بعد أن اقتحم مثيرو الشغب مبنى الكابيتول (مقر الكونغرس الأميركي) في 6 يناير (كانون الثاني)، انطلقت بعض أقوى مؤسسات الولايات المتحدة إلى العمل بهدف معاقبة قادة محاولة التمرد الفاشلة، بيد أن أولئك لم يكونوا الأشخاص الذين ربما تتوقعهم أنت، فقد جمدت منصتا “فيسبوك” و”تويتر” حسابات الرئيس دونالد ترمب بسبب نشره نصوصاً تشيد بمثيري الشغب. وعمدت شركات “أمازون” و”أبل” و”غوغل” فعلياً إلى إقصاء موقع “بارلر” الرقمي الذي يستخدمه أنصار ترمب بديلاً من “تويتر”، وقد استعملوه في تشجيع الهجوم وتنسيقه، إذ حظرت الشركات الثلاث وصول “بارلر” إلى خدمات استضافة المواقع الشبكية ومتاجر التطبيقات الرقمية. وكذلك توقفت تطبيقات الخدمات المالية الرقمية الرئيسة كـ”باي بال” و”سترايب”، عن تسيير معاملات المدفوعات الخاصة بحملة ترمب وحسابات تمويل نفقات سفر أنصار ترمب إلى العاصمة واشنطن.
وبشكل صارخ، تتناقض سرعة ردود فعل تلك الشركات التكنولوجية مع الاستجابة الضعيفة التي صدرت عن المؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة. والواقع أن مجلس الكونغرس لم يُلقِ حتى الآن باللوم على ترمب بسبب الدور الذي لعبه في اقتحام مبنى الكابيتول. وأخفقت محاولة المجلس تشكيل لجنة تحقيق من الحزبين على غرار لجنة اعتداءات 9/11، وسط معارضة الجمهوريين. وإذ تمكنت وكالات إنفاذ القانون من اعتقال بعض مثيري الشغب، فقد جاء نجحاها في حالات كثيرة من خلال تتبع أدلة تركوها على منصات التواصل الاجتماعي عن مشاركتهم في تلك المحاولة التي فشلت فشلاً ذريعاً.
كانت الدول تمثل الأطراف الفاعلة الرئيسة في الشؤون العالمية منذ ما يقرب من 400 سنة. وأخذ ذلك الوضع بالتغير مع شروع حفنة من شركات التكنولوجيا الكبرى في منافسة الدول على النفوذ الجيوسياسي. وتصلح الفترة التي تلت حوادث 6 يناير كأحدث دليل على أن “أمازون”، و”أبل”، و”فيسبوك”، و”غوغل” و”تويتر” لم تعد من كبريات الشركات فحسب، بل باتت تسيطر على جوانب في المجتمع، والاقتصاد، والأمن القومي، التي كانت كلها لزمن طويل حكراً حصرياً على الدولة. وينطبق الأمر نفسه على شركات التكنولوجيا الصينية كـ”علي بابا”، و”بايتدانس”، و”تينسينت”. وبشكل متعاظم، تنهض الأطراف الفاعلة غير الحكومية التي تأتي شركات التكنولوجيا الكبرى في مقدمتهم، بتشكيل معالم المشهد الجيوسياسي. ومع أن أوروبا تريد أن تؤدي دوراً في المشهد العالمي، فإن شركاتها لا تتمتع بالحجم أو النفوذ الجيوسياسي المناسبين للتنافس مع نظرائها الأميركية والصينية.
في المقابل، إن معظم التحليلات التي تتناول المنافسة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، عالقة في نموذج سيطرة الدولة، إذ تصور شركات التكنولوجيا الكبرى كأنها مجرد جنود صغار غير مهمين يشاركون في صراع تخوضه دول عدوانية، لكن ليست شركات التكنولوجيا الكبرى مجرد أدوات في أيدي الحكومات. لم يكن هناك في كل ما فعلته تلك الشركات في أعقاب تمرد الكابيتول مثلاً ما يدل على أنها تصرفت بناءً على طلب من الحكومة أو وكالات إنفاذ القانون، إذ جاء ما فعلته نتيجة قرارات خاصة اتخذتها بنفسها بوصفها شركات ربحية تمارس سلطة على الشيفرة (في نظم التشغيل والبرمجيات والتطبيقات، وغيرها)، وخوادم الإنترنت، والنظم الرقمية الخاضعة لسيطرتها. وبصورة متزايدة، تعمل تلك الشركات على تشكيل معالم البيئة العالمية التي تشتغل فيها الحكومات. وتمارس تأثيراً كبيراً على التقنيات والخدمات التي ستقود الثورة الصناعية المقبلة، وتقرر كيفية تخطيط الدول لبناء القوة الاقتصادية والعسكرية، وصياغة معالم مستقبل العمل، وإعادة تعريف العقود الاجتماعية.
لقد حان الوقت للبدء في التفكير بشركات التكنولوجيا الكبرى على أنها شبيهة بالدول، إذ إنها تمارس شكلاً من أشكال السيادة على عالم يتوسع بسرعة، ويتمدد إلى أبعد ما تصل إليه أيدي المشرعين (الذين يصوغون قوانين بشأنه)، ويتمثل ذلك العالم في الفضاء الرقمي، إذ تأتي تلك الشركات بالموارد المستخدمة في المنافسة الجيوسياسية، لكنها تواجه قيوداً تحد من قدرتها على التصرف. وتحتفظ تلك الشركات أيضاً بعلاقات خارجية وتستجيب لجمهور في دوائر عملها، يشمل أصحاب الأسهم، والموظفين، والمستخدمين والمعلنين.
في إطار عام، يعتمد علماء السياسة على مجموعة واسعة من المصطلحات في تصنيف الحكومات، فهناك “ديمقراطيات” و”أنظمة استبدادية” و”أنظمة هجينة” تجمع عناصر من النمطين الآخرين. في المقابل، لا تتوفر لديهم الأدوات المناسبة لفهم شركات التكنولوجيا الكبرى. ولقد آن الأوان كي يبدأوا في تطوير تلك الأدوات، إذ لا تعمل تلك الشركات كلها بالطريقة نفسها. وعلى الرغم من أنها تقاوم، على غرار الدول، التصنيفات الدقيقة، فإن هناك ثلاث قوى واسعة تقود مواقف الشركات التكنولوجية الجيوسياسية ورؤيتها للعالم، تتمثل في العولمة، والقومية والطوباوية التقنية.
وتسلط تلك التصنيفات الضوء على الخيارات التي تواجه أكبر شركات التكنولوجيا أثناء عملها في صوغ الشؤون العالمية. هل سنعيش في عالم تتزايد فيه عملية تفتيت الإنترنت وتخدم فيه الشركات التكنولوجية الكبرى مصالح وأهداف الدول التي تتخذ منها مقراً لها، أو هل ستنتزع شركات التكنولوجيا الكبرى بصورة حاسمة السيطرة على الفضاء الرقمي من الحكومات، فتحرر نفسها من أسر الحدود القومية كي تبرز كقوة عالمية حقاً؟ أم هل يمكن أن تنتهي حقبة هيمنة الدولة أخيراً، كي تحل محلها نخبة تكنولوجية تتولى مسؤولية تقديم المصالح العامة التي كانت الحكومات توفرها ذات يوم؟ من الأفضل للمحللين وصناع السياسات والجمهور أن يفهموا الرؤى المتنافسة التي تحدد كيفية استخدام تلك الأطراف الفاعلة (الشركات التكنولوجية الكبرى) سلطتها الجيوسياسية، لأن التفاعل بينها سيحدد شكل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في القرن الحادي والعشرين.
