قراءة تجارب الحراك الثوري العربي عبر مدرسة الثورة السودانية

يحيى مصطفى كامل

شاركت ككثيرين للأسف في عدم إيلاء الحدث الثوري المتطور في السودان حقه من التركيز والاهتمام، بالمتابعة والتحليل، والأهم من ذلك التعلم، وإذ أكتب اليوم عنه في اختزالٍ مخلٍ، فلست أنطلق من رغبةٍ في «التطهر» أو «التكفير عن خطيئةٍ» (وفي الإغفال نقيصةٌ ترقى لتلك الاستعارات العقائدية في الحقيقة) لكن لاستدراكٍ واجب وتصحيح مسارٍ يحتمه أي تناولٍ أو ادعاءٍ بالاهتمام الجاد بقضايا التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

ولما كنا نعيش في عالمٍ يسيطر عليه رأس المال، ولما كان يملك القنوات الفضائية ومساحات الإعلام، فإن أصحاب المصلحة في ذلك الانقلاب الرديء في السودان، قد نجحوا إلى حدٍ بعيد في صرف الأنظار عن الرؤية العميقة والحقيقية للواقع السوداني المعقد، شديد الثراء بما يموج به من قوى وتحالفاتٍ وتناقضاتٍ، والأهم من هذا وذاك دروس ثورية مدهشةٌ بقدر ما هي رائدة؛ وإني لأسأل نفسي، لِمَ تولي بلدان شرق المتوسط اهتماماً أكبر من السودان الكبير، المركب جداً، والثري بشرياً وثقافياً إلى أقصى الحدود، وكمصريين فإن روحنا، النيل، يأتينا من هناك مع ما فرضته وصاغته وحدة الوادي من علاقاتٍ ووشائج ضاربةٍ في عمق التاريخ.

في تاريخٍ ليس بالبعيد تماماً، سبعينيات القرن الماضي، قامت بعض الدول الطرفية بدور «المختبر» للوصفة النيوليبرالية، ول،عل مثالاً لا يحضر للذهن بقدر تشيلي التي قفز بينوشيه إلى السلطة فيها عبر انقلابٍ وحشيٍ دمويٍ ذهب ضحيته عشرات الآلاف على رأسهم الرئيس الراحل أليندي، مدشناً حقبةً من الإصلاحات الاقتصادية التي عصفت بكل مشاريع التنمية والدعم، ما أدى إلى الخراب والانهيار الاقتصادي ومن ثم إزاحته في نهاية المطاف. كذلك الحال في السودان، حيث نرى رأس المال ونهم التراكم وتركيز السلطة والثروة، يحكمان لا خريطة التحالفات بتغيراتها وتقلباتها فحسب، وإنما الخريطة الجغرافية في حد ذاتها، نرى سوقاً تعمل وفق «دعه يعمل دعه يمر» الأكثر بدائيةً وفظاظةً، حيث التدافع على مصادر الثروة من محاصيل زراعية إلى نفطٍ إلى ذهب، حتى التجارة في البشر، الذين يرسلون ليحاربوا في اليمن وليبيا، أي أننا نرى تسليع وبيع كل ما من شأنه أن يجد مشتريا. نرى مشاكل الفقر والتفاوت بين المركز والأطراف (خاصةً في بلدٍ ضخمٍ ممتد) في الخدمات والثروة تحكم طبيعة التحالفات التي تعكس وتلخص مسيرة دول ما بعد الاستقلال الوطنية، فنجد النميري الذي يحاكي جيرانه في الشمال، في مصر، من الضباط في محاولةٍ للاستثمار في الجنوب، لا يلبث أن يداعب الإسلاميين، ثم يأتي انقلاب البشير لاحقاً تكريساً لذلك التعاون، الذي يستمد شرعيته من جبة الدين، وكلما تأزمت الأمور، جراء فشل سياسات النظام نجده ينزلق أكثر فأكثر في نوعية من يستعين بهم ونوعية الأزمات التي يصطنعها، ليتخلص من أزماته المركزية، كالتضخم والغلاء وسخط مهمشي الأطراف (وهؤلاء بالملايين) حتى وصلنا إلى حميدتي تاجر الإبل، وقائد الميليشيا ومعارك الإبادة العرقية في دارفور، التي كانت في جزءٍ منها نهباً للأراضي والموارد. النتيجة أن الاستبداد لم يؤد فقط للإفقار، بل وإلى العنف الهمجي والمزيد من التمزق الاجتماعي والوطني المتسارع، الذي وصل إلى انسلاخ الجنوب؛ كما نجد في السودان أيضاً نجد القوى الإقليمية نفسها، بلدان النفط، وعلى رأسها الإمارات بفوائضها المالية وشح مائها ومن ثم مساحات الأرض المزروعة تستثمر هناك، بل تمول الاستيلاء على الأراضي الزراعية، وها هي الآن تدعم الانقلاب والثورة المضادة في الدول التي شهدت حراكاتٍ ثورية. بيد أنه على قدر الهمجية والتوحش للرأسمالية الإقليمية، التي لم يزدها الانفتاح على السوق العالمي إلا توحشاً وسعاراً، يأتي قدر الدروس الثورية من حيث تسارعها وشموليتها وعمقها.

