في السادس من يناير (كانون الثاني) الماضي، اجتاحت حشود مؤيدي الرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترمب مبنى الكابيتول الأميركي في محاولة لعرقلة مصادقة الكونغرس على نتائج الانتخابات الرئاسية 2020 (فوز جو بايدن في الرئاسة). وهدد الغوغاء من أنصار ترمب المشرعين، وعاثوا خراباً في المبنى، وتسببوا بإصابات جسدية لأكثر من 100 من رجال الشرطة، توفي خمسة أشخاص، من بينهم شرطي، في الظروف التي أحاطت بالاعتداء. شكّلت تلك الحوادث الهجوم الأول من نوعه على الكابيتول منذ حرب 1812 (عندما أضرم البريطانيون النار بالمبنى)، وأول انتقال عنيف للسلطة الرئاسية في التاريخ الأميركي.
سرعان ما أُلقي القبض على حفنة صغيرة من مثيري الشغب، فيما غادرت الغالبية ببساطة مجمع الكابيتول، وتوارت عن الأنظار في شوارع واشنطن. في المقابل، لم يفلت أولئك الناس من قبضة السلطات الأميركية طويلاً، إذ اتضح أن المتمردين أُغرِموا بالتقاط صور “سيلفي” لأنفسهم. وعلى “فيسبوك” و”إنستغرام” و”بارلر” Parler وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي، نشر كثيرون منهم صوراً ومقاطع مسجلة قصيرة توثّق دورهم في الاعتداء الشهير. حتى إن بعضهم جنى أرباحاً عبر بث الحدث مباشرة إلى مستخدمي الواقع الافتراضي، والخوض في دردشات مع معجبين متطرفين على موقع إلكتروني يُسمّى “دي لايف” DLive.
في الحال، توجّه هواة الاستطلاع إلى “تويتر”، وقد نظموا أنفسهم في سبيل مساعدة الهيئات المكلفة إنفاذ القانون في تحديد هوية مثيري الشغب وتوجيه الاتهام إليهم. جاء تحقيقهم عفوياً، ولم يكن منسّقاً ولا مخططاً [مُعداً له]، بل جعلوه مفتوحاً أمام الجميع، ولم يكُن محصوراً بالخبراء. لم يلزم أولئك المشاركون أي شارة أو تصريح أمني، بل مجرد اتصال بشبكة الإنترنت. في غضون ساعات، جمع هذا الجهد المستند إلى معلومات متأتية من الجمهور، مئات من مقاطع الفيديو والصور، قبل أن ينجح مثيرو الشغب في حذفها، أو تشرع منصات التواصل الاجتماعي في إزالتها.
ذهب أولئك المحققون المواطنون إلى أبعد من مجرد جمع الأدلة، إذ راحوا يتعرفون إلى الجناة، غالباً من طريق التركيز على سمات مميزة ظهرت في صور للمشاغبين، من قبيل الوشوم أو الشارات غير المألوفة على ملابسهم. ولم يمضِ وقت طويل قبل أن تسأل هيئات إنفاذ القانون المستخدمين علانية أن يقدّموا لها مزيداً من المساعدة الإلكترونية. وبحلول مارس (آذار) الماضي، أرسل المجتمع المتطوع [أوساط المتطوعين] من المحققين الهواة حوالى 270 ألف نصيحة رقمية إلى “مكتب التحقيقات الفيدرالي” (FBI). وفي نهاية المطاف، اعتُقل المئات من المشتبه فيهم ووُجّهت التهم إليهم.
تصف الكلمات السابقة هذا العالم الصاعد من الاستخبارات المفتوحة المصدر. لطالما شكّل تعقب المجرمين داخل البلد والأعداء خارجه، أحد اختصاصات الحكومات التي تمتعت باحتكار شبه كامل في جمع المعلومات الأساسية وتحليلها. في الماضي، احتكرت هيئات إنفاذ القانون الوصول إلى البيانات المستخدمة في تحديد هوية الجناة، من قبيل سجلات بصمات أصابع اليدين، فيما لم يكُن ذلك متاحاً أمام المواطنين العاديين. وكذلك حازت وكالات الاستخبارات أيضاً بيانات فريدة من نوعها، بوصفها المنظمات الوحيدة التي تمتلك الموارد والمعرفة اللازمة لإطلاق أقمار اصطناعية كلّفت مليارات الدولارات، من ثم جمع المعلومات على نطاق واسع. صحيح أن المعلومات المتاحة للجمهور شكّلت أمراً مهمّاً، بيد أن نظيرتها الموجودة في جعبة الأجهزة الحكومية حازت أهمية أكبر [كانت أضخم حجماً ويعتد بها أكثر].
