يرى خبراء مصريون إنه كان يستحيل على أثيوبيا الشروع في بناء ((سد النهضة)) قبل وصولها الى اتفاقات مع القاهرة، لولا ثلاثة ظروف يندر توافرها في وقت واحد:
أولاً- حالة الانشغال والاضطراب التي رافقت ثورة 2011 واستمرت حتى 2014، إذ بدأت أثيوبيا بتنفيذ المشروع عام 2012 من دون تفاهم مسبق مع مصر، مدركة لحالة ضعفها.
ثانياً- في المقابل حققت أثيوبيا طفرة اقتصادية كبرى واستقراراً سياسياً مكنها من الشروع في مشروعها وهي على قدر كبير من القوة والثقة عبر عنها رئيس حكومتها آبي أحمد ((لا يمكن لأي قوة أن تمنعنا من تحقيق مشروعنا)).
ثالثاً- الفرقة العميقة بين مصر والسودان طوال ثلاثة عقود، وتقارب نظام الخرطوم السابق مع الجار الجنوبي على حساب الشقيق الشمالي، بل وتعمده أن يتبع سياسة مناكفة له، بلغت درجة التآمر على أمنه لأسباب معروفة.
ويقول الخبراء المصريون إنه عندما استعادت مصر استقرارها وتوازنها الداخلي والخارجي كانت أثيوبيا قد شرعت في بناء سد النهضة وأصبح أمراً واقعاً، ولم يعد بإمكانها سوى التفاوض مع أثيوبيا من موقع ضعف، لتخفيف خسائرها، وأولها تهديد أمنها المائي والغذائي والاقتصادي والصحي والاستراتيجي، بشكل يجعله خطراً يفوق التهديد الذي مثلته اسرائيل في الماضي، ولذلك لا ينفي المصريون وجود نوايا وأبعاد سياسية للمشروع، وشبهة أن تكون اسرائيل وبعض الدول الغربية ضالعة فيه.
توصلت الدولتان عام 2015 الى ((اتفاق مبادئ)) مع أديس أبابا. ولكن هذه لم تلتزم به، فتعمق التوتر بين الدول الثلاث وارتفعت حدته، وراحت القيادة المصرية تحذر من تحول الخلاف الى صراع عسكري، لأنه يهدد حقوق مصر ويهدد أمنها، وذكرت مصادر مصرية أن المؤسسة العسكرية بدأت تستعد جدياً للحرب، وصرح وزير الخارجية أن المفاوضات وصلت طريقاً مسدوداً، بسبب تعنت اثيوبيا، ما دفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتوسط، فنظم قمة لرؤساء الدول الثلاث في واشنطن مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أسفرت عن اتفاق على تحديد ثلاثة شهور للتوصل إلى اتفاق نهائي. وعادت الدول الثلاث الى واشنطن الأسبوع الفائت على مستوى وزراء الخارجية، لإجراء مفاوضات وصفها وزير خارجية مصر بالشاقة والصعبة.
والملاحظ أن التغيير الذي شهده النظام السوداني أحدث تعديلاً لميزان القوى لصالح الشقيقين، لأن السودان متضررة أيضاً من المشروع الاثيوبي وتتقاسم مع مصر المصلحة في بناء محور بمواجهة مخططات الجار الجنوبي الذي يتبع استراتيجية فرض الأمر الواقع على طاولة المفاوضات، مطمئنة الى عدم وجود حدود مباشرة لا برية ولا بحرية بين مصر وأثيوبيا قد تعرضها للذراع العسكرية المصرية القوية.