بدايةً كانت هناك المعطيات، الوضع الثوري من احتدام الأزمات والتناقضات لنظامٍ شائخٍ مترهلٍ، أسهم في السلب والتدمير والتطهير العرقي، هو نظام البشير الذي قامت عليه ثورةٌ شعبيةٌ عظيمة، لتتصدى لها القوى السياسية التقليدية والقوى والتجمعات الإصلاحية، التي دفعتها الأحداث إلى الصدارة، لنصل بعد إزاحة البشير وبعض رجالاته إلى تعايشٍ قلق، سخيفٍ ماسخٍ وسمج بين بعض الإصلاحيين وممثلي أجهزة الأمن، الذين يمثلون فعلياً الامتداد الحقيقي لدولة البشير ونظامه، وليس هناك ما هو أبلغ من البرهان، الذي يمثل المؤسسة العسكرية الرسمية التقليدية وحميدتي الذي لا أراه إلا تجسيداً أو مجسماً، فرانكشتاين، لاحتدام التناقضات والانزلاق اللولبي نحو القاع، في عينة قاطعي الطريق والسماسرة الذين لجأ إليهم البشير للقفز والهروب من الأزمات والتناقضات؛ وإذا بنا عقب أزمةٍ في السلع نعيش انقلاباً في إعادة إنتاجٍ كلاسيكيٍ تماماً لانقلابات الثورة المضادة.

الملاحظ بشدة في الموجة الأولى والثانية للثورة السودانية، تلك المقدرة المدهشة للحشد والتعبئة والبسالة منقطعة النظير والفدائية اللامتناهية لجماهير وقوى وتجمعاتٍ مهنية، وطبقة عاملة بالأخص تسبق في وعيها وحسها الغريزي النابع من أحشائها بما يُرتب ويُدبر من مؤامراتٍ للانقضاض عليها وسلبها من ثورتها ومبادرتها تلك، تسبق النخب الأوسع التي حاولت، إما ركوب حركتها أو لجمها (إن لم يكونا الاثنين معا) وثنيها عن الوصول إلى تغييرٍ ثوريٍ حقيقي لا يكتفي بإزاحة بعض رجالات البشير، لكن دولته ونظامه بكل التحالف الطبقي الذي يقف وراءها، وتعبر عنه وعن مصالحه المحلية والإقليمية والعالمية. لقد رأينا في السودان (كما في سائر الدول العربية) طاقةً نضاليةً ثورية، وعملاً ثورياً يستخدم سلاح الثورة الأمضى، الحشد والإضراب، إلا أننا لم نر ثورة، أي أن الحراك الثوري جداً لم يُكلل أو يصل لاستبدال الدولة والنظام بأخرى تعبر عن الطبقات الثائرة ومصالحها، على الأقل حتى الآن. تلك في رأيي المشكلة الجوهرية، علة العلل، لما لحق بالحراكات الثورية العربية والحالة السودانية ربما هي النموذج الأنصع: حراكٌ ثوري دافق بل ووعيٌ ثوري يتعمق بقدر ما يتسع لم يجد تنظيماً ثورياً بحق يلتحم به ناصحاً مرشداً وقائداً أحياناً ليوفر خلاصة معرفته المستقاة من دراسة النظرية الثورية وتجارب التاريخ الثورية بدروسها، التي قد تكون مؤلمة لثوراتٍ غُدرت (الثورة الألمانية مثالاً) ولئن بحثنا ومحصنا لنجدن في العمق أيضاً وراء ذلك، أنه طيلة الوقت، ولعقود عديدة، لعبت الدولة والطبقة الحاكمة دوراً منحطاً في حقيقة الأمر لعرقلة تطور أي عملٍ ثوري أو حراك إلى ثورةٍ حقيقية لاعبةً بورقة المماهاة بين «النظام» وبعض الأشخاص، في مقدمتهم رأس النظام، مرسخةً الوعي الزائف عن طبيعة التداخل بين النظام والطبقة، وهي للأسف منطقة ملتبسة لدى بعض المثقفين، ومن ثم يجري التلاعب بها، عن جهلٍ أو تجهيل (كما هي الحال مع بعض التنظيمات اليسارية) لوأد الثورات أو ابتسارها عن طريق تصوير إزاحة رأس النظام، على كونه نجاحاً وإنجازاً للثورة.

قبول الحمدوك بالعودة تحت ضغطٍ دولي هو الخطوة المتوقعة والمنطقية والمتسقة تماماً لما يمثله، فتلك حدود الإصلاحية، لكن يتبقى لنا أن نؤكد أنه إذا كنا الآن نرى تدافعاً رأسمالياً متوحشاً في السودان، وسائر العالم، وثوراتٍ مضادة، فإن ذلك لم يعد الاعتبار للتاريخ فحسب، بل إلى درسٍ عظيم الأهمية من تراث الثورة الروسية، نرى الطبقة العاملة السودانية تبرهن عليه الآن: إنها وحدها في الدول التي تشكل الحلقات الأضعف من سلسة الرأسمالية، وفي ظل تشرذم ما تبقى من الطبقة الوسطى الضعيفة من الأصل، والمسكونة بأوهامٍ إصلاحية أثبتت اليأس من علاجها، هي القادرة على إنجاز «الثورتين» أو المهمتين: الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. كما أثبتت الأحداث أن الذين (شعوباً أو أفراداً) تنطلي عليهم حيلة أو أطروحة التضحية بالحرية من أجل الخبز ينتهي بهم المطاف دون الاثنين.

إن الحراك الثوري في السودان هو المدرسة أو الأكاديمية بالمعنى اليوناني الكلاسيكي، الذي ينبغي علينا الآن التركيز معه وملاحقته والتعلم منه، متخلصين من أي أوهامٍ في الإصلاح، أو أي رواسب من تعالٍ أو إهمالٍ، لا ولم يوجد لهما أي مبررات في أي وقتٍ من الأوقات.

كاتب مصري

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى