العلم والعقيدة والمستقبل

د- أحمد سامر العُش

نناقشُ في هذه المقالةِ خمسةَ أوجه كما عودْنا القارئين ليتسنى لنا تحديدُ الاتجاهاتِ واستشرافُ المستقبل من خلال التفكيرِ المنظومي الذي يفتحُ لنا رؤىً جديدةً في تشخيص الواقعِ المعقد واستشرافِ المستقبل.

الوجه الأول :نهايةُ التاريخ للعالم المسيحي

المؤرخُ الفرنسي جان دليمو Jean Delumeau  (1923-2020)في إحدى الدورياتِ الدينيةِ والتاريخية المرموقة عام 1977 طرح سؤالًا مهمًّا مازال صداه يترددُ في الأوساط الفرنسية إلى يومنا هذا “هل تموتُ المسيحيةُ؟

إنَّ التبرمَ من المسيحية -الذي تحدث عنه كُتابٌ فرنسيون جددٌ من أمثال مارسيل غوشيه Marcel Gauchet وجيروم فوركيه Jérôme Fourquet أصبح الآن حقيقةً سوسيولوجية، إذ إن أكثرَ التابعين للكنيسة الكاثوليكية حرصًا أصبح اليوم تائهًا ولم يعدْ يعرفُ بأيّ قديسٍ يقتدي بعد نشرِ تقرير لجنة “سوفي” الذي سلّط الضوءَ على النطاق المذهلِ والممنهج لجرائم الاعتداءِ الجنسي على الأطفال داخلَ الكنيسةِ الكاثوليكية في فرنسا.

فقد أظهر استطلاعٌ أجراه “المعهدُ الفرنسي للرأي العام” (Ifop) مؤخرًا -للمرة الأولى- أن أكثرَ من نصف الفرنسيين لم يعودوا يؤمنون بالله. الفيلسوفةُ شانتال ديلسول Chantal Delsol ترى أن الذي وقع في المجتمع اليوم هو أن الحداثةَ قد انتصرت، ومثّلُ هذا الانتصارِ يشكل”نهاية للعالم المسيحي” بعد 16 قرنًا من الهيمنة. لقد أقرت ديلسول بأن الإيمانَ تضاءل لكنه لا يزال موجودًا، وسيكون هناك دائمًا مؤمنون، بينما “المسيحيةُ ذات السلطة”، والتنظيمُ الاجتماعي الذي تنتجه، والحضارةُ التي تجسدُها تنازعُ “سكرات موتٍ بطوليةٍ مؤثرة” بحسب تعبيرِها.

وذكرَت شانتال ديلسول أن ظاهرةَ تحولِ الكنيسةِ إلى البروتستانتية وما تمخضت عنه من تنقيةٍ للطقوس والرموز، سرَّعت من انحطاط المقدسِ في الكنيسة الكاثوليكية، بحسب تعبيرها. وعالجتِ الفيلسوفةُ سقوطَ ما أسمته “الإمبراطورية المسيحية” من منظور تاريخي، مشيرةً إلى أن ذلك يسلطُ الضوءَ على التعاسة الحاليةِ لهؤلاء الكاثوليكِ الذين يرون عالمَهم ينهار، فهل هذه نهايةُ التاريخِ بالنسبة للمسيحية؟

يبدو بعضُهم أكثرَ تفاؤلًا من شانتال ديلسول؛ إذ يؤمنُ بمستقبل الكاثوليكيةِ الثقافية، ويرجع الفضلُ في ذلك -على وجه الخصوص- إلى حماسة السكانِ المسيحين المهاجرين -غالبًا الأفارقة- لكن شريطة ألا تتقوقعَ الكنيسةُ على نفسها وتصبحَ مقتصرةً على “طائفة من الإنجيليين مفرطي الحماس أو المتدينين صعبي المراس”.