شركات التكنولوجيا الكبرى تراقبك
من المهم استيعاب طبيعة قوة شركات التكنولوجيا الكبرى تلك لفهم كيف سيدور الصراع بينها وبين الحكومات على النفوذ الجيوسياسي. إن الأدوات الموجودة تحت تصرف تلك الشركات فريدة من نوعها في ميدان الشؤون العالمية، الأمر الذي يجعل الحكومات تواجه صعوبة كبيرة في كبح جماحها. وتذكيراً، إنها ليست المرة الأولى التي تؤدي فيها مؤسسات خاصة دوراً أساسيا ًعلى المستوى الجيوسياسي، فقد فعلت ذلك مثلاً، “شركة الهند الشرقية” و”شركات النفط الكبرى” (الشركات الأضخم في عالم النفط والغاز). في المقابل، لا تقارن الشركات العملاقة الماضية مع شركات التكنولوجيا الكبرى من حيث الحضور العالمي على نطاق واسع. إن استعمال السلطة بعيداً من العيون في الدوائر الداخلية لسماسرة السلطة السياسية هو شيء، والعمل بشكل يؤثر مباشرة في سبل العيش والعلاقات والأمن وحتى أنماط التفكير بالنسبة لمليارات الأشخاص في أنحاء العالم، هو شيء مختلف تماماً.
وفي سياق متصل، تتمتع أكبر شركات التكنولوجيا حالياً بميزتين حاسمتين أتاحتا لها أن تكون نفوذاً جيوسياسياً مستقلاً (عن الدول). أولاً، لا تعمل تلك الشركات أو تستخدم صلاحياتها بشكل حصري في فضاء مادي. لقد أوجدت بعداً جديداً على المستوى الجيوسياسي، هو الفضاء الرقمي الذي تحتفظ فيه بالقدرة على ممارسة تأثير أساسي، إذ يعيش الناس حياتهم على نحو متعاظم في تلك المنطقة الشاسعة التي لا تسيطر عليها الحكومات بشكل كامل، ولا تستطيع أن تفعل ذلك.
وبصورة عملية، يؤثر ما تنطوي عليه تلك الحقيقة في كل جوانب الحياة المدنية والاقتصادية والخاصة. وبمقدار ما يكسب السياسي حاضراً في عديد من الديمقراطيات متابعين له على “فيسبوك” و”تويتر”، تنفتح أمامه الأبواب في الحصول على الأموال والدعم السياسي اللذين يحتاج إليهما للفوز بالمنصب المنشود، بالتالي فإن ذلك هو السبب الذي جعل الإجراءات التي اتخذتها شركات التكنولوجيا في مقاطعة ترمب وتجريده من منبره الرقمي (موقع بارلر) بعد حوادث الشغب في مبنى “كابيتول هيل”، مؤثرة للغاية. وبالنسبة إلى جيل جديد من رواد الأعمال، فإن سوق شركة “أمازون” وخدماتها في استضافة المواقع إلكترونية، ومتجر التطبيقات الرقمية التابع لشركة “أبل”، وأدوات توجيه الإعلانات لدى “فيسبوك”، ومحرك البحث لدى شركة “غوغل”، قد أصبحت كلها أشياء لا غنى عنها في إطلاق عمل تجاري ناجح. حتى إن شركات التكنولوجيا الكبرى تمضي حاضراً في تغيير العلاقات الإنسانية، إذ يتواصل الأشخاص بصورة متعاظمة مع بعضهم بعضاً في حياتهم الخاصة، من خلال الخوارزميات (المعادلات الرياضية التي تحرك شيفرة البرمجيات والتطبيقات الرقمية).
في سياق متصل، لا تمارس شركات التكنولوجيا شكلاً من أشكال السيادة على سلوك المواطنين في المنصات الرقمية وحدها، بل تعمل أيضاً على تشكيل أنماط سلوك وتفاعلات جديدة. هكذا تنقل إشعارات فيسبوك الصغيرة الحمراء رسائل الدوبامين إلى عقلك، وتكمل خوارزميات الذكاء الإصطناعي لدى “غوغل” الجمل أثناء قيامك بكتابتها، وتؤثر أساليب “أمازون” في اختيار المنتجات الظاهرة في الجزء العلوي من الشاشة التي تبحث فيها عن السلع، على قرارك بشراء تلك السلعة أو تلك. وتوجه شركات التكنولوجيا الناس بتلك الطرق إلى كيفية قضاء وقتهم، والفرص الاجتماعية والمهنية التي يجب أن يسعوا إليها، بل في نهاية المطاف، ما يفكرون فيه. وستنمو تلك القوة في الوقت الذي تواصل فيه المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية انتقالها من العالم المادي إلى الفضاء الرقمي.
تتجسد الطريقة الثانية التي تختلف بها شركات التكنولوجيا الكبرى عن الشركات العملاقة التي سبقتها، في تقديمها بشكل متزايد مجموعة كاملة من المنتجات المطلوبة لإدارة مجتمع حديث، بنوعيها الرقمي والخاص بالعالم الواقعي. وعلى الرغم من أن شركات خاصة قد أدت منذ وقت طويل دوراً في توفير الحاجات الأساسية، في مجالات تتراوح بين الطب والطاقة، فإن الاقتصاد الذي ينتقل بسرعة حاضراً إلى الرقمنة يعتمد على مجموعة أكثر تعقيداً من السلع والخدمات وتدفق المعلومات. وفي الوقت الحاضر، تلبي أربع شركات حصراً، هي “علي بابا” و”أمازون” و”غوغل” و”مايكروسوفت”، القسط الأكبر من حاجات العالم في خدمات “حوسبة السحاب” Cloud Computing، والبنى التحتية الأساسية للحوسبة التي أبقت الناس يعملون والأطفال يتعلمون خلال جائحة كورونا. وفي المستقبل، ستعتمد القدرة التنافسية للصناعات التقليدية على مدى فعاليتها في اغتنام الفرص الجديدة التي أوجدتها شبكات الجيل الخامس للخليوي (جي5 5G)، والذكاء الاصطناعي، والانتشار الهائل لـ”إنترنت الأشياء” Internet of Things (مصطلح يشير إلى ربط أشياء الحياة اليومية، كالسيارة والثلاجة والتلفزيون، وحتى الأثاث، بالإنترنت). وفعلياً، ترتكز شركات الإنترنت ومزودو الخدمات المالية بشكل كبير على البنية التحتية التي يوفرها أولئك القادة في مجال الخدمات السحابية. وسرعان ما سيفعل الأمر نفسه أعداداً متزايدة من السيارات وخطوط التجميع (في المصانع) والمدن أيضاً.
تعمل “ألفابيت”، الشركة الأم لمحرك البحث “غوغل”، في مجال الرعاية الصحية، وتطوير الدواء، والمركبات ذاتية القيادة، إلى جانب حيازتها محرك البحث الرائد في العالم كله، والنظام الرائد في تشغيل الهواتف المحمولة الذكية (أندرويد). وتزود شبكات “أمازون” المتوسعة في التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية، ملايين الناس بالسلع الأساسية. وتهيمن شركتا “علي بابا” و”تنسنت” في الصين على أنظمة الدفع، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتدفق الفيديو، والتجارة الإلكترونية، والخدمات اللوجيستية. كذلك تستثمر الشركتان أيضاً في مشاريع مهمة للحكومة الصينية كـ”طريق الحرير الرقمي” Digital Silk Road، الذي يهدف إلى تزويد الأسواق الناشئة بالكأبلات البحرية، وشبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية، والقدرات في تقنية الحوسبة السحابية، والتطبيقات اللازمة في إدارة مجتمع رقمي.
وتتولى شركات التكنولوجيا التابعة للقطاع الخاص مهمة الحفاظ على الأمن القومي التي اعتادت أن تحصر في الحكومات والشركات العاملة في الصناعات العسكرية التي تسـتأجرها الحكومات. وهكذا، حين اخترق القراصنة الروس العام الماضي وكالات حكومية أميركية وشركات خاصة، كانت “مايكروسوفت” أول من اكتشف أولئك المتسللين وأجهض محاولتهم، وليس “وكالة الأمن القومي” أو القيادة الإلكترونية الأميركية. بالطبع، لطالما دعمت الشركات الخاصة أهداف الأمن القومي. وقبل أن تصبح البنوك الكبرى “أكثر ضخامة بكثير من أن تفشل”، استعملت تلك العبارة في توصيف شركة الدفاع الأميركية “مؤسسة لوكهيد” (صار اسمها حالياً “لوكهيد مارتن”)، خلال “الحرب الباردة”. في المقابل، اقتصر عمل “لوكهيد” على صنع طائرات مقاتلة وصواريخ للحكومة الأميركية. لم تكن معنية بتشغيل سلاح الجو أو الحفاظ على أمن الأجواء. في المقابل، تعمل شركات التكنولوجيا الكبرى حاضراً في بناء العمود الفقري للعالم الرقمي وتحفظ أمن ذلك العالم في الوقت نفسه.
