ينشر عالم الأنثروبولوجيا عبد المجيد هنوم تحقيقًا تاريخيًا مشوقاً حول أصل كلمة “المغرب الكبير”(Maghreb بالفرنسية) التي قام منظرو الاستعمار الفرنسي بتطويرها بصفة واسعة. ساهم هذا المصطلح -الذي يدرسه الكاتب من خلال الأرشيف وعلى الخصوص محفوظات “المكاتب العربية” التابعة للجيش الاستعماري الفرنسي- في عزل المنطقة عن بقية القارة الأفريقية وكذلك عن الشرق الأوسط.
أنتج عالم الأنثروبولوجيا وأستاذ جامعة كانساس عبد المجيد هنوم، أعمالا أكاديمية مهمة عن تاريخ وأساطير شمال إفريقيا. وقد أوصله عمله بالاعتماد على المصادر العربية والأرشيف الاستعماري إلى تحليل شخصية الملكة البربرية “الكاهنة” بدقة ملحوظة، أو التطرق إلى العلاقة بين الاستعمار والعنف والحداثة. وقد نشرت هذا العام منشورات جامعة كامبريدج كتابه الأخير “اختراع المغرب الكبير. بين إفريقيا والشرق الأوسط”، والذي يطرح سؤالاً أساسيا: هل المغرب الكبير فكرة استعمارية؟
يُظهر هنوم العواقب التي خلّفتها -ولا تزال- السردية الاستعمارية حول نشأة المجموعات الإقليمية في شمال إفريقيا لأن الخطاب الاستعماري حسب رأيه لم يكتف فقط بزعزعة الهويات والتقاليد هناك، بل خلق أخرى من العدم، قد تبدو محلية لكنها لم تكن أبدا كذلك. ويعد مصطلح “المغرب الكبير”، حسب قوله، من أهم هذه الاختراعات:
لنتمعن في تسمية المغرب (Maghreb)، والتي لا نزاع عليها تقريبا، فهي تبدو عربية، بل ومحلية حتى، آتية من صلب التقاليد المحلية، ومع ذلك فهي أيضًا تسمية فرانكوفونية، تم اختراعها عن تقليد عربي مترجم، يخفي رنينه “الأجنبي” اختراعه الاستعماري.
سرديات لبناء أمم
تم عزل المنطقة المغاربية كبناء جغرافي وتاريخي وأنثروبولوجي من قبل منظري الاستعمار الفرنسي عن القارة الأفريقية والشرق الأوسط على السواء. بالطبع، كما يذكر ذلك هنوم، فكرة أن مصر والمغرب الكبير منطقتان متميزتان ليست مجرد فكرة استعمارية، فقد سبق أن ميّز الرومان والعرب مصر عن إفريقيا/ إفريقية. ولكنهم لم يذكروا أبدا فكرة وجود إفريقيا “بيضاء” منفصلة عن أفريقيا “السوداء”، وهي فكرة طورها الجغرافي إميل فيليكس غوتييه في وقت متأخر، وتبناها بدوره المؤرخ تشارلز أندريه جوليان.
يباشر كتاب هنوم تفكيرا عن دور التاريخ وعلاقته بالسلطة. ويلاحظ بأنه، على عكس الدول الاستعمارية، لم يطور العثمانيون كثيرا أساليب السلطة المبنية على سرد تاريخي موجه للمجتمعات الواقعة تحت وصاية الباب العالي. فقد أخذت الكتابات التي تصف الماضي شكل السجلات أو الحوليات، لكنها لم تكن أدوات لبناء الأمم. كانت الفكرة تكمن في إضفاء الشرعية على حكم السلطان، وليس في منح شرعية لرعاياه من خلال سرد تاريخي:
إن تصور التاريخ (الذي يعتبر علم الآثار جزءًا منه) كـ“علم” الماضي الذي يكون مفيدا سياسيا بل وحيويا، كونه يوفر جوهر الأمة ومباركة من الدولة، هو جزء من الحداثة.
