، وهو الأمر الذي ترفضه إثيوبيا باعتبار أن تلك الاتفاقيات “من الحقبة الاستعمارية”، وعليه وقعت اتفاقاً في عام 2010 مع ست من دول حوض النيل لسحب حق الفيتو من مصر والسودان ضد إنشاء مشروعات على ذلك النهر.
هل نشهد حلحلة في 2022؟
وفق أغلب المراقبين المصريين والسودانيين، الذين تحدثت إليهم “اندبندنت عربية”، فإن العام المقبل أو في أقل تقدير حتى الوصول إلى موسم الفيضان في العام الجديد (يوليو وأغسطس المقبلَين) ومدى تفاعل أديس أبابا معه في ما يتعلق بالملء الثالث، ما من مؤشرات إلى قرب حلحلة الأزمة والوصول إلى حل توافقي بين البلدان الثلاثة لتلك المشكلة المعقدة في النصف الأول من العام الجديد. وأشار المراقبون في الوقت ذاته إلى الحرب الأهلية المتصاعدة وتيرتها في إثيوبيا وتداعياتها على مستقبل الحكم في أديس أبابا، والمنطقة، فضلاً عن عدم الاستقرار السياسي الذي تشهده السودان.
ويقول وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق، محمد نصر علام، “تأثرت إثيوبيا كثيراً بأوضاعها الداخلية والحرب بين الحكومة الاتحادية وجبهة تحرير شعب تيغراي، وأصبحت الأوضاع في أديس أبابا مرتبطة بمستقبل الدولة ذاتها وليس أي شيء آخر”. مضيفاً أن “الحرب في إثيوبيا والانقسام الداخلي العميق لهما بالتأكيد تداعيات على مستقبل أزمة سد النهضة، ولو جزئياً، ما يضفي مزيداً من التعقيد والصعوبات أمام احتمالات انطلاق مفاوضات جادة مع مصر والسودان على المدى المنظور”، مرجحاً استبعاد حدوث أي انفراجة دبلوماسية متوقعة طوال النصف الأول من العام المقبل.
وتابع علام، “ستكون المحطة المفصلية المقبلة، التي سيزداد معها القلق لدى دولتَي المصب وبالتالي عودة الملف إلى الصدارة مجدداً، مع قرب موسم الفيضان المقبل، في يوليو وأغسطس المقبلين، حيث عملية الملء الثالث للسد بشكل أحادي على الرغم من رفض القاهرة والخرطوم وتمسكهما بالتوصل إلى اتفاق ملزم قبل إتمامه”، وهو ما يعني، وفق رؤية علام، “ضرورة انتهاج مصر والسودان خطوات جادة قبل الوصول إلى هذه المحطة، مع العمل على تغيير آلية التفاوض وأدواتها تجنباً لتكرار الفشل الذي وصلت إليه المفاوضات في السنوات الماضية”.
وبرؤية مقاربة، قال الباحث السوداني قذافي جمعة، إنه وبشكل عام، سيكون العام المقبل، “شائكاً وصعباً على البلدان الثلاثة، حيث الحرب الأهلية المشتعلة في إثيوبيا، وترقب مصر والسودان عملية الملء الثالث لسد النهضة وتداعياته على أمنهما القومي والمائي”، موضحاً أن “لا بد من قراءة ما يدور داخل إثيوبيا ومآلاته، فضلاً عن تداعيات الحرب الأهلية الإثيوبية على ملف سد النهضة ومنطقة القرن الأفريقي كلها”.
وأوضح جمعة أن “تطورات الأحداث الداخلية المتلاحقة في إثيوبيا تضعنا أمام سيناريوهين، أولهما في حال انتصار جبهة تحرير شعب تيغراي والقوى المتحاربة معها على الحكومة المركزية في أديس أبابا، أو استمرار الحرب، ما يعني بقاء وضع المفاوضات متجمداً”. مضيفاً أنه “في حال استمرار الحرب قد نشهد تعقيدات إضافية في قضية السد، لا سيما مع ترجيح لجوء حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد إلى التصرف أحادياً والمضي قدماً في عملية بناء وملء السد وعدم الاكتراث بالمواقف المصرية والسودانية، وهنا قد يعود الحديث عن الخيارات العسكرية كحل نهائي للأزمة”.