في سياق مُوازٍ، إن تفوق شركات التكنولوجيا الكبرى على الدولة القومية ليس حتمياً. وتتخذ الحكومات خطوات ترمي إلى ترويض المجال الرقمي الجامح. ويظهر ذلك من خلال أمثلة منها إجراءات الصين الأخيرة التي تستهدف “علي بابا” و”مجموعة أنت” Ant، ما أدى إلى تعطيل ما كان من شأنه أن يصبح أحد أكبر العروض الأولية العامة في العالم. وكذلك تظهر محاولات الاتحاد الأوربي فرض نظم رقابية على البيانات الشخصية، والذكاء الاصطناعي، وكل ما ينطبق عليه تعريف “حراس البوابة” من شركات التكنولوجيا الكبرى. وعلى نحو مماثل، هنالك مشاريع قوانين مكافحة الاحتكار التي قدمت في مجلس النواب الأميركي، وضغوط الهند المستمرة على شركات الوسائط الاجتماعية الأجنبية. ويدل ذلك كله يدل على أن الصناعة التكنولوجية تواجه ردود فعل سياسية وتنظيمية على جبهات متعددة.
علاوة على ذلك، لا تستطيع شركات التكنولوجيا أن تفصل نفسها عن الفضاء المادي، حيث تبقى تحت رحمة الدول. إن الشيفرة الرقمية التي أوجدتها تلك الشركات للعوالم الافتراضية، محفوظة في مراكز البيانات الواقعة في أراضٍ تسيطر عليها الحكومات. كذلك تخضع تلك الشركات للقوانين الوطنية. ومن الممكن أن تفرض عليها غرامات وعقوبات أخرى، وقد يجري حظر مواقعها الإلكترونية، أو يعتقل مديروها التنفيذيون إذا خرقوا القواعد المرعية في تلك الدول.
وفي المقابل، مع ازدياد تعقيدات التكنولوجيا، تتعرض الدول والمشرعون القانونيون للتقييد على نحو متزايد بسبب امتلاكهم قوانين بالية وقدرات محدودة، إذ يتنامى الفضاء الرقمي على الدوام. ويبلغ عدد مستخدمي الـ”فيسبوك” الناشطين حاضراً نحو ثلاثة مليارات شخص شهرياً. ويشير “غوغل” إلى أنه في كل يوم يستهلك أكثر من مليار ساعة فيديو على “يوتيوب”، منصة الفيديو الخاصة به. وفي 2020، جرى إنشاء ما يزيد على 64 مليار تيرابايت من المعلومات الرقمية وحفظها، ما يكفي لملء نحو 500 مليار هاتف ذكي. وفي مرحلته التالية، سيشهد “فضاء البيانات” سيارات ومصانع ومدن بكاملها موصولة بأسلاك مع أجهزة استشعار متصلة بالإنترنت لتبادل البيانات. ومع اتساع حدود ذلك العالم، تصبح القدرة على التحكم به أكثر مواربة وأبعد من متناول الدول. ونظراً إلى أن شركات التكنولوجيا توفر سلعاً وخدمات رقمية وأخرى من العالم الواقعي، وكلها مهمة، فإن الدول التي لا تستطيع تأمين تلك الأشياء تخاطر بالتسبب في متاعب لنفسها إذا أدت إجراءاتها الصارمة إلى توقف تلك الشركات عن العمل.
ولطالما نشرت الحكومات أنظمة معقدة هدفها رصد الفضاء الرقمي. مثلاً، أوجدت الصين الأداة المسماة “جدار النار العظيم” من أجل السيطرة على المعلومات التي يراها مواطنوها، وكذلك أنشأت وكالات التجسس الأميركية نظام مراقبة “إيشلون” لرصد الاتصالات العالمية، بيد أن أنظمة كتلك لا يمكنها أن تضع كل شيء تحت المراقبة. وتعتبر الغرامات المفروضة على عدم إزالة المحتوى غير القانوني مصدر إزعاج للشركات، لكنها ليست تهديداً وجودياً لها. وتدرك الحكومات أنها يمكن أن تنسف شرعيتها، إذا ذهبت بعيداً (في تقييد تلك الشركات). ومع إمكانية حصول رد فعل قوي على خطوة من ذلك النوع، من المرجح ألا يذهب أبداً رئيس ما، حتى لو كان الروسي فلاديمير بوتين، إلى الحد الذي بلغته بكين في التضييق على إمكانية وصول مواطنيها إلى شبكة الإنترنت العالمية.
واستكمالاً، لا يعني ذلك أن الحب الجارف يغمر شركات التكنولوجيا الكبرى الضخمة، فقد أظهرت استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة حتى قبل اندلاع الجائحة أن ذلك القطاع الذي حظي بالقسط الأكبر من الإعجاب في البلاد ذات يوم، قد أخذ يفقد بعض شعبيته في أوساط الأميركيين. ويؤيد غالبيتهم وضع لوائح تنظيمية أشد صرامة لشركات التكنولوجيا الكبرى، وفق مسح أجرته مؤسسة “غالوب” في فبراير (شباط) 2021. كذلك تراجعت الثقة على المستوى العالمي بتلك الشركات، لا سيما المعنية منها بالوسائط الاجتماعية، تراجعاً كبيراً خلال الجائحة، وفق “مقياس الثقة السنوي” الذي تنشره شركة “إيدلمان” الاستشارية للعلاقات العامة.
في مسار آخر، فحتى لو شكل التشدد في التعامل مع شركات التكنولوجيا الكبرى أحد الأشياء القليلة التي يتفق عليها الديمقراطيون والجمهوريون، فإن حقيقة أنه لم تكن هناك حملة قمع كبيرة حتى الآن، تشكل أمراً له دلالاته. في الولايات المتحدة، من المرجح أن يواصل مزيج من الخلل الوظيفي في مجلس النواب مع قوة جماعات الضغط التي تعمل لمصلحة “وادي السيليكون” (الذي يستضيف مقار الشركات العملاقة في المعلوماتية والاتصالات)، منع ظهور لوائح تنظيمية جديدة موسعة يمكن أن تشكل تهديداً خطيراً للعمالقة الرقميين. في المقابل، إن الأمر مختلف في أوروبا، حيث يؤدي الافتقار إلى صناعة محلية في حوسبة السحاب ومحركات بحث، ومجموعة وسائط التواصل الاجتماعي، إلى تمرير التشريعات الطموحة، بشكل أسهل. والأمر مغاير بالتأكيد أيضاً في الصين، حيث أدت الجولة الأخيرة من الإجراءات الصارمة التنظيمية إلى ترنح أسهم شركات التكنولوجيا من الوزن الثقيل في تلك البلاد، بالتالي، يحاول السياسيون في بروكسل وبكين توجيه قوة شركات التكنولوجيا الكبرى، صوب تحقيق الأولويات الوطنية. وفي المقابل، باعتبار أن تقنية حوسبة السحاب والذكاء الاصطناعي والتقنيات الصاعدة الأخرى، ستصبح أكثر أهمية بالنسبة إلى سبل عيش الناس، وأيضاً في قدرة الدول على توفير حاجات شعوبها الأساسية، فليس من المؤكد على الإطلاق أن السياسيين سينجحون في ذلك.