يُظهر هنوم أن الحداثة الغربية لم تتميز بانتقال التاريخ إلى مرتبة العلم، بقدر ما تميّزت بمروره إلى تخصص يضفي شرعية على بناء الأمة ومباركة الدولة. في المقابل، وكما يذكر في كتابه، يبقى التاريخ في الولايات العثمانية “حتى في أعمال أحمد بن أبي الضياف 1، تابعا للدين وليس أداة رئيسية للبناء الوطني”. وقد تم تحقيق البناء الوطني هناك دون الانفصال عن مركزية الإسلام.
ويذكر أنه منذ القرن السابع عشر، كان يُنظر إلى النظامين القائمين في تونس والجزائر على أنهما مستقلان، وكانا يتفاوضان على هذا الأساس مع القوى الأوروبية. أما الجهود التي بذلت لاحقا في تصور ووصف جغرافيا حدود المغرب الكبير، فقد كانت من فعل ضباط وباحثين وأعوان استعماريين فرنسيين. وقد واصل بعد الاستقلال العديد من المؤرخين المحليين والوطنيين تبني نماذج سرد ذات وحي استعماري، وكتابتها باللغة الفرنسية:
وهنا تكمن الحقيقة المحزنة أن الفرنسية -وليس العربية- تبقى لغة دراسة المنطقة وتاريخها وثقافتها وسكانها، بل وحتى حياتها الجنسية الحميمة.
اختراع خرائطي
هناك عدة مداخل تدعم فكرة الاختراع الفرنسي للمغرب الكبير. يجمع الأول بين الجغرافيا ورسم الخرائط. الخرائط هي نماذج ثقافية مصطنعة تنتجها السلطة ومؤسسات الدولة: “مثلما تحتكر الدول الإنتاج التاريخي، فهي تحتكر إنتاج رسم الخرائط”. وبالتالي، فإن خريطة المغرب الكبير هو تمثيل رسومي أنتجته القوة الاستعمارية: “(…) المغرب الكبير نفسه ليس مجرد ابتكار استعماري فرنسي، بل هو أيضًا نتاج ومجال القوة الاستعمارية”.
كان رسامو الخرائط الأوروبيون في القرن الثامن عشر يمثلون منطقة تسمى “بارباري”، وكانت مقسمة أحيانًا إلى وحدات متميزة (مملكة المغرب، مملكة الجزائر، مملكة تونس، مملكة طرابلس)، استُبعدت منها مصر وأيضا “إفريقيا السوداء” (المسماة “نيغريتي”، أي ما يمكن ترجمته بـ“بلاد السود”). وإذا كانت المنطقة لم تنتظر حتى سنوات 1830 ليتم رسم خرائطها، فإن احتلال الجزائر وضم البلاد إلى فرنسا خلق قطيعة مع الخرائط القديمة. فمع تقدم الغزو، كان الوجود الفرنسي في الجزائر بمثابة حجة لفرنسا لتثبت نفسها أيضًا في تونس على حساب إيطاليا، وفي المغرب على حساب إسبانيا.
لم تتأخر الخرائط في إظهار منطقة شمال إفريقيا استبعدت منها ليبيا -التي كانت آنذاك تخضع لنفوذ إيطالي- ومصر -تحت النفوذ البريطاني-، أي بعبارة أخرى، إفريقيا تختلط بالممتلكات الفرنسية. ويرى هنوم أن “الأطالس ليست مجرد خرائط يجب قراءة علاماتها وفك شفرتها (…)”، فهي تعبّر عن ميزان القوى. لذا لم يكن الفصل الخرائطي بين شمال إفريقيا وغربها وشرقها قائمًا على الحقائق الأنثروبولوجية المحلية، بقدر ما كان مرتبطا بالتنافس بين القوى الاستعمارية.
نظرة جزئية لعلم الآثار
يكمن المدخل الثاني في علم الآثار، الذي يُعرَّف على أنه أحد أهم التخصصات المساهمة في تشكيل الهويات الوطنية الحديثة. يشير هنوم بخصوص الاهتمام بالآثار القديمة في الجزائر والمغرب الكبير بأنه، على الرغم من أن المخيلة الاستعمارية الفرنسية شملت التاريخ الإسلامي والتاريخ الروماني، إلا أنها تعتبر الأول على أنه “الآخر” بينما يتوافق الثاني مع الـ“نحن”. وقد ساهم وجود الآثار الرومانية في الجزائر والاهتمام الذي أثاره في بناء سردية تجعل من الجزائر امتدادًا لروما، ولفرنسا بالتماثل. وهكذا، بتفضيله لعلم الآثار الرومانية، قلل البحث الاستعماري من السرديات الأخرى، أي البونيقية أو العربية أو الإسلامية أو البربرية. وهكذا اعتُبر العرب سكاناً غير شرعيين لأنهم أتوا من الشرق إلى منطقة كانت -من جانبها- غربية “تاريخياً”.