الوجه الثاني: صعودُ الفلسفةِ القرآنية لدى فلاسفةِ الغرب

المؤرخ والفيلسوف الفرنسي جاك برتيليمي سالغ Jacques-Barthelemy Salgues (1760-1830)، الذي ألَّفَ في ثلاثينيات القرنِ التاسعَ عشرَ كُتيبا صغيرًا مدهشًا يهدفُ إلى دحض الأحكامِ المسبقةِ عن حقيقة الإسلام، وقد جاء محتواه في شكل حوارٍ بين شابةٍ مثقفةٍ وفيلسوف.حيثُ يدورُ الحوارُ حول حقيقةِ الإسلامِ والنظرةِ السائدة حول الأتراكِ (الذين كان يتمُّ الخلطُ بينهم وبين المسلمين بشكل عام في أوروبا)، وتوضيحِ معنى كلمةِ إسلامٍ التي تفيدُ في اللغة العربية الخضوعَ لله. إضافةً إلى دحض التشويهِ الذي تعرضت له شخصيةُ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم على يد فولتير والعديد من المتعصبين الذين وصفوه بأنه قاطعُ طريق.

لقد رأى فولتير النبيَّ محمد (صلى الله عليه وسلم) في البداية أنهُ “متعصبٌ” دينيٌّ نموذجي، وذلك في مسرحية حملت اسم “محمد” والتي قيل إنها كانت رمزيةً قصد منها فولتيرُ إسقاطَ شخصيةِ سيدِنا محمدٍ على شخصيةٍ فرنسيةٍ أخرى ليتسنى له تمريرُها ويتجنّبُ بذلك رقابةَ الكنيسة، ومع ذلك تراجع فولتير فيما بعدُ عن رؤاه السلبيةِ عن نبيِّ الإسلامِ الذي اعتبره في أعمال لاحقةٍ عدوًّا للخرافات، وأثنى عليه ممتدحًا دينَه الذي ليس فيه طلاسمٌ أو ألغاز، ويُحرمُ القمارَ والخمر ويأمرُ بالصلاة والصدقة، بحسب كتاب “وجوه محمد: التصوراتُ الغربيةُ عن نبيِّ الإسلامِ من العصور الوسطى حتى اليوم Faces of Muhammad: Western Perceptions of the Prophet of Islam from the Middle Ages to Today ” للمؤرخ والأكاديمي الفرنسي جون تولان John V. Tolanوالذي صدر في عام 2019.

ألفونس دي لامارتين Alphonse de Lamartine (1790-1869) في كتابه تاريخ تركيا Histoire de la Turquie (1854) يقول :إن النبيَّ محمدًا لم يناضلْ من أجل مجدٍ إمبراطوري وإنّما لعقيدةٍ تأسست على وحدانية الله، وأسس لعبادة دينيةٍ بلا صورٍ وإمبراطوريةٍ روحيةٍ، بحسب تعبيره.

كذلك ومن خلال محاورةٍ جمع فيها بين الخليفةِ عمرَ بنِ الخطاب والقديسِ يوحنا الإنجيلي، وضع الشاعرُ الفرنسي فيكتور هوغو Victor Hugo الإسلامَ ضمنَ منظورٍ إنساني عالمي، ووقف في وجه الحملةِ الإعلاميةِ التي أعقبتِ اغتيالَ القنصلِ الفرنسي ونائبِ نظيرِه البريطاني بمدينة جِدة عام 1858، وذلك بقصيدة له غيرِ شهيرة بعنوان “الأرز” من ديوانه “أسطورة القرون La Légende des siècles- “.

الوجه الثالث: نظريةُ الانفجارِ العظيم وتغييرُ التوجهِ في معرفة الذاتِ الإلهيةِ في العالم المُسيطر!

اعتبرَ كتابٌ علمي جديد Dieu – La science Les preuves (الله-دليل العلم) للكاتبين الفرنسيين ميشال إيف بولوري (Michel-Yves Bolloré) وأوليفيي بوناسي (Olivier Bonnassies)، حول علاقةِ العلمِ بالذات الإلهيةِ، أنَّ الاكتشافاتِ العلميةَ ذات الصلةِ بالنسبية، وميكانيكا الكمِّ وتعقيداتِ الكائنات الحية والموت الحراري للكون -وبشكل خاص- بنظرية الانفجار العظيم، باتت كافيةً لقلب معتقدِ وقناعاتِ أيِّ ملحدٍ لا يؤمنُ بوجود الله.