الدولة تنتقم
لعل أكثر الأسئلة أهمية على المستوى الجيوسياسي اليوم، هو: هل ستتمكن الدول التي تفكك أكبر شركات التكنولوجيا أو تضيق الخناق عليها، من انتهاز الفرص في المرحلة التالية من الثورة الرقمية أيضاً، أم أن جهودها تلك ستؤدي إلى نتائج عكسية؟ يبدو أن الاتحاد الأوروبي الذي شعر بالقلق لأنه لم يمهد الطريق أمام ظهور عمالقة رقميين لديه على غرار ما فعلته الولايات المتحدة والصين، مصمم على اكتشاف الجواب، إذ يقف الاتحاد الأوروبي في طليعة المجتمعات الديمقراطية التي تدفع من أجل ممارسة سيادة أكبر على الفضاء الرقمي. وقد أُقر في 2018 قانون شامل لحماية البيانات يقيد نقل البيانات الشخصية خارج دوله الأعضاء الـ27، ويهدد بفرض عقوبات شديدة على الشركات التي تفشل في حماية المعلومات الحساسة الخاصة بمواطنيه، بالتالي، فمن شأن بروكسل قدماً في صنع حزمة تنظيمية جديدة أن يمنح المفوضية الأوروبية صلاحيات جديدة تخولها فرض غرامات على منصات الإنترنت بسبب بث محتوى غير قانوني، والتحكم في تطبيقات الذكاء الاصطناعي الشديدة الخطورة، وتمكنها بشكل محتمل من القضاء على شركات التكنولوجيا التي يعتبرها بيروقراطيو الاتحاد الأوروبي قوية أكثر مما يجب. وكذلك يدعو الاتحاد الأوروبي ودوله النافذة كفرنسا، إلى وضع سياسات صناعية تتمحور حول التكنولوجيا، ورصد مليارات اليورو من التمويل الحكومي لأجل تحقيق ذلك، بهدف تشجيع مقاربات جديدة في تجميع البيانات والمصادر الحاسوبية. ويتمثل الهدف من ذلك في تطوير بدائل من أكبر المنصات السحابية، وذلك لتوفير أدوات جديدة تستند إلى “القيم الأوروبية”، خلافاً للخيارات الحالية.
يمثل ذلك المسعى الأوروبي مقامرة هائلة، إذ تراهن أوروبا انطلاقاً من موقعها الضعيف، على أنها تستطيع أن تحطم عمالقة التكنولوجيا وتطلق موجة جديدة من الابتكار الأوروبي، لكن قد يتضح أن المنصات التكنولوجية الكبرى هي وحدها التي تستطيع أن تحشد رأس المال، والمواهب، والبنية التحتية اللازمة لتطوير وتشغيل الأنظمة الرقمية التي تعتمد عليها الشركات. وفي تلك الحالة، سيتضح أن أوروبا لم تفعل سوى تعجيل انهيارها الجيوسياسي. وتتوقف النتيجة على مدى قدرة حفنة من المنصات السحابية الواسعة النطاق، مع كل الفرص والتحديات الاقتصادية المرافقة، الاستمرار في دفع الابتكار إلى الأمام، أو إذا كانت مجموعة من الشركات العاملة تحت إشراف حكومي أكبر ستتمكن من إنتاج بنية تحتية رقمية متطورة تستطيع خوض المنافسة على مستوى العالم.
وفي إطار عام، من المكلف إنشاء فضاء رقمي وصيانته على نطاق واسع ومكثف. وقد استثمرت “ألفابيت”، و”أمازون”، و”أبل”، و”فيسبوك” و”مايكروسوفت” معاً سنة 2019 نحو 109 مليارات دولار (79.02 مليار جنيه استرليني) في البحث والتطوير. ويعادل ذلك بشكل تقريبي إجمالي الإنفاق الخاص والعام على البحث والتطوير في ألمانيا خلال الفترة نفسها، وأكثر من ضعفي المبلغ الذي صرف في تلك السنة من قبل حكومة المملكة المتحدة والقطاع الخاص فيها معاً لتلك الغاية. وإذا كانت الدول الأوروبية تريد التمتع بسيطرة أكبر على قطاع التكنولوجيا، فسيتوجب عليها أن تستثمر مبالغ أكبر بكثير. ولكن، حتى إذا كانت الحكومات مستعدة لتمويل القدرات الرقمية بنفسها، فإن المال يشكل مجرد جزء من الصورة الكاملة. ومن المحتمل أن تجد الحكومات نفسها مضطرة إلى أن تكافح الحكومات من أجل توفير المواهب الهندسية وغيرها من الكفاءات اللازمة لتصميم وصيانة وتشغيل وتنمية البنية التحتية السحابية المعقدة، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي والأنظمة الأخرى التي تجعل تلك التقنيات تعمل على نطاق واسع.
في نفس مماثل، يتطلب تحقيق الريادة العالمية والحفاظ عليها في مجالات مثل الحوسبة السحابية أو أشباه الموصلات، استثمارات ضخمة ومستمرة في رأس المال النقدي والبشري. ويحتاج أيضاً إلى علاقات وثيقة مع العملاء والشركاء الآخرين من خلال سلاسل توريد معقدة على مستوى العالم. ويمكن للمصنع الواحد الحديث لأشباه الموصلات أن يكلف هذه الأيام ما يزيد على 15 مليار دولار (10. 87 مليار جنيه استرليني)، كما تستلزم عمليات إنشاء تلك المصانع وتشغيلها جحافل من المهندسين المدربين تدريباً رفيعاً. يستطيع مزودو الخدمات السحابية البارزون أن يستثمروا مليارات الدولارات في البحث والتطوير كل سنة، لأنهم يعملون على الدوام بقصد تحسين نوعية منتجاتهم كي تتماشى مع حاجات العملاء، وكذلك يعيدون باستمرار رصد أرباحهم لأغراض البحث. في المقابل، فسوف تكافح وتجهد الحكومات، وحتى مجموعات الشركات الصغيرة التي تعمل معاً، من أجل جمع الموارد اللازمة في توفير تلك التقنيات على المستوى المطلوب لتشغيل الاقتصاد العالمي. ويعول “الحزب الشيوعي الصيني”، حتى في تلك البلاد التي لا تخشى فيها الحكومة من استغلال سلطتها، على أكبر شركات التكنولوجيا التابعة للقطاع الخاص كي تقوم بالمهام الصعبة، في سياق سعيه إلى بناء مجتمع ثري ومتقدم رقمياً، بالتالي سيختبر العقد المقبل ما الذي سيحدث حينما تتلاقى سياسات الفضاءين الرقمي والمادي. وتستعد الحكومات وشركات التكنولوجيا للتنافس على النفوذ في هذين العالمين، ولذا تبرز الحاجة إلى وجود إطار عمل أفضل بغية فهم طبيعة أهداف الشركات وكيف تتفاعل قوتها مع قوة الحكومات في المجالين كليهما.
الصراع داخل شركات التكنولوجيا الكبرى
لا تقل توجهات شركات التكنولوجيا تنوعاً عن اتجاهات الدول التي تتنافس معها. وغالباً ما تتعايش عناصر العولمة والقومية والطوباوية التقنية معاً ضمن الشركة نفسها. ويعني ذلك أن نوعية الرؤية التي تسود فيها ستؤدي إلى تداعيات بالنسبة إلى المجتمع والسياسات العالمية.
ويأتي أولاً، أنصار العولمة متمثلين في شركات تبني إمبراطورياتها على مستوى عالمي بحق، إذ تخلق تلك الشركات، بما فيها “أبل” و”فيسبوك”، فضاء رقمياً وتشغله، مايسمح بعدم حصر وجود أعمالها أو تدفقات مواردها، في جزء بعينه من المدى المادي. وتزداد قوة تلك الشركات مع اقتناعها بفكرة سمحت لها بالهيمنة على موقع يملك قيمة اقتصادية، ثم الانطلاق بأعمالها إلى جميع أنحاء العالم.