لقد ولّى ذلك. اليوم، بفضل التقنيات الجديدة صار في مقدور الأفراد والجهات الفاعلة من خارج مؤسسات الدول (الأطراف غير الدُوَلاتيَّة)، تجميع معلومات استخباراتية وتحليلها أيضاً، بل على نحو أسهل وأسرع وأفضل من الحكومات في بعض الأحيان. وسنوياً، تطلق الشركات التجارية مئات من الأقمار الاصطناعية، زارعةً لمن يشاء عيوناً منخفضة التكلفة في السماء. وعلى وجه المعمورة، يفوق عدد الأشخاص الذين يمتلكون هواتف محمولة أعداد من تتوافر لديهم مياه جارية، ما يسمح لهم بنشر مشاهداتهم على الفور، ومن أي مكان. كذلك، بات أكثر من نصف البشرية متصل مع الإنترنت، وتراه ينتج ويحصل على معلومات استخباراتية مفتوحة المصدر، حتى لو غفلت عنه هذه الحقيقة. وفق تقرير “المنتدى الاقتصادي العالمي” في 2019، ينشر مستخدمو الإنترنت حوالى 500 مليون تغريدة على “تويتر” و350 مليون صورة على” فيسبوك” يومياً.
وضمن ذلك السياق، يُعتبر موقع “بيلينغكات” Bellingcat عضواً رئيساً في هذا النظام الحيوي الذكي الجديد المفتوح المصدر. وأُنشئ رسمياً في 2014، ويبدو عصياً على التعريف، إذ ينهض بنشاطات تؤديها في العادة مجموعة واسعة من الجهات، بما في ذلك صحافيون ونشطاء وهواة وهيئات معنية بإنفاذ القانون. وتحت إشراف الصحافي والمدون البريطاني إليوت هيغينز وفريق عمل صغير، يعوّل “بيلينغكات” على عمل آلاف المتطوعين من أنحاء شتى في العالم، يجمع بينهم شغف مشترك في استخدام المعلومات المتاحة علناً بهدف التحقيق في الجرائم ومحاربة المعلومات المضللة وكشف النقاب عن المخالفات والتجاوزات. واستُوحيَ اسم المجموعة (التي تعمل على موقع “بيلنغكات”) من قصة خيالية قصيرة ذات مغزى حول قط يُرهب مجموعة من الفئران. ولأن الفئران أسرع من القط، فإنها تدرك أن السبيل الوحيد لحماية نفسها منه يتمثّل في أن تسمعه مقبلاً كي تحظى بوقت كافٍ للفرار منه. بالتالي، يتمثّل الحل في أن تعثر الفئران على فأر يتمتع بشجاعة كافية كي يُعلّق جرساً على عنق القط. ويرى هيغينز أن مهمته تكمن في “وضع الجرس” على رقاب قطط الظلم العالمي. ويسمي منظمته “وكالة استخبارات للشعب” و”مجتمع مفتوح قوامه هواة البحث التعاوني عن الأدلة”.