إنَّ نظريةَ الانفجارِ العظيم -التي تمَّ تأكيدُها علميًّا مطلعَ ستينيات القرن الماضي باتت أمرًا لا تشوبُه شائبةٌ- لطالما عارضها رافضو المعتقداتِ الميتافيزيقية والخرافات لأنها فتحت مجددًا المجالَ أمام رؤى لاهوتية، وقد استمرت هذه المعارضةُ حتى في ظل النازيةِ والشيوعية التي حاربت أفكارًا مثل هذه بالسجن وحتى بأحكام الإعدام.

الكاتبان على حق في إصرارهما على أنَّ تطورَ العلمِ بات أقلَّ دوغمائية Dogmatic approach (وهي حالة من الجمود الفكري حيثُ يتعصبُ فيها الشخصُ لأفكارهِ الخاصة لدرجة رفضهِ الاطلاع على الأفكار المخالفة) حينما يتعلقُ الأمرُ بالمسائل العقدية، حيثُ لم يعدْ بإمكان الملحدين الاعتمادُ عليه لإثبات عدمِ وجودِ الله، وأصبح بمقدور المؤمنين الاستشهادُ بالاكتشافات العلمية لإثبات وجوده.

يؤكدُ الكاتبان أنَّه في سيرورة العلم لا شيءَ يُولَدُ من لا شيء، وأنَّه إذا كان هناك “انفجارٌ عظيمٌ” فأكيد أنه كان هناك أيضًا شيءٌ قبله “ذكاء خارق يفوق التصور”.

لكنَّ المشكلةَ أنَّ الحديثَ عن “قبل” الانفجارِ العظيم يطرحُ أيضًا مشكلةً ذات صبغة زمنية، حيثُ إن الزمنَ وُلد مع الانفجار، لذلك فمن السخافة أن نفترضَ وجودَ حدثٍ قبل الحدثِ ولا وجودَ وقتٍ قبل الوقت، مما يتركنا أمام سؤالٍ بلا جواب: كيف يمكنُ لشيءٍ ما أن يولدَ من لا شيء؟ أو بطريقة أكثرَ وضوحًا: من بدأ تشغيلَ عقاربِ الزمن؟

أمرٌ واحدٌ فقط يقرُّه كلُّ العلماءِ سواء كانوا مؤمنين أو ملحدين وهو: مبدأُ التساؤلاتِ الميتافيزيقية، وهو ما يُعَدُّ بحد ذاتِه خطوةً عملاقة إلى الأمام بالنسبة للمؤمنين بغض النظرِ عن معتقداتهم، حتى أن عالم الفيزياء النظرية ألبرت أينشتاين بنفسه انتهى به المطافُ بقبول فكرةِ وجودِ إلهٍ حين قال  واصفًا الخالقَ: “السببُ الأولُ وراء الأشياء”.

الوجه الرابع :الوراثةُ المدمجةُ سوف تغيرُ منظورَنا للبنى الاجتماعية وكيف نصنعُ مجتمعًا صحيًّا

يورغ توست Jörg Tost مديرُ “مختبرِ علمِ التخلق والبيئة The Epigenetic and Environment Laboratory (LEE) ” في فرنسا يقول :إن المجتمعَ العلمي “حاول دائمًا إظهارَ أن معظمَ الأمراضِ كانت تستندُ إلى الاختلافات الجينية لكن تبيّن لاحقًا أن هذا الافتراضَ كان خاطئًا.. 20 عاما من الأبحاث الجينية كشفت عن توارثٍ مفقودٍ بنسبة 20% إلى 30% تمامًا مثل الكتلةِ المفقودة في الكون”.