واستطراداً، لقد تربعت شركات كـ”علي بابا” و”بايتدانس” وتينسنت” على قمة سوق الصين المحلية الهائلة، قبل أن تضع النمو على مستوى عالمي نصب عينيها. في المقابل، تمثلت تلك الفكرة دائماً في إنشاء متاجر في أكبر عدد ممكن من البلدان، واحترام القواعد واللوائح التنظيمية المحلية بحسب ما يقتضي الأمر، والمنافسة بضراوة. لقد استفادت أيضاً بكل تأكيد من الدعم مالياً وسياسياً، اللذين قدمتهما بكين، بيد أن ما يدفع عجلة الابتكار في تلك الشركات إلى الأمام، يتجسد في نهج شرس مستند إلى الربح، بغية التوسع عالمياً.
وثانياً، يظهر الأبطال القوميون الذين هم أكثر استعداداً لمواءمة أنفسهم بشكل صريح، مع أولويات حكوماتهم المحلية. وتنشئ تلك المؤسسات شراكات مع الحكومات في مجالات عدة مهمة، بما فيها تقنية حوسبة السحاب، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني. وكذلك تؤمن عائدات هائلة من خلال بيع منتجاتها إلى الحكومات، وتستخدم خبراتها كي تساعد المساعدة في توجيه الإجراءات الحكومية في المجالات نفسها. وتوجد الشركات الأقرب إلى نموذج البطل الوطني في الصين، حيث تواجه الشركات منذ وقت طويل، ضغوطاً كي تحقق أهدافاً قومية. وتعتبر شركتا “هواوي” و”سميك” من أبطال الصين القوميين الأساسيين في مجال شبكات “جي 5” وأشباه الموصلات. وفي 2017، أطلق الرئيس الصيني شي جينبينغ على “علي بابا”، و”تينسنت”، وكذلك محرك البحث “بايدو” وشركة “آي فلاي تيك” للتعرف على الصوت، معاً “الفريق الوطني للذكاء الاصطناعي” في الصين، ما منح كل من تلك الشركات دوراً بارزاً في بناء أجزاء من مستقبل الصين الذي سيمده الذكاء الاصطناعي بالطاقة اللازمة للعمل.
وقد عمدت الصين ربما أكثر من أي دولة أخرى، إلى الاستعانة بعمالقة التكنولوجيا لديها أثناء الوباء، إذ اعتمدت بشدة على الخدمات الرقمية، بما فيها مؤتمرات الفيديو والتطبيب من بعد، حتى إنها استخدمت تلك الشركات في فرض إغلاقات وقيود سفر أخرى، في وقت شددت فيه الجائحة قبضتها على العالم. كذلك جندت شركات التكنولوجيا الصينية أيضاً لإدارة عمليات إعادة فتح البلاد من خلال توفيرها (الشركات) جواز سفر صحياً رقمياً، والتعامل على أساس “دبلوماسية الكمامة” من طريق شحن الإمدادات الطبية إلى دول فقيرة تكون في أمس الحاجة إليها، من أجل تعزيز قوة الصين الناعمة.
وحاضراً، تشعر حتى الشركات الأميركية المعولمة بجاذبية نموذج البطل القومي. إن دور “مايكروسوفت” المتنامي في مراقبة الفضاء الرقمي بالنيابة عن الولايات المتحدة وحليفاتها من الدول الديمقراطية، واستهداف المعلومات المضللة التي تنشرها أطراف حكومية (خصوصاً الصين وروسيا) وعصابات الجريمة الدولية، يمضي بها (ذلك الدور) في هذا الاتجاه. وكذلك تتنافس “أمازون” و”مايكروسوفت” أيضاً على توفير البنية التحتية في الحوسبة السحابية للحكومة الأميركية. ويندرج في الإطار نفسه، آندي جاسي، الرئيس التنفيذي الجديد لشركة “أمازون” الذي أدار سابقاً أعمالها السحابية، وعمل عضواً في “لجنة الأمن القومي حول الذكاء الاصطناعي”، وهي هيئة استشارية رفيعة المستوى نشرت تقريراً رئيساً في وقت سابق من عام الحالي امتلك تأثيراً قوياً على تطور استراتيجية الذكاء الاصطناعي الوطنية في الولايات المتحدة.
في سياق مُوازٍ، تصطدم قوى العولمة والقومية في بعض الأحيان مع معسكر ثالث يضم الطوباويين التقنيين. ويرأس عدد من أصحاب الرؤى الذين يتمتعون بالكاريزمية، بعض أقوى شركات التكنولوجيا في العالم. وينظر أولئك إلى التكنولوجيا ليس كمجرد مصدر لفرص الأعمال على نطاق عالمي، بل أيضاً كقوة ثورية كامنة في الشؤون الإنسانية. وعلى العكس من المجموعتين الأخريين، يتمحور ذلك المعسكر حول شخصيات وطموحات الرؤوساء التنفيذيين لشركات التكنولوجيا، بدلاً من تمحوره حول العمليات التي تؤديها الشركات بذاتها. وفي حين يريد دعاة العولمة من الدولة أن تتركهم وشأنهم وتحافظ على ظروف مُواتيه لتجارة عالمية، ويرى الأبطال القوميون فرصة سانحة كي يصيروا أغنياء عن طريق الدولة، يتطلع الطوبايون التقنيون إلى مستقبل يكون فيه نموذج الدولة القومية الذي هيمن على المستوى الجيوسياسي منذ القرن السابع عشر، قد أخلى مكانه لشيء مختلف تماماً.
يعتبر إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة “تيسلا”، وسبيس إكس، المثال الأكثر شهرة (للطوباويين التقنيين) نظراً لطموحه العلني إلى إعادة اختراع وسائل النقل، وربط أجهزة الكمبيوتر بأدمغة البشر وجعل الإنسانية “نوعاً متعدد الكواكب” من خلال استعمار المريخ. نعم، إنه يقدم لحكومة الولايات المتحدة قدرة إضافية في الارتقاء إلى الفضاء (إشارة إلى انخراط شركته “سبايس إكس” في صنع صواريخ فضاء قابلة لإعادة الاستخدام)، لكنه يركز بشكل أساسي على السيطرة على المدار الفضائي القريب وخلق مستقبل يمكن لشركات التكنولوجيا فيه أن تساعد المجتمعات على التطور إلى مستوى يتجاوز مفهوم الدول القومية. في سياق مُوازٍ، يملك مارك زوكربرغ، الرئيس التنفيذي لشركة “فيسبوك”، ميولاً مشابهه (لإيلون ماسك) حتى لو أصبح أكثر انفتاحاً حيال اللوائح الحكومية المتعلقة بالمحتوى الإلكتروني. وبذا، بدا ضرورياً تقليص “دايم”، وهي عملة رقمية يدعمها “فيسبوك”، بشكل دراماتيكي بعد أن أثار المنظمون الماليون مخاوف بشأنها على مستوى العالم. وبفضل هيمنة الدولار الأميركي، تبقي الحكومات قبضتها مشددة بشكل أقوى بكثير على التمويل منها على المجالات الأخرى في الفضاء الرقمي.
لكن، قد لا يبقى الحال على تلك الشاكلة فترة طويلة إذا نجح فيتاليك بوتيرين ورواد الأعمال الذين يبنون على أساس فضاء منظومته “إيثريوم”، في الوصول إلى غاياتهم، إذ تمثل “إيثريوم” عملة تستند إلى تقنية “بلوكتشين” Block Chain (تقنية في التشفير تعمد على الرياضيات المعقدة ومساهمة المستخدمين فيها)، وتحل ثانية في الرواج عالمياً بعد عملة “بيتكوين”. وكذلك تبرز “إيثريوم” بشكل سريع كبنية تحتية أساسية تدعم جيلاً جديداً من تطبيقات الإنترنت اللامركزية. وقد تمثل تحدياً أكبر لسلطة الدولة مما شكلته عملة “دايم”. ويشتمل تصميم “إيثريوم” على عقود ذكية، تمكن أطراف تعامل ما من تضمين شروط ممارسة الأعمال التجارية في شيفرة حاسوبية يصعب تغييرها. وقد استغل رواد الأعمال تلك التكنولوجيا والصخب الذي يحيط بها من أجل طبخ أعمال جديدة، بما في ذلك أسواق الرهان، والمشتقات المالية، وأنظمة الدفع التي يكاد يكون من المستحيل تغييرها أو إلغاؤها عقب مجرد إطلاقها.
