مرت أربع سنوات على اشتعال الشرارة الأولى في هشيم الواقع العربي المهترىء , ويقظة حلم التغيير والاصلاح , وذلك يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر 2011 حين أضرم النار في جسده شاب فقير يعمل بائعا متجولا , يدعى طارق الطيب محمد البوعزيزي حيث وقف أمام قصر الوالي وأحرق نفسه بطريقة مؤلمة ذودا عن كرامته التي جرحتها شرطية تدعى فادية حمدي بصفعه على وجهه ومصادرة عربتة التي يبيع عليها الخضار والفواكه وأمرته (بالفرنسية) Dégage أي ارحل .. أو (انقلع بالعامية الشامية ) !
شجاعة البوعزيزي أثارت حمية التوانسة فانفجروا بتلقائية تضامنا معه خاصة بعد موته , ولم يدر هو أنه اشعل عود كبريت في مخزن ضخم مليء بمواد سريعة الاشتعال , فانفجر المخزن التونسي , ثم انتقل اللهب الى المخزن الليبي المجاور , ومنه إلى مصر, ثم اليمن , وأخيرا سوريا . ولم تنجو إلا بصعوبة بقية البلدان المجاورة التي تعاني الاهتراء الداخلي الشديد كالجزائر والمغرب والسودان والاردن والعراق .. إلخ .
بقية التطورات معروفة لم يأت عليها التقادم , تعرض الشعب التونسي للقمع من أجهزة الاستخبارات , ولكن الجماهير صمدت وواصلت الاحتجاج فاستعان بن علي بالجيش, ولكن هذا الجهاز الحيوي كان مهملا الى حد أنه يفتقر للسلاح والذخيرة , فانحاز ضباطه الى شعبهم وعملوا على حمايته من قمع الاستخبارات التي يعود الفضل والسبق للجنرال بن علي بتضخيمها منذ عام 1984 بعد نجاحه شخصيا في قمع انتفاضة الخبز ذلك العام , ليلحق النظام التونسي ببقية دول العرب المعتمدة على حكم هذه الأجهزة الشبحية المارقة المحمية بالقانون من القانون والمستثناة من سلطة القضاء بقوة القوانين الاسثنائية , بعد أن كانت تونس البورقيبية مختلفة نسبيا بتجربتها السياسية المحصنة من انقلابات العسكر التي عمت غالبية الدول الأخرى من المغرب الى العراق طوال عقود .
خلال اربعة اسابيع انهارت دولة بن علي البوليسية فهرب ليلا كأي لص وطاغية في التاريخ العالمي وانتقلت تونس بأقل كلفة ممكنة الى عصر جديد , وأظهرت نخب المجتمع المدني فيها نضجا عاليا فتعاونت على إتمام عملية التغيير بحس بالغ بالمسؤولية .
سهولة هذا الإنجاز التاريخي أغرت الشعوب العربية بتكرار المثال , وكان الأقربون أولى بالمعروف فانتفض الليبيون رغم قسوة طاغوتهم من ناحية وندرة تمرسهم في الاحتجاج على حكامهم من ناحية ثانية , وتلاهم المصريون الذين أظهروا أيضا نضجا ووعيا فائقين في حراكهم الثوري الذي أدهش العالم , واضطر حسني مبارك للاستقالة طوعا لأن الجيش التزم الحياد وأعرب عن تعاطفه مع الجماهير, وعندما وصل (الربيع العربي) اليمن تفوق اليمنيون على الجميع بإصرارهم على السلمية في مجتمع مدجج بالسلاح , ودولة تتقاسم سلطتها قبائل تملك كل منها جيشها الخاص ! ونجح اليمنيون في اجبار عبدالله صالح على تسليم السلطة برعاية عربية – دولية .
وعندما وصلت شرارة الثورة الى سوريا في منتصف آذار / مارس 2011 اختلفت جذريا آليات التعامل معها من طرف النظام الحاكم أولا , ومن طرف العالم الخارجي ثانيا , ومع أن مشروعية الثورة في سوريا ومبرراتها أضعاف مثيلاتها في الدول السابقة لم تجد ما تستحقه من التأييد الدولي , قياسا بالاستقبال الحار لثورتي تونس ومصر , أو الدعم القوي للثورة الليبية أو الرعاية الأممية للثورة اليمنية ! وبدل أن يتدخل المجتمع الدولي لدعم السوريين , تدخل بطريقة غير مسبوقة لإخماد الثورة وحماية النظام من السقوط .
أعيد التذكير بهذه التطورات التي لم يمر عليها التقادم وما زالت ماثلة في ذاكرة الجميع , وهدفي تجديد الاعتبار للربيع العربي بعد أن تكاثرت حملات التشكيك والتشويه المنظمة له من أعداء التغيير والاصلاح , واصدار الاحكام الجزافية على انتفاضات شعبية عفوية مشروعة أثمرت على أي حال انجازات كبيرة بالمقاييس التاريخية , ولا تقل عن ثورات شعوب شرق أوروبا في بداية التسعينيات من بولونيا حتى سقوط جدار برلين 1989 , وما تلاها من تداعيات داخل ما يسمى الإتحاد السوفياتي 1991 انتهت بتفككه .