في كتابه “نحن بيلينغكات” We Are Bellingcat ، يتتبع هيغينز رحلته غير المتوقعة بدءاً من كونه فاشلاً في الدراسة الجامعية وممارساً لألعاب الفيديو، ووصولاً إلى تحوّله رائداً في مجال الاستخبارات المفتوحة المصدر. وعقب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية التي استهدفت الولايات المتحدة في 2001، صُدم هيغينز، كمواطن بريطاني في العشرينيات من عمره آنذاك، من التباطؤ الذي شاب عمل وسائل الإعلام التقليدية أثناء تغطيتها الاعتداءات وتداعياتها. وفي هذا الصدد، يكتب أن “الأخبار كانت تحدث بسرعة هائلة، لكن الصحف بطيئة جداً” في متابعتها. أصبح مهووساً بالشؤون الجارية، وأخذ ينضم إلى منتديات إلكترونية. ومع حلول 2011، حينما اندلعت احتجاجات “الربيع العربي” في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، دأب هيغينز على الوصول مبكراً إلى وظيفته المكتبية كي يبحث عن أخبار عبر شبكة الإنترنت. آنذاك، أدرك أمراً مهماً قوامه أن المراسلين غالباً ما ضمّنوا تغريداتهم الشخصية على “تويتر” معلومات أكثر من تلك التي ترِد في قصصهم التي تنشرها المؤسسات التي يعملون فيها. وبمعنى آخر، احتوت وسائل التواصل الاجتماعي حقائق لم تمتلكها وسائل الإعلام التقليدية.
في نهاية المطاف، انتقل هيغينز من استهلاك المعلومات إلى إنتاجها. وأخذ ينشر تعليقات على منتدى الرسائل “سومسينغ أوفل” Something Awful (حرفيّاً، “شيء فظيع”) والمدوّنة الإلكترونية “ذي غارديان” The Guardian التي تعمل بالبث المباشر. وبعد ذلك، أنشأ مدونته الخاصة باسم “براون موزس”Brown Moses ، تيمّناً بأغنية للفنان الأميركي المعاصر فرانك زابا، تحمل الاسم ذاته.
لقد كمنت براعته، وفق ما يصف نفسه، في استخدام برنامج الخرائط الجغرافي والمعلوماتي “غوغل إيرث” Google Earth بغية تحديد مواقع الحوادث والكشف عن أسلحة غير اعتيادية يجدها في الصور. كذلك تبيّن لهيغينز أن الأخيرة (الصور) يمكن أن تتحوّل منجماً ذهبياً في يد محقق يتوخى الدقة ويتأنى في تحرياته. اشتملت الصور الفوتوغرافية غالباً على قرائن دالة على غرار لافتة طريق بعيدة، شجرة من صنف معين، وقت ما من اليوم، نوع محدد من الذخيرة، لم يدرك الأشخاص والمصورون أنفسهم وجودها. في الواقع، “إن ما يتقصد الناس إظهاره لا يشكّل كل ما يكشفون عنه (عبر الصور)”، يكتب هيغينز.
اشتهرت مجموعة “بيلينغكات” بتحقيقات خاضتها حول إسقاط الرحلة رقم 17 التابعة للخطوط الجوية الماليزية، التي تحطمت في أوكرانيا عام 2014 وعلى متنها 298 راكباً فارقوا الحياة جميعاً. وآنذاك، أصرّت الحكومة الروسية على أن الأوكرانيين كانوا وراء المأساة، وشنّت حملات تضليل بهدف نشر روايات كاذبة وإشاعة بلبلة. بيد أن “بيلينغكات” أماطت اللثام عن الحقيقة، ومفادها بأن الطائرة أُسقطت بصاروخ أرض- جو روسي من طراز “بوك”Buk قدمته قوات العمليات الخاصة الروسية إلى انفصاليين موالين لموسكو في أوكرانيا، الذين على الأرجح ظنوا خطأً أن طائرة الركاب المدنية طائرة عسكرية أوكرانية. وجد المحققون الهواة في “بيلينغكات” مختلف أنواع المصادر المبتكرة كي يجمعوا قطع الحقيقة معاً بشأن عملية النقل السرّية لصاروخ “بوك” من روسيا إلى أوكرانيا. استخدموا صوراً ومقاطع فيديو تظهر فيها معدات عسكرية امتلكها انفصاليون، وأحبّ الأوكرانيون نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى لقطات من كاميرا لوحة القيادة لرحلات يومية بالسيارات شهدتها تلك المنطقة، نشرها مالكو المركبات على موقع “يوتيوب” (ضمن هواية محلية رائجة). وكذلك استخدموا تطبيقاً رقمياً اسمه “صنكالك”SunCalc ، يقيس الظلال في الصور بهدف تحديد الوقت الذي أُخذت فيه اللقطة، وصور “سيلفي” على “إنستغرام” لجندي روسي متخفٍّ على الحدود. وبالنتيجة، استطاع متطوعو “بيلينغكات” تبيُّن الوحدة العسكرية الروسية المعنية والأفراد المتورطين. حتى إنهم حددوا بدقّة السلاح الذي أسقط الطائرة عبر تعقب صور عن تفاصيل عملية نقله، والكشف عن نسق فريد من صدمات وتمزقات ظهرت على الجزء المطاطي من الهيكل الخارجي للناقلة التي حملت “بوك” من روسيا.