وعلى الرغم من أن كثيراً من ذلك الابتكار بقي حتى الآن في المجال المالي، يعتقد بعض المؤيدين أن تقنية “بلوكتشين” والتطبيقات اللامركزية ستكون مفاتيح البدء في القفزة الكبيرة التالية للدفع بالشبكة الإلكترونية الإلكتروني إلى الأمام. ويشير ذلك إلى الـ”ميتافيرس” Metaverse، وهو مكان سيسهم فيه الواقع المعزز والافتراضي، والجيل الثاني من شبكات البيانات، وأنظمة التمويل والدفع اللامركزية، وتكون كلها معاً في عالم رقمي أكثر واقعية واندماجية، بالتالي يمكن للناس في “ميتافيرس” أن يتواصلوا معاً اجتماعياً ويعملوا ويتاجروا بالسلع الرقمية.
في ملمح متصل، لا يزال لدى الصين بعض أنصار العولمة والأبطال القوميين، وإن كانوا يميلون إلى تأييد نموذج سيطرة الدولة أكثر من نظرائهم في الولايات المتحدة، لكن لم يعد لديها طوباويون تقنيون. لقد عمد الحزب الشيوعي الصيني ذات مرة إلى تمجيد جاك ما، المؤسس المشارك في شركة “علي بابا”، ويعتبر أبرز رواد الأعمال في الصين. وقد أحدث جاك ما ثورة في كيفية شراء الناس السلع وبيعهم لها، كذلك حاول صنع نموذج جديد من “منظمة التجارة العالمية” بغية تسهيل وتشجيع التجارة العالمية بشكل مباشر. على نحو مغاير، قرر “الحزب الشيوعي الصيني” تقييد حريته بعد أن ألقى كلمة في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 انتقد فيها المنظمين الماليين، معتبراً أنهم كانوا يخنقون الابتكار. وقد أحكمت بكين الآن قبضتها على جاك ما و”علي بابا”. ومن شأن تلك الحكاية أن تحذر أي طوباوي تقني محتمل في الصين/ من التفكير في تحدي الدولة.
وعلى الرغم من ذلك، تعتمد الصين على البنية التحتية التي يوفرها أمثال جاك ما من أجل تعزيز الإنتاجية ومستويات المعيشة، بالتالي ضمان استمرارية “الحزب الشيوعي الصيني” على المدى الطويل. وتعمل سلطوية الصين على تمكينها من أن تكون أكثر حزماً في تنظيم الفضاء الرقمي والشركات التي بنته وتعمل على صيانته. وفي نهاية المطاف، تواجه بكين المقايضات نفسها التي واجهتها واشنطن وبروكسل. فإذا شددت قبضتها أكثر ستغامر بإلحاق الضرر بنفسها من خلال خنق الابتكار في البلاد .
مستقبلنا الرقمي
بينما تتفاوض شركات التكنولوجيا والحكومات للسيطرة على الفضاء الرقمي، سيعمل عمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة والصين ضمن واحدة من ثلاث بيئات جيوسياسية. في البيئة الأولى، تسود الدولة، وتكافئ الأبطال القوميين. وفي الثانية، تنتزع المؤسسات السيطرة على الفضاء الرقمي من الدولة، ما يؤدي إلى تمكين دعاة العولمة. وفي الثالثة، تضمحل الدولة فيرتفع شأن الطوباويين التقنيين. واستطراداً، في السيناريو الأول، يفوز الأبطال القوميون، وتبقى الدولة هي المزود المهيمن للأمن، والتنظيم، والسلع العامة. وتترسخ سلطة الحكومة كقوة وحيدة يمكنها أن تحل التحديات العالمية. ويعود ذلك إلى الصدمات التي تصيب الأنظمة ككل، على غرار جائحة “كوفيد-19″، وكذلك التهديدات الطويلة الأمد كتغير المناخ، مضافاً إليها رد الفعل عام ضد قوة شركات التكنولوجيا، بالتالي يشكل دفع الحزبين في اتجاه التنظيم الرقابي داخل الولايات المتحدة، مكافأة للشركات “الوطنية” التي تنشر مواردها من أجل دعم الأهداف القومية. وكذلك تأمل الحكومة بأن تتعزز شرعيتها في عيون ناخبي الطبقة الوسطى بفضل جيل جديد من الخدمات التي تصبح ممكنة بسبب التكنولوجيا، وتتعلق بالتعليم والرعاية الصحية وعناصر أخرى في العقد الاجتماعي. واستطراداً، تضاعف بكين وحكومات استبدادية أخرى جهودها في إعداد أبطالها القوميين، وتضغط بشدة من أجل الاكتفاء الذاتي، في وقت تتنافس فيه على النفوذ في أسواق متأرجحة عالمياً، كالبرازيل والهند وجنوب شرقي آسيا. وبذا، يصبح القطاع الخاص للتكنولوجيا في الصين أقل استقلالية، ولا تعود شركاته التكنولوجية حريصة على طرح أسهمها للاكتتاب عام في بورصات دولية.
واستكمالاً، سيجد حلفاء الولايات المتحدة وشركائها صعوبة في موازنة الروابط التي تجمعهم مع واشنطن وبكين. في ذلك الملمح، تظهر أوروبا بوصفها الخاسر الأكبر لأنها لا تملك شركات تكنولوجية تتمتع بالقدرة المالية أو الإمكانات التكنولوجية في مواجهة ما تملكه القوتان الرئيستان (الولايات المتحدة والصين) من تلك القدرات. ومع تلاشي اندفاعة الاتحاد الأوروبي نحو السيادة الرقمية، وتحول الأمن القومي في الفضاء التكنولوجي إلى أولوية مهيمنة بفعل حرب باردة بين الولايات المتحدة والصين، لا يملك قطاع التكنولوجيا في أوروبا خياراً سوى اتباع أجندة واشنطن.
ومع فك الارتباط بين الولايات المتحدة والصين، تصل مكافآت إلى الشركات التي يمكنها إعادة طرح نفسها كأبطال قوميين، إذ تعمل واشنطن وبكين على ضخ الموارد إلى شركات التكنولوجيا بهدف جعلها تتواءم مع الأهداف القومية في كل منهما. وفي تلك الأثناء تجعل الطبيعة المفككة أكثر فأكثر للإنترنت، العمل على مستوى عالمي صعباً بصورة متعاظمة فعلاً، ذلك إنه حين تعجز البيانات، أو البرامج، أو التكنولوجيا المتطورة في أشباه الموصلات، عن التحرك عبر الحدود بسبب الحواجز القانونية والسياسية، أو عندما تصنع أجهزة الكومبيوتر أو الهواتف التي تصنعها شركات أميركية وصينية، التحدث مع بعضها بعضاً، فمن شأن تلك الأمور أن ترفع التكاليف والمخاطر التنظيمية التي تواجهها الشركات.
من زاوية أخرى، قد لا يكون صعباً على “أمازون” و”مايكروسوفت” أن تتأقلما مع ذلك النظام الجديد، باعتبار أنهما تستجيبان فعلياً إلى الضغوط المتنامية من أجل دعم مقتضيات الأمن القومي. وتتنافس الشركتان فعلاً على تقديم خدمات سحابية لحكومة الولايات المتحدة ووكالات الاستخبارات فيها. وعلى نحو مماثل، قد تجد “أبل” و”غوغل” العمل مع الحكومة الأميركية أكثر إزعاجاً، ذلك أن “أبل” قد رفضت طلبات جاءتها من الحكومة لإختراق الهواتف الذكية المشفرة، فيما انسحبت “غوغل” من مشروع مع البنتاغون يتعلق بالتعرف على الصور. ولعل “فيسبوك” سيمر بأصعب التجارب من خلال المناورة في مشهد يفضله الأبطال القوميون، ذا بدا وكأنه يوفر منصة للمعلومات المضللة الأجنبية من دون أن يقدم أيضاً أشياء ثمينة تفيد الحكومة كالحوسبة السحابية أو تطبيقات الذكاء الاصطناعي العسكرية.