خلافات الطرفين
من المعروف جيداً لكل العالم أن حالة مصر تكاد تكون فريدة في علاقتها بالنيل منذ الأزل، تختزلها عبارة هيرودوت ((مصر هبة النيل)). فوجودها ومصيرها مرهونان ومحكومان بحاجتها لمياه النهر حصراً، واعتمادها عليه في كل مناحي حياتها وبقائها وأمنها ومستقبلها، ولا بديل لها عنه. وتتضاعف الأزمة لكون مصر لا تتحكم بمنابع النيل وفروعه، لذلك فهو شريان الدم الوحيد الذي يؤمن حياتها، وأي مساس به وبحصتها منه يعرضها لكوارث كبرى. وتزداد درجة الخطر بسبب حاجتها للمياه التي تزداد باستمرار جراء ازدياد عدد سكانها. وعلى سبيل المثال فحين وقعت مصر وأثيوبيا آخر اتفاقية بينهما عام 1959 حصلت على 55 مليار متر مكعب، وهي كمية كانت كافية لسكانها البالغ عددهم 30 مليوناً. أما الآن فعددهم ناهز المائة مليون، وتحتاج لزيادة حصتها، بينما يؤدي مشروع اثيوبيا لإنقاص حصتها، وتكبر الأزمة ودرجة التهديد أضعافاً مضاعفة إذا علمنا أن اثيوبيا تخطط لبناء سدود أخرى، وقد تواجه مصر أخطاراً وكوارث يصعب التنبؤ بحجم آثارها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
إلى ذلك يعتقد بعض المفكرين أن مشاريع أثيوبيا ليست اقتصادية فقط، بل سياسية واستراتيجية أيضاً تستهدف محاصرة مصر وإضعافها. ومع ذلك فالمفاوضات الدائرة بوساطة الرئيس الأميركي تتركز الآن على الجوانب الفنية، لا السياسية والاستراتيجية المتوارية في خلفية المشهد، وعلى الأخص الجانبان التاليان:
الأول: كم هي كمية المياه التي ستستقطعها أثيوبيا سنوياً لملء بحيرة سد النهضة والتي ستبلغ بالإجمال 74 مليار متر مكعب؟
والثاني: يتعلق بحالة ((الفيضان السنوي للنيل)). هل هو فيضان متوسط، أم عالٍ أم منخفض، وهل هناك جفاف أم لا؟
الخطة الإثيوبية تستهدف ملء خزان البحيرة بالكامل في غضون خمسة أعوام، ستقتطع بمعدل يتراوح بين 10 – 15 مليار متر مكعب سنوياً من حصة مصر والسودان. ويرى الفنيون المصريون أن هذه الكمية تهدد بآثار سلبية مدمرة على الزراعة والصحة والطاقة والسد العالي. ولذلك يصرون أن تملأ اثيوبيا بحيرتها في عشر سنوات، تقليلاً للاستقطاع من حصتها، وهو ما رفضته إثيوبيا في جولات المفاوضات السابقة.
ويقول الفنيون المصريون إن تشغيل سد النهضة بكامل طاقته سيؤدي لتعطيل عمل السد العالي والسدود السودانية بشكل خطير، ولذلك تسعى مصر إلى تأمين تدفق مياه على ارتفاع لا يقل عن 165 متراً، وهو ما ترفض إثيوبيا الالتزام به.
الاتفاق النهائي
جولة الأسبوع الماضي التي امتدت بين 27 – 31 كانون الثاني/ يناير في واشنطن برعاية الأميركيين على مستوى وزراء الخارجية توصلت لتفاهمات ايجابية برأي الدول الثلاث، وجعلت الرئيس ترامب يبدي تفاؤله القوي. وصدر بيان أشار إلى توصل الأطراف الثلاثة لاتفاق على ملء بحيرة النهضة على مراحل، والآلية التي تتضمن الإجراءات، بالتعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد، وسنوات الشح، والآلية التي تتضمن الإجراءات الخاصة أثناء التشغيل. واتفق الوزراء على ضرورة انهاء المفاوضات والوصول إلى اتفاق على آلية تشغيل سد النهضة، وآليات التنسيق لمراقبة تنفيذ الاتفاق، وتبادل البيانات والمعلومات، وآلية فض المنازعات، فضلاً عن تناول موضوعات أمان السد، وإتمام الدراسات الخاصة بالآثار البيئية والاجتماعية لسد النهضة.
وقام الوزراء بتكليف اللجان الفنية والقانونية بمواصلة الاجتماعات في واشنطن بإشراف البنك الدولي لوضع الصياغات النهائية للاتفاق، على أن يجتمع وزراء الخارجية والموارد المائية في واشنطن يومي 12 و13 شباط/ فبراير الجاري، من أجل إقرار الصيغة النهائية للاتفاق تمهيداً لتوقيعه بنهاية شباط/ فبراير.
وعكس بيان للخارجية المصرية نوعاً من التفاؤل بالاتفاق الذي ((جاء بعد جولات من المفاوضات المضنية والشاقة))، ولكن الخبراء ما زالوا متشككين بنوايا اثيوبيا التي أظهرت تعنتاً طوال المفاوضات وما كان لها أن تتراجع لولا ضغوط الرئيس ترامب شخصياً على رئيس الحكومة الاثيوبية آبي أحمد. خلال أيام يتبين الخيط الأبيض من الأسود، ومصر ما زالت تستعد لكل الاحتمالات.. بما فيها الحرب!
المصدر: مجلة الشراع