رغم أن سماتٍ عدةً مثلَ العيونِ الزرقاء أو الشعرِ الأشقر تنتقلُ وفقًا لقوانين الوراثة، فإن هناك العديدَ من الاستثناءات التي توضحُ وجودَ آلياتٍ وراثيةٍ أخرى ,فهناك عواملُ أخرى تعملُ تحت تأثيرِ الضغوطِ الخارجية مثلِ الخوفِ والتلوثِ البيئي وتغييرِ النظام الغذائي وغيرها، وهو ما يعرف بالتغييرات أو الطفرات “فوق الجينية” (Epigenetics),هذه التغييراتُ يمكن أن تنتقلَ إلى الأطفال بوصفها طفرةً جينيةً. فعلمُ التخلقِ أو الطفرات “فوق الجينية” (Epigenetics) هو دراسةُ كيف تُحدثُ السلوكياتُ والبيئةُ تغيراتٍ تؤثرُ في آلية عملِ المورثات. وعلى عكس التغيراتِ الوراثية، فإن التغيراتِ ما فوق الجينيةِ قابلةٌ للعكس ولا تغيرُ من تسلسل الحمضِ النووي، لكنها تؤثرُ في طريقة قراءةِ جسدِك لتسلسل الحمضِ النووي.

 يُضافُ إلى العاملين السابقين يدخلُ عاملُ “الوراثة الثقافية” حيث يؤكدُ علماءُ وراثةٍ بارزون أن له تأثيرًا أكبرَ من تأثير الجيناتِ البشرية. فالتكيفاتُ الجسديةُ التي يقومُ بها الجسدُ البشري للتأقلم مع الثقافةِ التي هو جزءٌ منها، يُطلقُ عليها علماءُ الأحياءِ نظريةَ الوراثةِ المزدوجة، أو التطورَ الجيني الثقافيَّ المشترك، وأظهرتِ الدراساتُ التي أجريت حول هذه النظريةِ أنه يمكنُ للثقافة أن تخلقَ آلياتٍ تطوريةً جديدةً لدى البشر. فقد رصدَ علماءُ الأحياءِ بعضَ الأمثلةِ التي تعززُ من نظريتهم وتدللُ عليها, فقد أثبتتِ الدراساتُ أن جيناتٍ بشريةً معينةً تغيرتْ أثناءَ وبعد انتقالِ الإنسان من ثقافة الجمعِ والالتقاط (الصيد) إلى ثقافة المجتمعاتِ الزراعية، ولكنّ هذا التأثيرَ كان سلبيًا، وتؤكد هذه الدراسةُ أن أمراضَ هشاشةِ العظام، وآلام الرقبة، والعمود الفقري، التي تعاني منها نسبةٌ كبيرةٌ من البشر الآن، سببُها الخللُ في كثافة عظامِ الإنسان، والتي كانت نتيجةَ التغيرِ الثقافي الغذائي الذي قام به أسلافُنا .كذلك أكّدَ فريقٌ من الباحثين أن جيناتِ حليبِ الماشية، والقدرةَ الوراثيةَ للإنسان على هضم الحليب، وعاداتِ استخدام الألبانِ لدى البشر، قد تطورًت معًا في عملية فريدة، وهي التطورُ المشتركُ للثقافة الجينية. وتُعدُ الجيناتُ بالنسبة لمعظم الكائناتِ هي الطريقةَ الوحيدةَ لنقل المعلوماتِ عبر الأجيال. ولكنّ بعضَ الكائنات، وخاصة البشر، تتميزُ بالانتقال الثقافي أيضًا، والذي يمكن تعريفُه بأنه نقلُ المعلوماتِ بين الأفرادِ من خلال التعلمِ، ويمكن للأنواع القادرةِ على الانتقال الثقافي أن تقدمِ تطورًا مشتركًا ثقافيًا، وهي عمليةٌ ينتجُ فيها التطورُ عن التفاعلات بين نظامي الوراثةِ الثقافية والجينية، وهو ما استطاع العلماءُ رصدَه في قدرة البشرِ على هضم الحليب الآن، على الرغم من أن البشرَ قبل  9 آلاف عام لم يكونوا قادرين على هذا، وكان أيُّ شخصٍ يشربُ الحليب يُصابُ بالمرض، وتحول الأمرُ في ثقافتنا الحالية بأن من لا يستطيعُ هضمَ الحليب هو الشخص المريضُ بـ«حساسية اللاكتوز».