كذلك، يصيغ هنوم مفهوم الدولة المؤرخة (historiographic state). فابتداء من عام 1870، فرضت دولة استعمارية نفسها في الجزائر، ولم تكتف بإنتاج وسائل لمعرفة المستعمرة وحكمها، بل وقامت بتغيير المستعمرة عن طريق وبفضل هذه المعرفة ذاتها. لذلك، احتل التاريخ مكانة مركزية كاختصاص يضفي الشرعية على السيادة الاستعمارية. وقد أصبح هذا النظام أكثر تعقيدا بعد ذلك بفضل مؤسسات قوية مثل جامعة الجزائر، حيث كانت تدرس شخصيات مهمة مثل ستيفان غْزيل وفرناند بروديل.
حوّلت الدولة المؤرخة الجزائر إلى أراضي فرنسية، وأنشأت الأسس الدلالية لما سمي بالمنطقة المغاربية. وفي هذا، تختلف هذه الدولة عن الدولة الإثنوغرافية، وهي الشكل الذي اتخذته السلطة في الأيام الأولى للغزو العسكري. فبعد عام 1870، حلّت السلطة المدنية محل السلطة العسكرية، وحلّت الدولة المؤرخة محل الدولة الإثنوغرافية. وحل المؤرخون محل الضباط الإثنوغرافيين في المكاتب العربية، وأصبحوا أعوان تأكيد أحقية الاستعمار بآثار الماضي. بعبارة أخرى، جعل التاريخ نفسه -كما هو الحال عمومًا- في خدمة متطلبات الحاضر.
يظهر هنوم أيضا كيف تم تعميم هذا التصور من خلال الأدلة السياحية:
تقوم الأدلة السياحية للمغرب الكبير بتعزيز فكرة أن المنطقة تشكل وِحدة متكاملة، وأنها على الرغم من المسافة والانقطاع الجغرافي بينها وبين فرنسا، فهي تشكّل استمراريتها من خلال روابط تاريخية.
“بومبي المغربية” 2، هكذا ربطت أنقاض “ويليلي” المغرب بحضارة لاتينية نصبت فرنسا نفسها وريثة لها. وقد تم رسم هذا المغرب الكبير الذي يشبه صور البطاقات البريدية الجميلة التي تظهر مواقع أثرية، في شكل أدبي من قبل روائيين فرنسيين، منذ غوستاف فلوبير وصولا إلى ألبير كامو.
اللغة، العرق، الإقليم
يتشكّل المدخل الثالث من ثلاثية “اللغة والعرق والإقليم”. حتى يومنا هذا، يعطي وصف المنطقة المغاربية أهمية مركزية للتمييز بين العرب والبربر. وقد تم تشكيل هذا التقسيم على أساس عرقي مستوحى من نظرية العرق لآرثر دو غوبينو، والتي هيمنت في أوروبا حتى ما بعد القرن 19. يشير هنوم إلى أنه غداة الغزو العسكري، لم يفوّت الزائرون الأوائل للجزائر -ومن بينهم ألكسيس دو توكفيل ولويس آدريان باربروغر- فرصة الإشارة إلى تنوع سكانها. وقد رأى باربروغر في سكان الجزائر ممثلين عن “العرق السامي” الوحيد، فكان يعترف أن هذا العرق يتميز بقوة تنوع مكوناته اليهودية والتركية والموريسكية والكرغلية والبربرية والعربية. بالمقابل، وفق هنوم، اختفى في العقد التالي، أي بعد سنوات 1850، وصف التنوع العرقي من الروايات لصالح التقسيم بين العرب والبربر. ويرى هنوم أن المكاتب العربية (التابعة للسلطة الاستعمارية) هي التي كانت وراء هذا التقسيم، إذ قامت بتمييز واضح بين العرب والبربر في الجزائر أولا، ثم في المغرب بعد ذلك، مع إنشاء مصلحة شؤون “السكان الأصليين” (indigènes)، والتي خلفت المكاتب العربية.
