لم ينشأ نزاع المياه الحاد من فراغ تاريخ ولا هبط بحمولاته المزعجة فجأة على وادى النيل، ولا كان حكراً على المصريين والسودانيين والإثيوبيين وحدهم؛ حيث تتداخل فى تعقيداته دوما مصالح واستراتيجيات، وأحيانا مؤامرات.
«لو امتلك الإثيوبيون ثروة تمكنهم من تنفيذ أفكارهم بشأن النيل، فليكن الله فى عون مصر».
كان ذلك استنتاجا بريطانيا تضمنته وثيقة سرية حصلت عليها الـ «بى. بى. سى» من أرشيف وزارة الخارجية وفق قانون المعلومات.
لم تكن تعوز الاستنتاج، الذى يعود إلى عام (1961)، الدراسات التفصيلية للأوضاع المائية فى دول وادى النيل، ولا غابت عنه أجواء التحريض مثل «إن المصريين لا يقدرون الإثيوبيين» و«يستخفون بقدرتهم على إلحاق أى ضرر بهم على النيل الأزرق!».
بالمفارقة فإن ذلك العام هو عام التحرر الوطنى واستقلال أغلب دول القارة بزعامة الرئيس المصرى «جمال عبدالناصر»، لا التنكر والاستخفاف.
نسبت الوثيقة للسفارة البريطانية بالقاهرة إدارة مفاوضات «فنية غير رسمية» بين مصر والسودان ودول شرق أفريقيا بغية التوصل إلى صيغة مشتركة للتعامل مع مياه النيل، خاصة النيل الأزرق، كما التعرف على آراء المصريين فى مشكلة نهر النيل مع إثيوبيا!، و«هو ما لم يحدث إطلاقا» بتأكيد مستشار «جمال عبدالناصر» للشئون الأفريقية «محمد فائق»!
لم تكن هناك مشكلة ضاغطة تستدعى التقصى بالسؤال، لكنها دواعى البحث عن ثغرات يمكن استخدامها ضد مصر عند شريان وجودها لتصفية الحسابات بعد خمس سنوات من هزيمة السويس.
قالت الوثيقة إن «السلوك المصرى تجاه إثيوبيا غامض نوعا ما وسياساتها غير واضحة وغير مفهومة».
كان ذلك استنادا، حسب نصها المنشور، إلى اجتماع جمع «محمد فائق» مستشار الرئيس «عبدالناصر» مع أحد دبلوماسى السفارة، لم تذكر اسمه ولا منصبه، نوقش فيه موضوع على درجة عالية من الخطورة: «مدى قدرة إثيوبيا على حجز المياه عن مصر».
«لم أكن وزيرا فى ذلك الوقت، ولا كان من طبيعة دورى إجراء حوارات فنية من مثل هذا النوع».
على الأغلب فإن دبلوماسيا بريطانيا صغيرا سأل «فائق» على نحو عابر فى إحدى حفلات الكوكتيل الدبلوماسية المعتادة، وكانت الإجابة عابرة وفق ما كان يعتقده خبراء الرى فى ذلك الوقت، لا جرى نقاش ولا كان هناك اجتماع!
فى وثيقة سرية بريطانية أخرى مطلع تسعينيات القرن الماضى إشارات لافتة إلى احتمال أن يستخدم سلاح المياه الاستراتيجى ضد مصر، وأن المصريين لن يقبلوا بأية حال أن تكون بلادهم رهينة، غير أنه لا يمكن ثنى إثيوبيا عن تنفيذ مشروعات قد تضر بالمصالح المصرية خاصة فى سنوات الجفاف.
المعنى بالضبط فى السيناريو البريطانى أن الإثيوبيين لن يتراجعوا والمصريين لن يقبلوا.
إنها الحرب المؤجلة إذن.
من حق الإثيوبيين التنمية والكهرباء دون أن ينزعوا عن دولتى المصب الحق فى الوجود والبقاء.
الفارق بين عامى (1961) و(1990) هو الفارق بين تصدر القارة بالقيادة والانعزال عن قضاياها بالتنكر.
فى أوقات الصعود نشأت صراعات بين السياستين المصرية والإثيوبية على خلفية ما يحدث فى الصومال ومواضع أخرى من القارة بين عامى (1953) و(1956).
جرى تطويق تداعياتها بعلاقات خاصة بين الرئيس «عبدالناصر» والإمبراطورى الإثيوبى «هيلا سيلاسى».