وفي أكثر من مناسبة طوال العام 2021، كررت القيادة المصرية أن الأمن القومي المائي للبلاد “خط أحمر”، وأنها لن تتهاون في نقطة مياه واحدة من حصتها المائية وأن “ملف المياه مسألة حياة أو موت للمصريين”، وهو ما انعكس في تحركات عسكرية مصرية شملت اتفاقيات أمنية واستخباراتية وتدريبات عسكرية مع دول الطوق الإثيوبي، ما عده مراقبون استعداداً مصرياً للسيناريو الأسوأ في التعامل مع أزمة سد النهضة.
وتابع الباحث السوداني قائلاً إن “البعض يرجح أن تقود الأحداث الداخلية الإثيوبية، في حال انتصار الحكومة المركزية على جبهة التيغراي، إلى الميل نحو المضي في اتفاق مرضٍ لكل الأطراف في ما يتعلق بسد النهضة، من منطلق تفضيل حكومة آبي أحمد تصفية القضايا الخلافية الخارجية والالتفات إلى ترتيب البيت الداخلي”.
ويُعتبر سد النهضة، وهو مشروع طموح للطاقة الكهرومائية، رمزاً لهدف إثيوبيا في أن تصبح لاعباً إقليمياً رئيساً، معتمدة في ذلك على استغلال مياه نهر النيل، الذي يمتد لأكثر من أربعة آلاف ميل ويمر بـ11 دولة. ويبدأ النيل الأزرق، وهو الشريان الذي يزود النهر بـ80 في المئة من مياهه، عند بحيرة تانا في إثيوبيا، ويلتقي النيل الأبيض في الخرطوم، ويتدفق بعد ذلك إلى مصر.
وذكرت منى عمرو، مساعدة وزير الخارجية المصري الأسبق للشؤون الأفريقية، أن “العقبات والمعوقات تبقى قائمة في ما يتعلق بقضية سد النهضة”، معتبرة أنه “منذ سنوات والحكومة الإثيوبية غير راغبة في الوصول إلى حل لهذه القضية على الرغم من كل المحاولات والمبادرات التي طُرحت من قبل دولتَي المصب أو الوسطاء الدوليين والاتحاد الأفريقي”.
واعتبرت عمرو أن “استئناف المفاوضات بغرض استئنافها ليس السبيل نحو الوصول إلى حل، ما لم تبدِ الأطراف الثلاثة نيات حقيقية لإنهاء الخلاف فيما بينها”. وتابعت، “الموضوع الآن في طور التجمد ما لم تظهر معطيات أخرى على الأرض أو لدى القيادة السياسية في الدول الثلاث، أو بالأخص إثيوبيا لبدء التعاطي معها، بالإضافة إلى ذلك فإن التطورات الأخيرة سواء الداخلية في أديس أبابا أو على الصعيد الإقليمي زادت من الصعوبات والتحديات بشأن خطوات جادة وحقيقية لإنهاء الأزمة المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات”.
أي سيناريوهات متوقعة؟
في ضوء “الضبابية والغموض” الذي يخيم على مشهد الأزمة في ضوء التطورات الداخلية الإثيوبية والسودانية، وفق تعبير خالد عكاشة، مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، تبقى “كل الخيارات مفتوحة لحفاظ دولتَي المصب على أمنهما المائي والقومي”.
وقال عكاشة، “في الظروف الحالية إثيوبيا غير قادرة على عقد اتفاق بشأن أزمة سد النهضة”، مشيراً في الوقت ذاته، إلى أنه على الرغم من هذه التطورات، فلا يزال “الخيار الاستراتيجي بالنسبة إلى مصر والسودان هو العمل على الوصول إلى اتفاق قانوني وملزم بالطرق الدبلوماسية لحل المسائل الخلافية، إلا أن هذا المسار لا يتعارض مع احتمالات اللجوء إلى الخيارات العسكرية في حال الإضرار بحصة مصر المائية، وهو ما عبرت عنه القاهرة في أكثر من مناسبة”.