وعلى نحو مماثل، حققت مجموعة “بيلينغكات” نجاحات أخرى كثيرة، إذ كشفت وجمعت أدلة دامغة عن أن رئيس النظام السوري بشار الأسد استخدم أسلحة كيماوية ضد مواطنيه. وحدّدت هوية أعضاء في منظمة “النازيين الجدد” ممن شاركوا في الاحتجاجات العنيفة في مدينة شارلوتسفيل بولاية فرجينيا عام 2017. وكشفت أيضاً عن أعضاء فريق قنص روسي حاول في 2018 اغتيال ضابط عسكري روسي سابق تجسّس لمصلحة البريطانيين، وكان يعيش في المملكة المتحدة. في إحدى القضايا، حدد محققو “بيلينغكات” شخصاً التقط صوراً لاعتدائه على رجل أميركي من أصل أفريقي في مدينة شارلوتسفيل بعد تحليلهم لقطات نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تُظهر تجمعات مناصري نظرية تفوّق العرق الأبيض اجتمعوا في الصيف (يكون الطقس حاراً ويميل الناس إلى فتح أزرار قمصانهم)، وعملهم على مطابقة النسق المميز للشامات في الجزء العلوي من صور صدر المشتبه فيه. في حادثة أخرى، شاهد هيغينز مقطع فيديو في ساعة متقدمة من الليل نشره ناشط سوري، يُدعى سامي الحموي، يظهر فيه رجل يلتقط عبوات فيروزية غريبة الشكل من الأرض في سوريا. “هل لدى أحد معرفة بحقيقة هذه [القنبلة] الغريبة؟”، سأل الحموي.
وجد هيغينز مقطع فيديو آخر مأخوذاً في المنطقة ذاتها تظهر فيه قذيفة مشقوقة من جانب واحد وذات زعانف في المؤخرة، وتمتلك شكلاً مميزاً. وعمد محقق آخر من الهواة إلى صنع رسم عن تلك القنبلة ثم نشره على الإنترنت كي يكون في مقدور الناس أن يبحثوا بسهولة أكبر عمّا يتطابق معها في المواقع المتخصصة بالأسلحة على الإنترنت. في النهاية، خلص هيغينز إلى أن مقطعي الفيديو كشفا عن أجزاء من قنبلة عنقودية روسية الصنع من طراز “آر بي كي- 250- 275” (RBK-250-275)، علماً أنها من الذخائر التي يلقى استخدامها رفضاً واسعاً، إذ تنثر أعداداً كثيرة من القنابل الصغيرة التي لا تنفجر غالباً، ما يعرّض المدنيين (بمن فيهم الأطفال) الذين يعثرون عليها لاحقاً لمخاطر مميتة. وبالنتيجة، تبيّن أن العبوات الفيروزية التي تفحّصها الرجل (الحموي) في الفيديو تشكّل قنابل فعلية.
في سياق آخر، جلب السجل الحافل من الإنجازات إلى “بيلينغكات” مقداراً من الاهتمام والشهرة لم يتخيّله هيغينز حينما بدأ مشروعه، إذ صار المدوّن المغمور سابقاً، عضواً الآن في “المجلس الاستشاري التكنولوجي” التابع لـ”المحكمة الجنائية الدولية”. ويروي هيغينز بحماسة حكايته الغريبة هذه مستذكراً تفاصيل رائعة، ما يجعل كتاب “نحن بيلينغكات” مزيجاً من مذكرات وبلاغ وتدابير إجرائية تتخذها أجهزة الشرطة. بالاختصار، يشبه الكتاب تحقيقاً في موقع الجريمة (“سي أس آي” CSI) عن مجموعة العلاقات الدولية.