حسب «فائق»: «كنت أزور أديس أبابا كل أسبوعين تقريبا للحوار والتفاهم مع هيلا سيلاسى خشية أن تستخدم تباينات المواقف فى اصطناع صراعات تضر بالمصالح العليا للبلدين».
وصلت العلاقات المصرية الإثيوبية ذروتها عام (1963) حين تأسست «منظمة الوحدة الأفريقية»، وبدأ سؤال مقرها يتردد فى أوساط القادة الأفارقة المؤسسين، الذين نالوا استقلال بلادهم بالفعل.
سأل الإمبراطور الإثيوبى الزعيم المصرى، إذا كان ممكنا أن تكون «أديس أبابا» مقرا للمنظمة الوليدة، التى أصبح اسمها فيما بعد «الاتحاد الإفريقى».
لم يتردد «عبدالناصر» بثقله الاستثنائى فى حركة التحرير الوطنى الأفريقية فى حسم ذلك الاختيار بالنظر للمصالح المصرية العليا عند منابع النيل.
حسب الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، الذى لم تسمح انشغالاته بطوارئ الحوادث أن يروى ويكتب بنفسه خفايا ما جرى، أن «عبدالناصر» تعرض لعتاب مرير من صديقه الزعيم الغانى «كوامى نكروما»، صاحب الدور الأكبر فى بلورة مشروع الوحدة الأفريقية: «لماذا أديس أبابا وليست أكرا؟».
بعد عناء تقبل «نكروما» القرار وتفهم أسبابه، فهواه «مصرى»، وزوجته «مصرية»، ويرى فى «عبدالناصر» زعيما تاريخيا للقارة.
سألت الأستاذ «هيكل» والحوار بيننا متصل بلا حواجز: «لكن الأستاذ فائق لم يشر إلى تلك القصة فيما كتب وروى».
أجاب: «ربما لم يصل إلى علمه ما جرى من عتاب بين عبدالناصر ونكروما».
جوهر القصة أكده «فائق» بتفاصيل إضافية: «هذا صحيح، فقد كان نكروما أكثر من تحدث عن الوحدة الأفريقية، ومازال صوته يرن فى أذنى.. هنا والآن».
«لم يكن وحده، عدد كبير من القادة الأفارقة اعترضوا على اختيار أديس أبابا، وقد كلفنى عبدالناصر بالذهاب إلى الزعيم الغينى سيكوتورى لإقناعه بذلك الاختيار».
بقوة الحقائق التاريخية، التى لا سبيل للتشكيك فيها، كان اختيار «أديس أبابا» مقرا للمنظمة الأفريقية قرارا مصريا صرفا.
فى أوقات الانعزال تراجعت مكانة مصر فى قارتها وهمشت أدوارها على نحو فادح، ودفعت أثمانا باهظة آخرها الاستخفاف بحقنا فى الحياة نفسها.
من أسوأ ما يجرى الآن الاستثمار الإثيوبى فى مقر الاتحاد الأفريقى، كما لو كان ملكية حصرية، ضد مصر التى حسمت اختيار أديس أبابا مقرا له.
ثم اصطناع تناقض بين الاتحاد الأفريقى وجامعة الدول العربية، رغم أن من أعظم ما ينسب للدور المصرى فى تحرير القارة إلغاء الحواجز بين الحضارة العربية والحضارة الزنجية.
هناك الآن عودة جديدة إلى رعاية الاتحاد الأفريقى لمفاوضات سد النهضة، التى لم تسفر عن أى تقدم ولا حققت أى اختراق، وكان الفشل ذريعا فى التوصل إلى اتفاق قانونى ملزم لأزمة السد الإثيوبى.
باستنتاج خاطئ قد ينظر لتلك العودة كما لو أنها تفويض لإثيوبيا بالمضى فى إجراءاتها الأحادية دون اعتبار لمصالح دولتى المصب.
التحذير المعلن والمبطن، الذى تردد فى جنبات مجلس الأمن من أية إجراءات أحادية، إلا أنه قد يقصد به أساسا اللجوء إلى العمل العسكرى.
إذا لم يكن هناك ردع دولى لإثيوبيا لاحترام حق المصريين والسودانيين فى الحياة فإن قوانين الرياضيات سوف تمارس فعلها، فلكل فعل رد فعل يساويه فى القوة ويضاده فى الاتجاه
المصدر: الشروق