وفي مقابلة أجريت في 8 سبتمبر (أيلول) الماضي، مع وزير الخارجية المصري سامح شكري، أكد الأخير أن بلاده حريصة على “تجنب الصراع المسلح” مع إثيوبيا في ما يتعلق بمياه النيل، في حين نقلت وكالة الأنباء الإثيوبية (فانا) عن مسؤول إثيوبي، قوله إن “الصراع لم يكن أبداً خياراً بالنسبة إلى أديس أبابا”. ومع ذلك، اتخذت مصر والسودان خلال فصلَي الربيع والصيف الماضيَين خطوات باتجاه التصعيد الدبلوماسي والعسكري وذلك تحسباً للتعبئة الثانية، كما تصاعدت التوترات بشكل خاص نتيجة الاشتباكات العسكرية المتفرقة على طول الحدود السودانية – الإثيوبية.
وتابع عكاشة قائلاً إن “مسألة المياه بالنسبة إلى مصر والسودان هي قضية أمن قومي، وتبقى كل الخيارات مفتوحة أمام الدولتَين للتعاطي مع حجم الضرر الذي قد يسببه سد النهضة ومدى تهديد أمنهما القومي”.
من جانبه، قال نزار الأنصاري، الكاتب والإعلامي السوداني، إن “أزمة سد النهضة مرشحة لأن تأخذ مسارات تصعيدية ومتعددة الأطوار”، مضيفاً أنه “ما لم تتغير آلية التفاوض فلا يمكن الوصول إلى اتفاق على المدى القريب، إذ كانت جولات التفاوض السابقة تشبه حوار الطرشان بين البلدان الثلاثة، يكرر فيه كل طرف مواقفه من دون ملل. ففي الوقت الذي ترى فيه إثيوبيا حقاً مشروعاً ومفخرة قومية لإنجاز إحدى قلاعها الاقتصادية، ترى مصر والسودان في السد تهديداً لوجودهما وأمنهما القومي”.
وتابع الأنصاري “حتى الآن، لم تنجح جهود ممارسة الضغط الدولي على إثيوبيا من أجل انتهاج سياسة أكثر مرونة في التعامل مع الأزمة، الأمر الذي يدفع بدوره نحو احتمالات اللجوء إلى الخيارات العسكرية مع استمرار الجمود في المواقف، وهو ما يشير إلى عواقب وخيمة على الاستقرار الأمني في المنطقة وأفريقيا كلها”. وأوضح “ربما يكون الصراع على المياه بسبب سد النهضة هو أكبر خطر يهدد باندلاع حرب على الماء، من بين كل الخلافات المائية الموجودة حول العالم في الوقت الراهن”.
إلى ذلك، رأى محمد نصر علام، وزير الري المصري الأسبق، أن “الإشكالية الكبرى في ما يتعلق بقصة التوتر بين القاهرة وأديس أبابا أنها تتجاوز الخلاف حول سد النهضة، بل تعود الخلافات إلى عصور سابقة، الهدف النهائي منها هو التحكم والسيطرة على المياه”، مستدلاً على ذلك بالقول إن “أديس أبابا لم تبدأ في بناء السد إلا مع تدهور الأوضاع الداخلية في مصر في أعقاب ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، وأصرت بعد ذلك على التشدد في التعاطي مع الملف”. وزاد “يمكن تلخيص الموضوع بأن مصر والسودان لن تستطيعا الحفاظ على حقهما إلا بالقوة”.
ولفت علام إلى أنه “في ضوء التطورات الأخيرة، قد تستخدم القاهرة والخرطوم كل البدائل للضغط من أجل حل الأزمة، ما يعني أن المشهد ليس ببعيد عن اللجوء إلى عمل عسكري”.
محطات في عمر الأزمة
على مدى السنوات العشر الماضية، وبعد بدء عملية البناء الفعلي لسد النهضة في أبريل 2011، مرت أزمة سد النهضة بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا بمحطات مفصلية، شهدت في بعض جوانبها محاولات للتعاون والتوافق، لكن الخلاف والصدام كان السمة الأبرز بين الدول الثلاث.
