في صُوَر المعارض المصري حمدين صباحي في دمشق، مترئساً وفد المؤتمر القومي العربي، ختمٌ رمزيّ على هزيمتين، سحق الثورات العربية أولاً، وارتكاس نخبها المعارضة إلى ما قبل تلك الثورات تالياً. وعلى الرغم من التمادي في إنكار أو تجاهل جملة الهزائم وأوزانها، فإن الابتسامة التي علت وجه صباحي وهو يصافح الأسد في انتشاء، كانت الأصدق رمزياً في جلاء الهزيمة على أيدي أنظمة باطشة، وخيبة الرهانات على المعارضات لإنتاج بدائل ديموقراطية للسلطوية الحاكمة.
قدّمت دمشق لصباحي استقبالاً رئاسياً، صاحَبه الأسد شخصياً. الأسد ذاته الذي وصفه صباحي بالطاغية في العام 2012. النظام السوري المعاد تأهيله بقرار من الجامعة العربية، يجد في زيارة المعارض المصري، والمرشح الرئاسي السابق أمام السيسي، أكثر من الاعتراف الرسمي. فالنظام المصري الحالي، لطالما كان ميالاً نحو إعادة التطبيع مع دمشق، وأعرب عن ذلك علانية مرات عديدة، لولا معارضة خليجية تراجعت أخيراً.
يربح الأسد اعترافاً مزدوجاً، فالتطبيع معه لا يأتي من الحكومات والأنظمة العربية وحدها، بل من المعارضة أيضاً، ومن النخب التي حسبت على ثورات الربيع العربي. كان اتحاد الشغل التونسي قد منح صكاً مبكراً للأسد، إلا أن عودة صباحي فيها نوع من الاستتابة. فبعد حديثه في الماضي عن الثورة السورية التي “تسجل بدماء أطفالها آخر سطر في نظام يتمسك بالحكم على جثث شعبه”، وعن “رائحة دم الأطفال التي لن تزول”، يعود ليتضامن مع النظام السوري نفسه في ظل “الأجواء العربية الإيجابية” ضد الحصار والاحتلال.
وإذا كان ما ربحه النظام السوري رمزياً من تلك الزيارة، مفهوماً، فما الذي قد يعود على صباحي منها؟ التفسير الأكثر تعاطفاً معه، يرى في الزيارة خطأ في حسابات براغماتية حسنة النية. فبقاء النظام السوري بات أمراً واقعاً، ومع الاعتراف الرسمي العربي بهذا الواقع، لا مناص من التعامل معه. يحمل صباحي دعوة للإفراج عن المعارضين ممن لم يحملوا السلاح، في تماهٍ مع الخطاب النظامي السوري، بافتراض أن المشكلة مَربطها عنف المعارضة وحملها للسلاح. أما الوقوف مع سوريا ضد الاحتلال والحصار، كما يقول صباحي، فبقدر ما يتغاضى عن أن بعض تلك الاحتلالات، هي قائمة بدعوة من النظام السوري نفسه ولحمايته، فإنه يلمح بأن الخاسر الحقيقي من أي حصار ليس النظام، بل السوريين في معظمهم، وهذا صحيح على الأرجح.
أما التفسير الميّال إلى إدانة صباحي، فلا يرى دافعاً وراء زيارته سوى إيعاز من السلطة في مصر، وبالطبع لا يتصور أن تتم الزيارة من دون مباركتها أو على الأقل غض النظر عنها. وبحسب ذلك التفسير، لا يكون صباحي سوى ذَيل للنظام المصري، داخلياً في الجولات الانتخابية التي يخسرها حتماً، وخارجياً بوصفه وجه الدبلوماسية الشعبية التي تتوجه بحسب بوصلة السلطة السياسية.
وبين المبالغة في افتراض حسن النية البراغماتية، والمبالغة في افتراض العكس، يبقى تفسير أكثر إشكالية. فالناصرية، التي يمثلها صباحي في بلدها الأم، وهي قد صارت مجرد رافد نوستالجي للسياسة المُعارضة، كانت ستنتهي حتماً إلى مآل مشابه. بحسب هذا المنطق، فإن خليط السلطوية مع الكاريزمية والقناعة بأصولية قومية، لها سردية كبرى مقدمة على الفرد وحقوقه، لن ينتج أفضل من اصطفاف إلى جانب نظام سوري يردد شعارات تنهل من المعين نفسه.
يشير هذا التفسير بحق إلى عوار إيديولوجي، ميّز التيار القومي في مصر بتنويعاته، كونه أصولية من نوع آخر علماني. لكن، تظل مجحفة مساواة الناصرية بالبعثية، أو افتراض أن الناصرية، وبالأخص النسخة المحدثة منها في موقع المعارضة، لا تقود سوى إلى الأسدية أو التضامن معها. الواقع أن صباحي وتياره، مثل بقية القوى السياسية المصرية في خضم الثورة، خاضوا محاولة لإعادة انتاج أنفسهم بغية اللحاق بالواقع المتسارع حولهم، ولعل صباحي كان سابقاً على غيره وعلى الثورة نفسها، منذ انخراطه في “حركة كفاية”.
لكن اليوم، وفي ظل هزيمة شاملة للسياسة في مصر والمنطقة بأكملها، يرتكس صباحي مع آخرين، إلى ما قبل الربيع العربي، وإلى ما قبل قبله، بحثاً عن أدوار هامشية ومشينة. فتلك الهزيمة الفادحة تخرج النسخة الأكثر انحطاطاً من كل شيء.
المصدر: المدن