العديدُ من علماء الأحياءِ لا يزالون يترددون في الجمع بين هذه الأبعادِ الثلاثة للوراثة (الجينات وعلم ما فوق الجينات Epigenetics أو علم التخلق والوراثة الثقافية) تحت مظلةٍ واحدةٍ وهي “الوراثة المدمجة” والتي ستقررُ في المستقبل القريبِ كيفيةَ علاجِ أمراضِنا وتنعكسِ بالتأكيد على البنى الاجتماعية وحتى المحتوى الفكري المعرفي للأجيال القادم.

الوجه الخامس : كيف لفكر التغييرِ أن ينتشرَ في عصر إغراقِ المعلومات و إضاعةِ البوصلة بالتفاصيل ؟

تاريخ 31 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1517 هو اليوم الذي انشطر فيه الدينُ المسيحي إلى الأبد. فكرةُ الإصلاحِ الديني التي قدمها راهبٌ ألماني  اسمه مارتن لوثر Martin Luther ، وُلد قبلَ أكثرَ من 500 عام ارتكزت على ثلاث قواعدَ مخالفةً للكنيسة البابوية . أولهم: العلاقةُ مع الله فرديةٌ دون وسطاء، ثانيهم: بإمكان البشر قراءةُ وتفسيرُ النصوصِ الدينية بأنفسهم دون طبقةٍ متشددةٍ وفاسدة من الكهنة، وثالث هذه القواعد :اللهُ وحدُه يمنحُ رحمتَه ونعمتَه دون عذابٍ وبلا مقابل مالي (صكوك الغفران). نشبت بعد هذا التاريخِ بعقود الحروبُ الدينية بين الطائفةِ الأصلية والطائفةِ المنشقة، وكان من أشهرها حربُ الثلاثين عامًا بين 1618 و1648. ولكنّ أفكارَ لوثر لم تتراجعْ بل ازدهرت و تناسلت لوثرياتٍ جديدةً وكان هو نفسه يعارضُ بعضَها ويرى أنها تحررت أكثرَ مما يجب. وبسبب أفكارِه أيضًا اندلعت ثوراتٌ اجتماعيةٌ مثلُ ثورةِ الفلاحين German Peasants’ War في عام 1524 التي كانت ردةَ فعلٍ غاضبةً على أوضاعهم المعيشيةِ السيئة، ولكنها سُحقت بعد أن قُتل منهم أكثرُ من 100 ألف (والتي للمفارقة وقف مارتن لوثر ضدها).

لوثر كان شخصيةً كاريزماتيةً جريئةً، وعاشقةً للجدل ومفعمةً بالنشاط، وهذه سماتٌ شخصيةٌ كان لها دورٌ أيضًا في إحداث ثورتِه الفكرية والدينية التاريخية. وهذا يدلُ على أن المعاييرَ الشخصيةَ تلعب دورًا كبيرًا  في الأحداث التاريخية الكبرى.

الإصلاحُ الدينيُّ كان بدايةَ النهضةِ الأوروبية وبدايةَ التخلصِ من التعصب الديني، و أعقبته حقبٌ فكريةٌ مهمةٌ مثلُ التنويرِ والأنوار والحداثة وحتى هذا اليوم هناك الجديدُ. هناك بالتأكيد أشخاصٌ وأسبابٌ كثيرة أدت إلى هذه النهضةِ الأوروبية والأميركية فالأمرُ لم يكنْ يقتصرُ على الإصلاح الديني فحسب. فالنهضةُ الفكريةُ والعلمية لا يمكن أن تزدهرُ في الفراغ، ولكن لأسباب كثيرة، أبرزَها زعماءٌ وقادةٌ سياسيون مستنيرون مؤمنون بالمستقبل، يحمونها حتى تزدهرَ وتكبر وتنتشرَ في عقول الكبارِ والصغار مرسخةً للتفكير العقلاني والعلمي وقيم التسامح والتحضر، ومحطمةً للتفكير المتشددِ مرةً واحدة وللأبد.