وعلى الرغم من أنه بعد نحو خمسة أشهر من بداية البناء الفعلي اتفقت السلطات المصرية والإثيوبية في سبتمبر 2011، على تشكيل لجنة دولية، تدرس آثار بناء السد، فإنه سرعان ما بدت هوة الخلافات تتسع بين البلدين، مع السنوات التالية، وذلك قبل الوصول إلى محطة توقيع “إعلان المبادئ لسد النهضة” في مارس (آذار) 2015، الذي تضمن عشرة مبادئ أساسية، تتسق مع القواعد العامة في مبادئ القانون الدولي الحاكمة للتعامل مع الأنهار الدولية.
وفي سبتمبر 2014، كانت اللجنة الثلاثية التي تضم كلاً من مصر وإثيوبيا والسودان، عقدت الاجتماع الأول، لبحث صياغة الشروط المرجعية للجنة الفنية وقواعدها الإجرائية، والاتفاق على دورية عقد الاجتماعات، وذلك قبل شهر من اتفاق البلدان الثلاثة في أكتوبر 2014، على اختيار مكتبين استشاريين، أحدهما هولندي والثاني فرنسي لعمل الدراسات المطلوبة بشأن السد.
وكان لافتاً أنه وبعد أقل من خمسة أشهر كذلك من توقيع “إعلان المبادئ”، انسحاب المكتبين الاستشاريين في سبتمبر (2015)، بعدما كان موكل تابع لهما وضع دراسات تقييم لآثار السد في دولتي المصب، وذلك لـ”عدم وجود ضمانات لإجراء الدراسات بحيادية”، وبعدها بنحو ثلاثة أشهر، وقع وزراء خارجية مصر والسودان وإثيوبيا على وثيقة الخرطوم، التي تضمنت تأكيد اتفاق إعلان المبادئ الموقع من قيادات الدول الثلاث، وتضمن ذلك تكليف مكتبَين فرنسيين بتنفيذ الدراسات الفنية الخاصة بالمشروع.
وبعد نحو عام من إعلان إثيوبيا في مايو (أيار) 2016 أنها على وشك إكمال 70 في المئة من بناء السد، كان خلاف محتدم بين الدول الثلاث قد نشب في مايو 2017، حول التقرير المبدئي بشأن سد النهضة، لتتصاعد بعدها حدة المواقف والاتهامات المتبادلة.
ففي ديسمبر (كانون الأول) 2017، اقترحت القاهرة على أديس أبابا، مشاركة البنك الدولي في أعمال اللجنة الثلاثية، التي تبحث في تأثير إنشاء السد الإثيوبي في مصر والسودان، لكن في يناير 2018، أعلن رئيس وزراء إثيوبيا آنذاك، هايلي مريم ديسالين، رفض بلاده دعوة من مصر لتحكيم البنك الدولي في النزاع. وبعدها بنحو ثلاثة أشهر وتحديداً في أبريل 2018، لم ينجح الاجتماع التُّساعي الأول لوزراء الخارجية والمياه ورؤساء أجهزة المخابرات، في مصر والسودان وإثيوبيا، في الوصول إلى اتفاق في تلك الجولة من المفاوضات.
ومع استمرار تعثر جولات التفاوض، طوال عام 2018، التقي قادة الدول الثلاث في فبراير (شباط) 2019، على هامش القمة الأفريقية، في أديس أبابا، وتوافقوا شفهياً على عدم الإضرار بمصالح شعوبهم، كأساس تنطلق منه المفاوضات، وكذلك التوافق حول كل المسائل الفنية العالقة، لكن سرعان مع أعلنت وزارة الري المصرية في سبتمبر من العام ذاته، تعثر مفاوضات وزراء الري في الدول الثلاث بالقاهرة، والفشل في الوصول إلى اتفاق لـ”عدم تطرق الاجتماع إلى الجوانب الفنية”، لنشهد بعد ذلك تصعيداً في لهجة التصريحات الرسمية لا سيما من الجانب المصري، إذ أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي في 5 أكتوبر 2019، أن “الدولة المصرية بكل مؤسساتها ملتزمة، بحماية الحقوق المائية المصرية في مياه النيل، ومستمرة في اتخاذ ما يلزم من إجراءات على الصعيد السياسي، وفي إطار محددات القانون الدولي لحماية هذه الحقوق”، وذلك قبل أيام من إعراب الخارجية المصرية عن صدمتها، إزاء تصريحات إعلامية منسوبة إلى رئيس الوزراء آبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي، بأنه “يستطيع حشد الملايين على الحدود، في حالة حدوث حرب… ولا توجد قوة تستطيع منع بلاده من بناء سد النهضة”.