حشود حكيمة وغوغاء خطيرون
ربما ليس مستغرباً أن يقدّم كتاب “نحن بيلينغكات” نظرة نصف كاملة حول الاستخبارات المفتوحة المصدر، مركّزاً بشكل شبه تام على وعودها ومتجاهلاً مخاطرها المحتملة. بيد أن الجوانب السلبية تستحق النظر فيها أيضاً.
من تلك الوجهة، إن “بيلينغكات” جزء من نظام حيوي انتقائي واسع يضم مجموعة كبيرة من أناس لديهم دوافع وقدرات متباينة، وفي صفوفهم هواة وصحافيون ونشطاء وأكاديميون وموظفون بدوام جزئي ومنتفعون ومتطوعون ومتقصّو حقائق وبائعو نظريات مؤامرة وكل ما بين ذلك. ويضم فريق هيغينز أعضاء من الأشخاص الأكثر مقدرة ومسؤولية في هذا العالم الناشئ، مع معايير رفيعة في التحقق والتزام التدريب. كذلك يشترك في تلك القيم خبراء أكاديميون ومسؤولون حكوميون سابقون، يؤدون أيضاً عملاً استخباراتياً مفتوح المصدر يملك قيمة كبيرة.
في المقابل، تشكّل استخبارات المصادر المفتوحة مجالاً فضفاضاً لا يخضع لتنظيم رقابي ومتاح أمام أي شخص. في ذلك الحقل، لا ضرورة لأي مؤهلات أو قواعد أو معايير رسمية. وكذلك يعني العمل عبر الإنترنت أن الأخطاء يمكن أن تنتشر كالنار في الهشيم. ولا يخاطر المشاركون بخسارة ترقية أو وظيفة بسبب ارتكابهم خطأ ما. واستطراداً، يحتقر هيغينز التسلسل الهرمي والبيروقراطي في وكالات الاستخبارات الحكومية، غير أن الإجراءات الروتينية تحمل بعض الفوائد. ولذا، يشدد أفضل وكالات الاستخبارات على معايير وإجراءات صارمة بشأن التوظيف والتدريب التحليلي الرسمي وإجراء مراجعة إلزامية لتقارير الاستخبارات من جانب محققين نظراء وفرض عقوبات على الأداء الضعيف.
واستكمالاً، يبدي هيغينز شغفاً أيضاً بمزايا تجميع المعلومات من الجمهور، في ما يتصل بالكشف عن الحقيقة. وثمة خيط رفيع يفصل بين حكمة الجماهير وخطر الغوغاء، إذ يكون القطيع الغوغائي على خطأ غالباً، وحينها، تكون التكاليف مرتفعة.
بعدما فجّر إرهابيان مواد متفجرة قرب خط النهاية في ماراثون بوسطن 2013، مخلّفين وراءهما ثلاثة قتلى وأكثر من 260 جريحاً، حدّد مستخدمو منتدى “ريديت” Reddit الإلكتروني، واللهفة تحدوهم لحل القضية، أعداداً كثيرة من “المشتبه فيهم” الذين اتضح لاحقاً أنهم أبرياء. وبذا، فسرعان ما تحوّل التحقيق المستند إلى معلومات جماهيرية المصدر إلى “مطاردة ساحرات” رقمية. (يذكّر تعبير “مطاردة الساحرات” بزمن محاكم التفتيش، خصوصاً في القرن السادس عشر، التي شهدت فظاعات في اضطهاد النساء بذريعة أنهن ساحرات يتعاملن مع الشيطان).