سيكون ذلك عالماً أشد تقلباً من الناحية الجيوسياسية، مع وجود مخاطر أكبر لحصول تشعب تكنولوجي واستراتيجي. وستكون تايوان مصدر قلق أساسياً للولايات المتحدة. في غضون ذلك، تواصل الشركات الصينية اعتمادها على “الشركة التايوانية في صناعة أشباه الموصلات”، وهي مورد رئيس للرقاقات الإلكترونية المتطورة. إن واشنطن تتحرك فعلاً بهدف عزل شركات التكنولوجيا الصينية الرائدة عن تايوان و”الشركة التايوانية في صناعة أشباه الموصلات”، ما يعزز الانطباع في بكين بأن تايوان تجر حالياً كي تدور بشكل أعمق في فلك الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنه لا يزال من المستبعد أن تغزو الصين تايوان بسبب أشباه الموصلات وحدها، فإن احتمال اندلاع صراع عسكري مع الولايات المتحدة يمكن تصعيده بعيداً من تايوان سيكون كبير للغاية، والضرر الذي سيلحقه بمكانة الصين العالمية ومناخ الأعمال التجارية سيكون جسيماً جداً. في المقابل، يبقى ذلك الأمر مخاطرة من المحتمل أن تكون قوية، لكنها متدنية (في فرص وقوعها).
وفي سياق مُوازٍ، من شأن وجود عالم من الأبطال القوميين أن يعوق التعاون الدولي اللازم لمعالجة الأزمات العالمية، سواء أكانت جائحة داء أكثر فتكاً بالبشر من كورونا، أو ارتفاعاً حاداً مفاجئاً في الهجرة العالمية الناجمة عن تغير المناخ. وسيكون من السخرية بمكان أن تجعل “القومية التكنولوجية” من الصعب على الحكومات معالجة مثل تلك المشاكل، باعتبار أن دور أزمات من ذلك النوع يتمثل في تعزيز مكانة الدولة كملاذ أخير في المقام الأول.
في زاوية مقابلة، يتضمن السيناريو الثاني أن تصمد الدولة، لكن ضمن وضع ضعيف، ما يمهد الطريق أمام صعود أنصار العولمة. ولأن المشرعين غير قادرين على مواكبة الابتكارات التكنولوجية، فإنهم سيقبلون أن تتشارك الحكومة السيادة على الفضاء الرقمي مع شركات التكنولوجيا. هكذا تتغلب شركات التكنولوجيا الكبرى على القيود التي يمكن أن تحد من تمدد عملياتها في دول خارجية، وتجادل بأن خسارة فرص السوق من شأنها أن تلحق الأذى بالابتكار، وستضر في نهاية الأمر بقدرة الحكومة على خلق وظائف ومواجهة التحديات العالمية. وبدلاً من قبول الحرب الباردة التكنولوجية، ستمارس الشركات ضغوطاً على الحكومات من أجل قبول مجموعة من القواعد العامة التي تحافظ على السوق العالمية للأجهزة والبرامج والبيانات.
وفي ذلك الإطار، من المستطاع القول إن “أبل” و”غوغل” ستكونان الأكثر استفادة من تلك النتيجة. وعوضاً عن الاضطرار إلى الاختيار بين الإنترنت الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة أو الصين، يمكن أن تستمر “أبل” في تقديم منظومتها البيئية الفريدة من نوعها بأنها تلبي حاجات النخبة في “سان فرانسيسكو” و”شنغهاي”. وسيزدهر نموذج الإيرادات الضخمة الإعلاني لدى “غوغل” لأن الناس في الدول الديمقراطية والاستبدادية على حد سواء يستهلكون المنتجات والخدمات العامة التي أدت إلى تسليع كل جزء من البيانات الشخصية.
وفي نفس مماثل، من شان انتصار العولمة أن يساعد أيضاً “علي بابا” التي تستضيف أكبر مواقع للتجارة الإلكترونية في العالم. وكذلك سيكون موقع “بايتدانس” الذي ساعده تطبيقه الخاص “تيك توك” لمشاركة أشرطة الفيديو وصناعتها، على تحقيق قيمة تزيد على 140 مليار دولار (101.64 مليار جنيه استرليني)، سيكون حراً في توفير أشرطة الفيديو التي تنتشر انتشار النار في الهشيم عبر جمهور عالمي، ما يؤدي إلى زيادة خوارزميات الذكاء الاصطناعي وإيراداتها العالمية. وتمثل “تينسنت” أيضاً شركة معولمة، لكنها تتعاون بشكل أعمق مما تفعله شركة “علي بابا” مع أجهزة الأمن الداخلي في الصين. وستجد “تينسنت” أنه من الأسهل عليها أن تتوجه نحو نموذج البطل القومي، مع اشتداد المنافسة الأيديولوجية بين واشنطن وبكين.
واستكمالاً، يحتاج دُعاة العولمة إلى الاستقرار كي ينجحوا في العقد المقبل. وتتمثل أسوأ كوابيسهم في استمرار الانفصال بين الولايات المتحدة والصين، الأمر الذي سيجبرهم على الاختيار بين طرفي حرب اقتصادية ستؤدي إلى إقامة الحواجز في طريق محاولاتهم عولمة أعمالهم التجارية. وستتحسن حظوظهم إذا قررت واشنطن وبكين أن الإفراط في التنظيم الرقابي ينطوي على المغامرة في تقويض الابتكار الذي يدفع عجلة اقتصاديهما إلى الأمام. واستطراداً، يعني ذلك بالنسبة إلى واشنطن، التراجع عن سياسة صناعية مصممة كي تقنع الشركات بأنها قادرة على الازدهار كأبطال قوميين. وفي المقابل، يعني الأمر نفسه بالنسبة إلى بكين الحفاظ على استقلال القطاع الخاص واستقلاليته.
وفي ذلك الإطار، إن عالماً يسود فيه دُعاة العولمة من شأنه أن يمنح أوروبا فرصاً لإعادة تأكيد نفسها كلاعب بيروقراطي ذكي قادر على تصميم القواعد التي تتيح لشركات التكنولوجيا والحكومات أن تتشارك السيادة في الفضاء الرقمي. ستبقى واشنطن وبكين القوتين العالميتين المهيمنتين، بيد أن فشل دفع السياسة الصناعية الخاصة بأميركا، وسعي الصين إلى ترقية أبطال قوميين، قد يخفف قبضة القوتين على الصعيد الجيوسياسي، ويزيد الطلب على الحوكمة العالمية، ويخلق مزيداً من الفرص في وضع قواعد عالمية. وبالاختصار، سيكون ذلك عالم تعاني فيه إلى حد ما الحكومتان الأميركية والصينية من الضعف، إلا أنه يوفر لكل من هذين البلدين فرصهما الأفضل في لتعاون على مواجهة التحديات العالمية الملحة.
وفي السيناريو الأخير، يتحقق تآكل الدولة الذي كثيراً ما جرى توقعه. ويستفيد الطوباويون التقنيون من خيبة الأمل المنتشرة على نطاق واسع من الحكومات التي أخفقت في تحقيق الرخاء والاستقرار، فيندفع المواطنون إلى الاقتصاد الرقمي الذي يفقد الدولة دورها كوسيط. وتتآكل الثقة بالدولار كعملة احتياطية عالمية، أو تنهار. وتثبت العملات المشفرة أنها أكثر صعوبة بكثير من أن يسيطر عليها المشرعون وواضعو القوانين، فتحظى بقبول واسع، الأمر الذي يقوض سيطرة الحكومات على العالم المالي، بالتالي يؤدي تحلل السلطة المركزية واضمحلالها إلى جعل العالم أقل قدرة على مواجهة التحديات العابرة للحدود. وبالنسبة إلى أصحاب الرؤى التكنولوجية من ذوي الطموحات العالية والموارد المتناسبة معها، تصبح مسألة الوطنية موضع نقاش. وكذلك يؤدي إيلون ماسك دوراً أكبر مما مضى في تقرير كيفية استكشاف الفضاء. ويحل “فيسبوك” محل الساحة العامة والمجتمع المدني، وشبكة الأمان الاجتماعي، فيكون عملة مستندة على الـ”بلوكتشين” تصبح قيد الاستخدام على نطاق واسع.
