نعيشُ لفترات طويلةٍ في حياتنا الدنيا بغية أن نقتنصَ لحظاتِ سعادةٍ عابرة ، ونُقلبَ في تفكيرنا لآلافِ المراتِ أحلامًا جميلة ظنًّا منّا أنّ السعادةَ تكمن بها كامتلاك بيتٍ فخم أو عربةٍ جميلة أو أمانٍ ماديٍّ يؤمنُه لنا عملٌ مريح! قد نحلمُ كذلك بسقوط طاغيةٍ أو تحريرِ بلادٍ وعباد من جور منظومةٍ شيطانيةٍ جاثِمةٍ لسنواتٍ طوال فوق صدورنا ، أو نمنّي النفسَ برؤية لحظاتِ انتصارٍ لمكسورين مقهورين ضعفاءَ كاللاجئين والمشردين في أصقاع الدنيا.
ربّما يباغتُنا الموتُ ولا نرى شيئًا من هذا تحققَ أو حتى يكادُ يتحققُ! وكأنّ الكونَ له قصةٌ معقدةٌ نكادُ لا نفقهُ أبجدياتِها البسيطةَ !
علينا ألّا نُصابَ بالإحباط-عزيزي القارئ- فالأمرُ أعجزَ من هو أقوى من البشر (الجن) .نعم الجنُّ تسألوا باندهاش أمام صعوبةِ تفسيرِ هذا المشهدِ الكوني(وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)[الجن-10].
فلا تيأسْ عزيزي القارئَ، فقد يبدو فقهُ الأولين أرقى وأعمقَ من فقهنا على الرغم من تقدم العلومِ وتطويعِها لكثير من المادة من حولنا في زمننا هذا. فلنصغِ لهذه الكلماتِ بتمعن:
«أيّها الناسُ، اسمعوا وعوا، وإذا سمعتم شيئًا فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكلُّ ما هو آتٍ آتٍ. إنَّ في السماء لخبرًا، وإنّ في الأرض لعبرًا. ليلٌ داجٍ، ونهارٌ ساجٍ، وسماءٌ ذاتُ أبراج، وأرضٌ ذاتُ فجاج، وبحارٌ ذاتُ أمواج. ما لي أرى الناسَ يذهبون ولا يرجعون؟” يبدو للمتبصر كقس بن ساعدة-في هذه الكلمات- عجزُه الواضحُ أمام عظمةِ الخلقِ والخالق!
المشهد يبدو لنا- إذا وقفنا وقفة تأمل حقيقي مع ذواتنا- وكأننا نلاحقُ سرابَ السعادةِ والانتقام والتَسيد ، وكلُّها – شئنا أم أبينا- بيد اللهِ وحدَه! نكاد لا ندرك تلك الحقائقَ إلّا ونحن نصارعُ سكراتِ الموت ونودع أيامنا المعدودة على هذا الكوكب(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوٓاْ إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) [النازعات-46].
كثيرٌ ممن انخرطوا في ثورات الربيعِ العربي والصراع العربي الإسرائيلي ونظَّرَوا لظلم وتكبر الإمبريالية العالمية ، يجدون صعوبةً لا يمكن وصفها في اختراق منظومةِ الشيطانِ والشر البشري الحالية ، حتى يكاد يعتريهم اليأسُ والقنوط، لكن يبدو للمتبصر أن هذا هو الامتحانَ الحقيقيَّ لسؤال الحياةِ الأهم.
عند ظهورِ الحقيقةِ الكبرى يتجلى الخالقُ للبشر ،ويصف سبحانه وتعالى هذا المشهد في قوله: “يَوْمَ هُم بَٰرِزُونَ لَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ ۚ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ ٱلْوَٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ”[غافر ١٦] ،ولكن ألم يكنْ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ:الجواب بكل تأكيد بلى ولكن يبدو أنه لم يرفعِ الغطاءَ عنّا بعدُ! والخوف ألا يُرفعَ إلّا مع سكراتِ الموتِ! لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [الحديد-22]. الغطاءُ ربما هو أضغاثُ أحلامِنا و دوافعِنا وشهواتنا ورغباتنا التي جُبلنا عليها وطلبَ مِنا خالقُنا ضبطَها.