لطالما شكّل تعقب المجرمين داخل البلد والأعداء خارجه، أحد اختصاصات الحكومات التي تمتعت باحتكار شبه كامل في جمع المعلومات الأساسية وتحليلها. لم يعد الأمر كذلك
تذكيراً، وجد بحث حديث أن الخوارزميات (يشير مصطلح خوارزمية إلى معادلة رياضيات ضمن شيفرة برنامج ما في الكمبيوتر) المستخدمة في التعرّف إلى الوجه، وهي متوافرة على نطاق واسع وسهلة الاستخدام عبر الإنترنت، أكثر دقة بأشواط في تحديد الوجوه ذات البشرة الفاتحة بالمقارنة مع أصحاب البشرة الداكنة، ما يفاقم احتمالات أن يتهم المحققون الهواة، ووكالات الاستخبارات الحكومية، أشخاصاً أبرياء ظلماً. وينطبق ذلك تماماً على تجربة مرّ بها روبرت جوليان بورشاك ويليامز في 2020. واشتهر ذلك الرجل الأميركي من أصل أفريقي بكونه أول شخص في الولايات المتحدة يُعرف عنه اتهامه بجريمة لم يرتكبها لأن إحدى خوارزميات التعرف إلى الوجوه أجرت مطابقة غير صحيحة لوجهه. بعد حصار مبنى الكابيتول الأميركي في 6 يناير، استخدم طالب جامعي من واشنطن لم تتبيّن هويته، صوراً منشورة عبر الإنترنت وبرمجيات بسيطة في تعقب الوجوه بغية إنشاء ما سمّاه “وجوه الشغب” Faces of the Riot، موقع إلكتروني يحتوي على ستة آلاف صورة لأشخاص اعتُقد أنهم متورطون في الهجوم. “ينبغي أن يخضع للمساءلة كل من يشارك في أعمال العنف هذه، [التي] ترقى إلى العصيان فعلاً”، وفق ذلك الطالب. في المقابل، لم يستطِع موقع “وجوه الشغب” أن يميّز بين المشاغبين الذين اقتحموا الكابيتول من جهة، وبين من حضروا الاحتجاجات من دون الدخول إليه، من جهة أخرى. حتى إن ملف تفريغ الصور الخاص بالموقع لم يحدد أو يحذف المتفرجين أو الأشخاص الذين تصادف مرورهم بالمكان فحسب، أو ممثلي الوسائل الإعلامية، أو رجال الشرطة.
في السياق ذاته، ثمة احتمال بأن تقود التحقيقات الخاطئة ضمن الاستخبارات المفتوحة المصدر إلى تضليل مسؤولي الاستخبارات وصانعي السياسات، ما يتسبب باستنزاف إمكانات المهمات والأولويات الأخرى. في 2008، أثناء محاضرة خبير استراتيجي سابق في البنتاغون يُدعى فيليب كاربر، أمام طلابه في “جامعة جورج تاون”، ارتأى ذلك المحاضر توجيههم إلى تحقيق استخباراتي مفتوح المصدر هدفه الكشف عن الغرض من إنشاء منظومة أنفاق ضخمة تحت الأرض في الصين، إذ عُرف عن وجود تلك الأنفاق طيلة أعوام، فيما بقي الغرض من استخدامها غير مؤكد. أعدّ محققو كاربر تقريراً من 363 صفحة، خلص إلى أن الأنفاق أخفت سرّاً ثلاثة آلاف سلاح نووي، ما معناه أن ترسانة الصين النووية تبلغ حوالى عشرة أضعاف ما يعتقده معظم الخبراء ووكالات الاستخبارات الأميركية، وفق تقديرات رُفعت عنها السرية.
في المقابل، رأى الخبراء أن التقرير الذي أعدّه الطلاب جاء عارياً تماماً من الصحة، ووجدوا أن التحليل يفيض بأخطاء فادحة. وشملت تلك الأخطاء، اعتماد التقرير بكثافة على منشور مجهول يعود إلى عام 1995 في منتدى إلكتروني، واعتُبر ذلك المنشور “غير جدير بالركون إليه إلى حد أنه يدعو إلى الضحك”، وفق ما كتب خبير منع انتشار الأسلحة النووية جيفري لويس.
وعلى الرغم من ذلك، تناقل مسؤولون كبار في البنتاغون ذلك التقرير الذي نُشر في صحيفة “واشنطن بوست”، وعُقدت لمناقشته جلسة استماع في الكونغرس. وجاء ذلك التحقيق بأسره عقيماً لا جدوى منه، لكنه استهلك أكثر الموارد قيمة في واشنطن، ألا وهو الوقت. ومع نمو استخبارات المصادر المفتوحة، من المرجح أن تزداد باطّراد تلك الأنواع من الإلهاءات. تدريجاً، ربما يُضطر رجال وكالات الاستخبارات الأميركية إلى أن يعملوا بوصفهم محققي الملاذ الأخير، بهدف تكذيب مزاعم المعلومات الاستخباراتية الآتية من الجمهور، التي تتصدر عناوين الصحف عوض أن تمدّ صانعي السياسة بالمعلومات الاستخباراتية التي يحتاجون إليها.