وبالنتيجة، من أصعب الأمور استخراج المضامين التي ينطوي عليها عالم يتخذ فيه الطوبايون التقنيوين القرارت. ويعود ذلك جزئياً إلى أن الناس قد اعتادوا تماماً على التفكير بالدولة على أنها اللاعب الرئيس لجهة حل المشاكل. ولن تستسلم الحكومات من دون مقاومة. ولن يطلق تآكل سلطة حكومة الولايات المتحدة العنان للطوباويين التكنولوجيين. وستحتاج الحكومة الصينية (كي تتآكل) أيضاً إلى معاناة الانهيار في مصداقيتها محلياً. وكلما قل اعتراض تلك الحكومة طريق الطوباويين التكنولوجيين، أضحوا أكثر قدرة على صوغ تطور نظام عالمي جديد، إن خيراً أو شراً.
عالم رقمي شجاع
قبل جيل مضى، تمثلت الفرضية التأسيسية للإنترنت في أنها ستسرع العولمة التي أدت إلى تغيير الاقتصاد والسياسة في تسعينيات القرن العشرين. ولقد حلم كثيرون بأن يتمكن العصر الرقمي من تعزيز التدفق غير المقيد للمعلومات، بالتالي تحدي قبضة المستبدين العنيدين الذين يقاومون التغيير لاعتقادهم بأنهم يستطيعون الهروب مما يسمى نهاية التاريخ. وباتت تلك الصورة مختلفة اليوم، ذلك أن تركيز للسلطة في قبضة قلة من شركات التكنولوجيا الضخمة للغاية، والتدخلات التنافسية للولايات المتحدة والصين، وكتل القوة المتمركزة في الاتحاد الأوروبي، قد أدت إلى مشهد رقمي أكثر تشتتاً، بالتالي لن تكون التداعيات بالنسبة إلى مستقبل النظام العالمي أقل عمقاً. وفي الوقت الحالي، تعمل الشركات الأضخم عالمياً في التكنولوجيا على تقييم أفضل السبل للتموضع، فيما تنهمك واشنطن وبكين كلياً في الاستعداد لمنافستهما المطولة.
في ذلك الإطار، تعتقد الولايات المتحدة أن واجبها الجيوسياسي الأول يقتضي أن تمنع منافسها الطوباوي التكنولوجي من إزاحتها (عن موقعها القيادي عالمياً). وتأتي على رأس أولويات الصين، القدرة على ضمان أن تستطيع الوقوف على قدميها اقتصادياً وتكنولوجياً قبل أن يتعرض توسعها الإضافي للخنق على أيدي تحالف ديمقراطيات صناعية متقدمة. وستخطو شركات التكنولوجيا الكبرى بحذر بهدف ضمان عدم مفاقمة إحساس الحكومات بانعدام الأمان جراء فقدان السلطة.
وفي المقابل، مع الإمعان في ترسيخ المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، ستمارس تلك الشركات تأثيرها بطريقة أكثر استباقية. وإذا استطاعت أن تثبت نفسها بوصفها “شركات لاغنى عنها”، أي إلى حد بعيد وفق ما تعتبر الولايات المتحدة نفسها “أمة لا غنى عنها”، فإن الأبطال القوميين سيدفعون من أجل دعم حكومي أكبر ومعاملة تفضيلية لهم على منافسيهم. وسيضغطون أيضاً بهدف مزيد من الفصل (بينهم وبين العولمة التقنية والطوباويين التقنيين)، متذرعين بأن عملهم الحيوي يحتاج إلى أقصى قدر من الحماية حيال القرصنة العدائية.
في المقابل، سيجادل دُعاة العولمة بأن الحكومات ستكون عاجزة عن الحفاظ على القدرة التنافسية الاقتصادية والتكنولوجية على المدى الطويل إذا انتقل تركيزها إلى الداخل، وتبنت عقلية انعزالية شوفينية (متطرفة في القومية). وسيلاحظ أنصار العولمة الأميركيون أن كبريات الشركات الأوروبية والآسيوية، تعزز حضورها في الصين ضمن خطوة بعيدة تماماً عن الخروج من تلك الدولة. واستطراداً، يعني ذلك أن واشنطن ستلحق الضرر بنفسها بالتحديد من خلال إجبار الشركات الأميركية على الانسحاب من أكبر الأسواق الاستهلاكية في العالم. ولاستباق الاتهام من قبل الحكومة بأنها (الشركات الكبرى) تعطي الأولوية لخلاصاتها ومردوداتها على حساب الأمن القومي، ستحاجج الشركات بأن مستويات أعمق من الفصل (بين العولمة التقنية والأبطال القوميين) ستمنع التعاون بين الولايات المتحدة والصين بشأن التحديات الملحة العابرة للقوميات على غرار الجائحات الفتاكة والتغير المناخي. ومن زاوية مقابلة، سيقول أنصار العولمة الصينيون إن قدرة “الحزب الشيوعي الصيني” على مواصلة النمو النشط، بالتالي الإبقاء على شرعيته المحلية، ستعتمد على مدى قدرة الصين في ترسيخ مكانتها كمركز للابتكار العالمي.
إذاً، ماذا عن الطوباويين التكنولوجيين؟ سيكون من دواعي سرورهم أن يعملوا بهدوء، فيما هم يترقبون فرصتهم. وفي حين يتعارك الأبطال القوميون وأنصار العولمة حول من سيصوغ سياسة الحكومة، يعكف الطوباويون التكنولوجيون على استخدام الشركات التقليدية والمشاريع اللامركزية من شاكلة “إيثريوم”، كي يستكشفوا آفاقاً جديدة في الفضاء الرقمي كـ”ميتافيرس”، أو مقاربات جديدة في تقديم الخدمات الأساسية. وكذلك سيتحدثون بنبرة وفاقية حين تجرهم حكومة الولايات المتحدة للمثول أمام الكونغرس من حين إلى آخر، على عادتها، كي تندد بأنانيتهم وقوتهم، في الوقت الذي يتخذون أدنى قدر من الخطوات الرامية إلى ترضية صناع السياسة. وفي المقابل، فسيعمل الطوباويون التقنيون على توظيف جهود ضغط عدوانية لإجهاض أي محاولة من جانب واشنطن ترمي إلى تركيعهم.
وفي المقابل، لا يعني ذلك أن المجتمعات تتجه نحو مستقبل سيشهد زوال الدولة القومية ونهاية الحكومات وتلاشي الحدود. ليس هناك من سبب للاعتقاد أنه من المرجح أن تتحقق تلك التوقعات اليوم بأكثر من إمكانية حصولها في تسعينيات القرن العشرين. وببساطة، لم يعد ممكناً الحديث عن شركات التكنولوجيا الكبرى كما لو أنها بيادق يستطيع أسيادها الحكوميون أن يحركوها على رقعة الشطرنج الجيوسياسي. لقد صارت تلك الشركات في شكل متزايد، من الأطراف الجيوسياسية الفاعلة، بنفسها ولنفسها. وفي الوقت الذي تؤدي المنافسة بين الولايات المتحدة والصين دوراً مهيمناً بصورة متزايدة في الشؤون العالمية، ستكسب شركات التكنولوجيا مزيداً من التأثير لجهة صوغ الكيفية التي سيكون عليها سلوك واشنطن وبكين.
وكخلاصة، لن نستطيع أن نستوعب ذلك العالم الرقمي الجديد الشجاع بصورة أفضل، إلا عبر تحديث فهمنا القوة الجيوسياسية لشركات التكنولوجيا.
* إيان بريمر هو رئيس مجموعة “أوراسيا”
“فورين آفيرز” نوفمبر (تشرين الثاني)/ ديسمبر (كانون الأول) 2021
المصدر: اندبندنت عربية