أسئلة كثيرة تفرض نفسها اليوم في ذكرى انطلاق الربيع العربي وانبعاث حلم الانتقال الى عصر الديمقراطية , تعبيرا عن ارادة الحياة في أمة أهينت وقمعت بقسوة بالغة من النظم الداخلية ومن سطوة الدول الكبرى بتواطؤ وتناغم تامين إلى حد أنه لم يبق لأجيالها الشابة التواقة للاندماج بديناميات العالم المعاصر والحداثة والعولمة سوى الاختيار بين عبور المتوسط الى اوروبا لتحقيق الاحلام ,أو العيش في بؤس وخوف في مجتمعات تحكمها طغم وزمر فاسدة وقاسية ومستبدة لا ترحم .
أهم هذه الأسئلة : لماذا خبا بريق الربيع العربي ..؟ ولماذا توقفت مسيرته ولم تتواصل الى ىقية البلدان المهترئة كالجزائر والسودان وموريتانيا مثلا ..؟ ولماذا فشل في سوريا وتحول شتاء باردا يمطر دما ونارا وخرابا ..؟
ستتعدد الإجابات والاستدلالات بتعدد المواقع الاجتماعية والطبقية والسياسية والاديولوجية بل والدينية والمذهبية ولكن الأكثر موضوعية في نظري عاملان اثنان داخلي وخارجي :
الأول : محاولات التيارات الدينية وعلى رأسها حركة الاخوان المسلمين والجماعات السلفية لفرض وهوياتها قسرا علي انتفاضات شعبية تنبع من صميم هموم الطبقات الوسطى , وفئاتها المستنيرة والمتعلمة الطامحة لاستيعاب مزيد من الحداثة , ومحاولات تلك الجماعات ( الاسلامية) مصادرة تطلعات الجماهير وإملاء أجندات وبرامج مختلفة تماما, ذات اتجاهات رجعية ونكوصية لا توائم العصر. وقد قاد اللجوء الى (القسر) في هذه المحاولات الى استعمال أساليب من العنف المادي والمعنوي تطورت حتى بلغت مستوى خطيرا في حالة داعش التي استطاعت اجتياح بلدان كاملة وتجاوز ارهابها ارهاب (القاعدة ) والأنظمة مما حرض الغرب علي الثورات والشعوب نفسها لا على داعش فقط ودفعه لمراجعة مواقفه الايجابية منها ثم التآمرعليها .
الثانية : التردد الغربي عموما في مساندة الشعوب الثائرة ولا سيما السوري , لأسباب كثيرة أقلها موضوعي وأغلبها ( تآمري) يفتقر للعقلانية والأخلاقية , نتيجة حسابات مصالح آنية وضيقة , مما شكل خيانة حقيقية للقيم التي بشر بها الغرب منذ مبادىء الرئيس الامريكي ويلسون 1918 , وميثاق الأمم المتحدة لحقوق الانسان عام 1945 .
الانتفاضات العربية كافة كانت ذات دوافع وغايات عصرية وحداثوية , لا دينية ولا رجعية ولا ارهابية , ولكن سلبية المواقف الغربية منها ولا سيما الحالة السورية , والسكوت على انتهاكات حقوق الانسان التي تجاوزت المقبول , ثم مكافئة النظام بدل محاسبته أعطيا حجية وصدقية لخطاب التيارات الدينية المتطرفة وللتفسير المؤامراتي .
كانت دول الغرب بحكم (مركزيتها ) المتوارثة في النظر الى نموذحها المعاصر تأمل أن ينتج الربيع العربي فورا أحزابا وحكومات أكثر ارتباطا بثقافته ولكنها حين رأت النهضة في تونس واخوان مصر يحصدان النتائج الأولى عكست مواقفها فانعكس الأثر بسرعة على الحالة السورية وعوقب السوريون على (أخطاء) الاخوان المصريين بالدرجة الأولى ! وأظهر الغرب جهلا فاضحا بجذرية الاسلام الوسطي في ثقافتنا وأنماط حياتنا بعد تغييب قسري استمر نصف قرن , كما أظهر قوة الفوبيا المتنامية في عموم بلدانه , وقصورا في التعاطي مع الحركات والتيارات الدينية , وتبادل الطرفان الفعل ورد الفعل حتى تحول الامر الى صدام عنيف على الارض السورية في صورة الحرب على داعش .
الشعب السوري الذي اراد التحول للديمقراطية الحديثة تخلى عنه الغرب وتركه فريسة للنظام ولقوى التطرف معا يتبادلان قتله , ويتحمل الغرب بلا شك قدرا عظيما من المسؤولية المادية والسياسية لا الادبية فقط عما آلت إليه تطورات العراق وسوريا وبقية المنطقة والذي يصح تسميته اغتيالا متعمدا للربيع الذي جسد يقظة أمة وطموحها للنهضة .
وربما يكون القادم أخطر مما رأينا , ولكن في جميع الأحوال لا يمكن إنكار مشروعية (الربيع العربي) واصالة الانتفاضات الشعبية في كل البلدان , وعلى رأسها جميعا سوريا !
**************************************************************
هذا المقال منشور في العدد 253 من مجلة الشراع اللبنانية الاسبوعية الصادر في بيروت بتاريخ 19 / 12 / 2014
قراءة وتحليل دقيق لمسيرة الربيع العربي وخذلان المجتمع الدولة لثورة شعبنا السوري الذي أراد التحول للديمقراطية أسوة بثورات الربيع العربي الأخرى وتخلى الغرب عنه وتركه فريسة للنظام ولقوى التطرف معا يتبادلان قتله يتحمل الغرب بلا شك قدرا عظيما من المسؤولية المادية والسياسية لا الأدبية فقط عما حصل لشعبنا ، رؤية استشرافية دقيقة منذ تسعة أعوام ، الله يرحم المناضل والكاتب العروبي محمد خليفة وأسكنه فسيح جنانه .