في سياق متصل، تنحو التحقيقات الاستخباراتية المفتوحة المصدر إلى التركيز على التفاصيل بهدف الإضاءة على الصورة الكبيرة. من وجهة نظر هيغينز، الحقيقة هي الحقيقة، أمور صغيرة تتراكم، والجميع يعرفها. إنه نهج مُغرٍ، لكنه أكثر خطورة مما يبدو عليه، إذ تمثّل الاستخبارات عملاً رمادياً مبهماً تدعم فيه الوقائع الفردية غالباً فرضيات متناقضة متعددة. في 1990، مثلاً، أظهرت صور التقطتها أقمار اصطناعية أميركية بوضوح احتشاد القوات العراقية على مقربة من الحدود الكويتية. لكن لم يعرف أحد إذا كان الرئيس العراقي صدام حسين يخادع كي يكسب نفوذاً في خلافه مع الكويتيين، أو إذا كان يستعد فعلاً للغزو. لقد كانت الحقائق واضحة، خلافاً لنوايا صدام التي لم تكُن كذلك.
وعلى الصعيد ذاته، من الوارد أيضاً أن تقود الحقائق الصغيرة إلى تحريفات كبيرة. غالباً، يولي البشر المعلومات التي تؤكد وجهات نظرهم قدراً كبيراً من الأهمية، على النقيض من المعلومات التي تتعارض مع اعتقاداتهم، فلا يعطوها سوى القليل من التركيز. ومثلاً، انتابت الجنرال الأميركي دوغلاس ماكآرثر حالة من الصدمة، إذ تدخلت الصين عسكرياً في الحرب الكورية، لأنه كان مقتنعاً بأن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ لن يجرؤ على الانضمام إلى القتال. وآنذاك، وضع ماكآرثر ثقته في معلومات استخباراتية تدعم ذلك الاعتقاد، مهملاً أي أمر يتعارض معها. كذلك يمكن لطرح السؤال غير الصحيح أن يقدّم معلومات أقرب إلى الدقة، لكنها ربما تكون مضللة كثيراً. ألقى مايكل هايدن الضوء على هذا الخطر خلال جلسة استماع له في 2006 قبيل تعيينه مديراً لـ”وكالة الاستخبارات المركزية” (“سي آي أي” CIA). وحينها، توجّه هايدن بالكلام إلى لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي، “لدي ثلاثة أطفال رائعين، لكن إذا طلبت مني أن أجمع لك كل الأمور السيئة التي فعلوها، يمكنني أن أُعدّ لك ملفاً جيداً، وستعتقد أنهم كانوا أشخاصاً شديدي السوء. ويرجع ذلك إلى أني بحثتُ في ذلك الجانب، ووجدت المعلومات التي راكمتها في الملف”. في مقدور الحقائق أن تكون مخادعة حتى عندما لا يتقصّد أحد ذلك.
مفتوح على مصراعيه
وُجدت ثورة الاستخبارات المفتوحة المصدر كي تبقى، وعلى وكالات الاستخبارات الأميركية أن تتبنّاها أو تجازف بالفشل، إذ ينكبّ مبتكرون من نوعية “بيلينغكات” على ربط المعلومات المتاحة للجمهور بعضها بعضاً، عبر استخدام تقنيات جديدة وطرائق مثيرة للاهتمام. وفي المقابل، على غرار جوانب الاستخبارات كلها، يحمل ذلك المشهد الصاعد وعوداً ومزالق على حدٍّ واحد وسواء.