وقبل نهاية العام 2019، كان لافتاً إعلان واشنطن في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) دخولها على خط الأزمة واستضافتها الأطراف الثلاثة، بمشاركة وزير الخزانة الأميركي، ورئيس البنك الدولي للمرة الأولى، حيث صدر في أعقاب الاجتماع بيان مشترك جاء فيه أنه “تقرر عقد أربعة اجتماعات عاجلة للدول الثلاث، على مستوى وزراء الموارد المائية وبمشاركة ممثلي الولايات المتحدة والبنك الدولي، تنتهي بالتوصل إلى اتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة خلال شهرين بحلول منتصف يناير 2020”. وهو الأمر الذي تم في الشهر ذاته، بحضور ممثلين عن وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي في أديس أبابا، واتفاق الأطراف على “استمرار المفاوضات والمناقشات الفنية حول آليات تشغيل وملء السد، خلال الاجتماع الثاني للجان الفنية”.
وبعد أربعة اجتماعات شهدتها واشنطن والقاهرة والخرطوم وأديس أبابا لمناقشة كل التفاصيل الخلافية، استضافت العاصمة الأميركية في يناير 2020، وفود الدول الثلاث، لتقييم نتائج الاجتماعات السابقة، وخرجت المفاوضات بتوافق مبدئي على إعداد خارطة طريق، تتضمن ستة بنود، أهمها تنظيم ملء السد خلال فترات الجفاف والجفاف الممتد، إلا أنه وفي وقت لاحق مع الوصول إلى اتفاق مبدئي بشأن النقاط الخلافية، وقعته القاهرة بالأحرف الأولى، بينما رفض الوفد الإثيوبي ذلك، واتهمت أديس أبابا واشنطن بالتحيز للموقف المصري، كما اتهمت القاهرة بمحاولة السيطرة على النيل، ما قاد في النهاية إلى “فشل” الجهود الأميركية.
وشهد مسار التوتر بُعداً آخر في يونيو (حزيران) 2020، إذ طلبت القاهرة رسمياً تدخل مجلس الأمن، وذلك قبل أيام من إعلان الاتحاد الأفريقي رعايته المفاوضات بين البلدان الثلاثة، الأمر الذي أيده مجلس الأمن في جلسته في 28 يونيو، وأعرب عن دعمه جهود الاتحاد الأفريقي لتسوية النزاع.
لكن كسابقاتها، وبعد إعلان أديس أبابا نجاح عملية الملء الأول للسد في يوليو 2020، وعلى الرغم من الاعتراضات المصرية والسودانية، فشلت جولة مفاوضات جديدة في نوفمبر من العام ذاته، وبدأت الأمور تأخذ طابعاً تصعيدياً بين الدول المعنية الثلاث.
وفي أبريل 2021، فشلت آخر جولة تفاوضية بين مصر والسودان وإثيوبيا برعاية الاتحاد الأفريقي، التي استضافتها العاصمة الكونغولية كينشاسا، ووصلت الخلافات إلى طريق مسدود، تحركت بعده القاهرة والسودان مجدداً باتجاه مجلس الأمن الذي دعا بدوره في سبتمبر الماضي، الدول الثلاث إلى استئناف المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي، مع دعم انخراط أي مراقبين تدعوهم العواصم الثلاث لدعم مفاوضات سد النهضة وتسهيل حل المسائل الفنية والقانونية، ودفع عملية التفاوض “بروح بناءة وتعاونية”.
في الأثناء وفي أعقاب فشل جولة مفاوضات كينشاسا، كانت لافتةً التحركات العسكرية المصرية باتجاه دول حوض النيل، إذ أتمت تدريبات عسكرية مشتركة مع الخرطوم سميت بـ”نسور النيل1/2 وحماة النيل”، فضلاً عن تعزيز العلاقات الثنائية في المجالات الاقتصادية والأمنية والعسكرية مع أربع دول أفريقية أخرى هي جيبوتي وأوغندا وبوروندي وكينيا.
المصدر: اندبندنت عربية