وكيف لنا أن نضبطَها والعالمُ يعجُّ بها، ونكادُ لا نُقيمُ أنفسَنا ومَن حولنا إلا بأدواتها:” اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” (حديد20)
تحذيرٌ دقيقٌ لكن يصعبُ تجاوزُه إلا لمن رحم ربي. لقد تكلمنا سابقًا عن إدمان التعاسةِ التي جعلت منا كمسلمين نقف عاجزين عن العمل الجماعي حتى داخل القبيلةِ الواحدة! لكن سنتحدثُ اليومَ عن نظرية جديدةٍ أثارت إعجابي وربّما يمكن لها أن تفسرَ لنا عالمَ الأوهامِ الذي نعيشُه و يتملكُنا القنوطُ بالخروج منه. إنها نظرية “مبدأ الهولوغرام” التي وضعها “جيرارد هوفت” Gerard Hooft والتي تفترضُ أن المعلوماتِ الخاصةَ بجميع الأجسامِ التي تسقطُ في الثقوب السوداءِ في كوننا الواسع تُختزنُ في التقلبات السطحية لأفق الحدث. وتقول النظريةُ أيضًا إن الجاذبيةَ في الكون مصدرُها أوتارٌ رقيقةٌ تُعَدُّ انعكاسًا ثلاثيَّ الأبعادِ لكونٍ مسطح ثنائي الأبعاد.
مسألةُ الكونِ ثلاثيِّ الأبعادِ “هولوجرام” تشبهُ إلى حدٍ كبيرٍ ما تراه عندما تذهبُ لمشاهدة فيلمٍ معروضٍ بتقنيةٍ ثلاثيةِ الأبعاد، لكنّ الفارقَ هنا ؛ هو أنك لا تحتاجُ إلى نظارات خاصة، فهناك مثلًا “قرص مدمج” يدور ويعمل –ربّما -في كيان ما، يحملُ معلوماتِ الكونِ ويتسببُ في هذا العرضِ الشيقِ الذي نعيشُه. هنا قد تبدأ في التساؤل: هل يمكن أن يكونَ هذا الكلامُ حقيقيًّا؟
ترجعُ قصةُ الهولوجرام إلى نهاية عام 1970، عندما قدم عالِمُ فيزياء شابٌّ يُدعى جاكوب بيكنشتاين مقترحًا يفترض -بتبسيط- أنّ كلّ شيءٍ يُلقى به في الثقب الأسود -وهي منطقةٍ في الفضاء ذاتِ كثافةٍ وجاذبية مهولتين- مثلَ ذرة أو جزيء أو سيّارة أو طاولة أو أي شيءٍ نعرفه، يتحولُ إلى معلوماتٍ ثنائية البعدِ، تلتصقُ على أفقه بمساحة “بلانك” مربعٍ واحد للمعلومة، وكانت تلك واحدةً من أعجبِ النتائجِ في عالم الفيزياء النظرية والتي ستقود لمبدأ الهولوجرام.
مبدأُ الـهولوجرام ، فكرةٌ أخرى صادمةٌ للعقل. حيث تتنبأ هذه النظريةُ –رياضيًا – بأنّ الكونَ يحتاجُ فقط إلى بعدين وليس ثلاثة، ولكنه يبدو إلينا ثلاثىَّ الأبعاد لأنه يعمل كـهولوجرام ضخم (لتفهم معنى هولوجرام ابحث عن كلمة لصاقة هولوغرام في Google صور) .
بالرغم من أنّ هذه الأطروحةَ تبدو مجنونةً ، لكنها على مدار عقدين من الزمن كانت تلفتُ الأنظارَ و تجذبُ المهتمين ، والآن تشيرُ نتائجُ الأبحاثِ إلى أن هذا المبدأَ يرجحُ أنّ كونَنا مسطحٌ ، و ذلك يمكن أن يتمّ اختبارُه قريبًا . و هذا يعنى أن كلَّ شيءٍ موجودٍ فى عالمنا المألوفِ ذي الأبعاد الثلاثة ، يمكن أن يكونَ صورةً لعمليةٍ ثنائية تتمُّ فى بعدين فقط.
هذه النظريةُ ليست خيالًا بل هناك آلافٌ من الأبحاث العلميةِ التي تدعم تلك النظريةَ, لكن الشاهدَ في كلِّ هذا أن الزمانَ والمكانَ والمشهدَ الذي نقضي حياتنا في محاولة تفسيرِه، هو شيءٌ قد لا تتمكنُ البشريةُ جمعاء إلى أن تقومَ الساعةُ من إدراكه وفكِّ أسرارهِ وبالتالي يصبحُ هنا الماضي والحاضرُ والمستقبل بحلوه ومره و مشاهده العابرة لا دور لك فيه إلا إنقاذ نفسِك فقط بالعمل الصالح كما طلب خالقُ الزمانِ والمكانِ والمشهد من بدايته إلى نهايته!!! “اللهُ جلًّ جلاله”!!!