يرى هنوم أن فكرة إقامة حاجز بين العرب والبربر، واعتبار العربية لغة غير أصلية، يختلف عن تصور عربي للغة الذي هو أكثر مرونة، إذا عدنا في ذلك إلى تعريف ابن خلدون. فقد كان الأخير يميز بين اللسان واللغة، إذ أن اللغة، هي اللغة المجردة التي يتحدث بها ويكتبها جيل ما. أما اللسان، فهو تحديثٌ للغة كما يمارسها السكان في الحاضر، إنها لغة الممارسة الحية والمتغيرة بالانتقال من جيل لآخر. وقد كان لابن خلدون، الذي كان يدرك بأن اللسان قد يتغير من خلال الاتصال مع غير الناطقين باللغة العربية، مفهوم ديناميكي للغة.
يواصل هنوم في كتابه:
لقد قام عالم اللسانيات الاستعماري بصناعة البربرية على أنها اللغة الوحيدة التي تعبر شمال إفريقيا من وسط المغرب حتى ليبيا. غير أن “اللغات البربرية” تختلف عن بعضها البعض مثل العبرية عن العربية، والعربية عن الآرامية.
ووفق الكاتب، فإن جيلا جديدا من المستشرقين (هانوتو، غوتييه، لاووست) قد قلّل من مفهوم العرق باستعمال حجة اللغة، ولكنهم في الأساس ألصقوا اللغة بمفهوم العرق، بحيث يخلقون خصوصيات جغرافية وثقافية تعادل التصنيفات الهرمية العرقية القديمة. فالمسَلَّمة الاستعمارية بقيت قائمة على نقاء اللغة -العربية أو البربرية- المتوافقة مع نقاء العرق. وبهذا المعنى تم وصف اللغة العربية على أنها أجنبية عن الجزائر وعلى شمال إفريقيا.
ليس هذا أقل الغرائب التي أبرزها هنوم، مذكرا بأن إيميل فيليكس غوتييه، الذي كان المؤرخ الرئيسي لشمال إفريقيا بين العشرينيات والثلاثينيات، لم يكن يحسن لا العربية ولا البربرية. ومع ذلك فهو الذي فرض تسمية المغرب الكبير، مخصصا إياها للمستعمرات الفرنسية الثلاثة المغرب والجزائر وتونس 3. وقد صنع شرعية انخرطت في زمن بعيد لتبرير التقسيم الاستعماري بين المغرب الفرنسي الكبير وليبيا الإيطالية والمشرق البريطاني. كما قام بتهميش التاريخ العربي الذي لم يكن يصل إليه إلا من خلال الترجمات، بحجة أنه غير مفهوم للعقل الغربي وباشر في إعادة تفسير المنطقة من خلال التأكيد على دور البربر وعلاقاتهم بأوروبا.
يشرح هنوم أنه، في قراءة غوتييه، إذا كان البربر -القرويون المستقرون- “منا”، فإنهم لم يتمكنوا من تشكيل أمة لأنهم منعوا من ذلك بسبب اعتداءات العرب الرحّل. ويتجاوز الكاتب في تحليله النقدي المحللين الفرنسيين والأوروبيين، من خلال ملاحظته كيف حاول الكتاب المعاصرون، ذوو التقاليد الإسلامية و/أو الإفريقية، بناء سردية بديلة. ويخلص إلى استنتاج بأن هؤلاء المنحدرين من الأوساط الإسلامية التقليدية أو القومية العربية أو من “الزنوجة”، غالبا ما قاموا بقلب الرواية الاستعمارية دون تغييرها.
جوليان لا كاسّانْي أستاذ التاريخ والجغرافيا بمدرسة ألكساندر دوما الدولية بالجزائر العاصمة. يعمل حاليا على كتاب حول تحول السكان الأمازيغ إلى اليهودية كأصل
المصدر: موقع أوريان21