فمن ناحية، يقتضي تحقيق أقصى قدر من الفوائد والتخفيف من المخاطر المتعلقة ضمن ذلك العالم من المعلومات الاستخباراتية المفتوحة المصدر، العمل على ثلاث جبهات معاً. أولاً، يتعيّن على الحكومات والجهات الفاعلة غير الحكومية إقامة شراكات أوثق بهدف تسهيل التعاون وتبادل المعلومات الاستخباراتية المفتوحة المصدر. في الوقت ذاته، على الحكومات إنشاء وكالات استخباراتية متخصصة في تجميع المعلومات الاستخباراتية المفتوحة المصدر وتحليلها، لكن ذلك ما زال عملاً هامشياً في معظم العمل البيروقراطي داخل مؤسسات الاستخبارات. في الولايات المتحدة، لدى “وكالة الاستخبارات المركزية” و”وكالة الأمن القومي”، ووكالات استخباراتية أخرى، مبادرات واعدة بشأن المعلومات الاستخباراتية المفتوحة المصدر، وهي قيد التنفيذ. وفي المقابل، لن تكون تلك المبادرات كافية، إذ يتمثّل الشيء المطلوب في إنشاء وكالة استخبارات جديدة مفتوحة المصدر. وفي شكل دائم، تفضل وكالات الاستخبارات السرّية الركون إلى الأسرار. ويشبه الأمر حال القوات الجوية الأميركية التي ظلت مقيدة وعاجزة قبل أن تصبح فرعاً منفصلاً عن الجيش (المقصود، أنها انفصلت عن الجيش البرّي في 1907، بعد أن كانت وحدات إسناد جوية له. وصارت أحد الأقسام المكونة الثلاثة للقوات العسكرية الأميركية). وعلى نحو مماثل، ستبقى الاستخبارات المفتوحة المصدر تواجه نقصاً في التمويل وضعفاً في الأداء، ولن يُستفاد منها على نحو كامل ما دامت قابعة داخل استخبارات صيغت مهماتها وثقافاتها وقدراتها كلها، من أجل عالم سرّي.
أخيراً، لدى المجموعات المفتوحة المصدر غير الحكومية، على شاكلة “بيلينغكات”، عمل تنجزه، إذ يحتاج ذلك النظام الحيوي برمّته إلى العمل على تقنين أفضل الممارسات وإضفاء الطابع المؤسساتي عليها، كذلك وضع قواعد أخلاقية مشتركة ومعايير للجودة وتحسين مهارات التجميع والتحليل بغية خفض احتمالات الوقوع في الأخطاء وغيرها من نتائج سيئة. في ذلك الصدد أيضاً، تتواصل الجهود. وتدير “بيلينغكات” برامج تدريبية، ويعقد “مركز ستانلي للسلام والأمن”، مؤسسة لا تتوخى الربح، ورش عمل دولية مع رواد في مجال الاستخبارات المفتوحة المصدر بهدف دراسة التحديات الأخلاقية ووضع توصيات عن معالجتها. اليوم، يهيمن الأميركيون وحلفاء الولايات المتحدة الديمقراطيون الغربيون على المعلومات الاستخباراتية المفتوحة المصدر. كذلك تزخر منظمات رائدة عدة بخبراء يحدوهم شعور بالمسؤولية ولديهم معايير جودة صارمة ويعملون بشكل وثيق مع مسؤولين حكوميين وهيئات دولية. لكن، من المرجح أن يجلب المستقبل لاعبين إضافيين من بلاد أخرى ذات خبرة أقل في هذا المجال وحسّ أدنى بالمسؤولية وخطوط اتصال أضعف مع مسؤولي الاستخبارات وصنّاع السياسات في الولايات المتحدة وحلفائها، إذ تدير الصين أصلاً أقماراً اصطناعية تجارية، ومن المتوقع أن ينمو تدويل الأعمال التجارية للأقمار الاصطناعية باطّراد في الأعوام القليلة المقبلة. في وقت قريب، سيصبح عالم المصادر المفتوحة أكثر ازدحاماً وأقل لطفاً. والآن، حان وقت الاستعداد لذلك.
- إيمي زيغارت، زميلة أولى في “معهد هوفر” و”معهد فريمان سبوغلي للدراسات الدولية” في “جامعة ستانفورد”، ومؤلفة كتاب لم يصدر بعد بعنوان “جواسيس وأكاذيب وخوارزميات: تاريخ ومستقبل الاستخبارات الأميركية” Spies, Lies, and Algorithms: The History and Future of American Intelligence.
مترجم من “فورين أفيرز”، يوليو (تموز)/ أغسطس (آب) 2021
المصدر: اندبندنت عربية