من أمثال هؤلاء فريدريك الثاني ملك بروسيا (الملقب بالمستبد المستنير) الذي احتضن الفلاسفةَ الكبارَ في أوروبا مثل كانت Kant وفولتير Voltaire ، وفتح لهم أجواءَ الحرية في الفكر والبحث العلمي حتى انتشرت أفكارُهم، وانتصرت على المتعصبين بعد صراعاتٍ مريرةٍ. أيضاً كاترين الثانية Catherine the Great الملقبة بكاترين العظيمةِ التي قامت بالشيء ذاته، حيث أسهمت باحتضان الفكرِ والثقافة الفلسفية والعقلانية ونشرها. دون هذه الحمايةِ والدعم منهما من المرجح أننا لم نكنْ لنسمعَ عن هؤلاء المفكرين ولا عن لوثر قبلهم.كذلك الخليفة العباسي المأمون حيث ازدهرت في عصره الترجماتُ وساد الخطابُ العقلاني وانتعشَ علمُ الكلام والفلسفة.حيث كانت تدارُ رسميًا حلقاتُ النقاشِ والجدل بين المختلفين فكريًا و دينيًا دون خوفٍ أو توجس.

التاريخُ والحاضر الإسلامي مليئان بالعلماء والمفكرين والفلاسفة المسلمين وغيرِ المسلمين من قدموا تفسيراتٍ عقلانيةً وروحانيةً للدين الإسلامي تحافظُ على جوهره النقيِّ وتربطُه بعالم اليوم، وتنزعُ عنه كلَّ أقنعةِ التعصبِ التي وضعها عليه المتعصبون من أمثال محمد الغزالي , مالك بن نبي , والجويني , ومحمد قطب…. فهناك العشراتُ وربما المئاتُ من «لوثر» المسلم.

لكنّ السؤالَ المُلِحَّ :كيف لهؤلاء المفكرين والفلاسفة الظهورُ في عصر التيك توك والفيسبوك ، كيف لهم أن ينتشرَ فكرُهم في عصر إغراقِ المعلومات و إضاعةِ البوصلة بالتفاصيل ؟ لقد أنشأ الغربُ هياكلَ عملاقةً صُرفت عليها التريليونات لجذب المبدعين والفلاسفةِ وإخراج منتجاتِ السيطرة على الفكر البشري أما شعوبُنا فأصبحت تعيشُ على منتجات تلك الهياكلِ من قنوات إعلاميةٍ و مراكزِ إشباعِ متعة هوليودية وحديثا فيسبوك وتويتر وتيك توك ووسائل التوصل الاجتماعي …فأصبحت شعوبُنا وحتى الشعوب الغربية لعبةً يسهلُ التحكُّمُ بها وخاصة أن هياكلنا التي نتباهى بها اليوم ماهي في الحقيقة إلا منتجٌ لهياكل الغرب وليست ماكينةَ إنتاجٍ حقيقيةً للمعرفة والتغيير . وبذلك أصبح فلاسفةُ المنهجِ الرباني ومفكروهم كالأيتام والمشردين لا يجدون ماكيناتِ إنتاجِ حقيقيةً لبضاعتهم !

الوقتُ وفارقُ الإمكاناتِ ليس في صالحنا وهنا نغلق هذا الوجه ، فانسدادُ الطريقِ هنا هو مادعانا في بداية البحث للتفكير المنظومي لدمجه بالوجوه السابقة حتى نتلمسَ مخرجًا من واقعنا الحالي.

الخلاصة

قد يجد القارئُ نفسه مشوشًا في التنقل بين هذه الأوجهِ المتعددة التي تبدو للوهلة الأولى غيرَ مترابطةٍ وتزيدُ المشهدَ تعقيدًا لا تبسيطًا , وهذا الشعورُ طبيعيٌّ في واقع الحال , لكن الحقيقةَ التي علينا أن نواجهَها أن الحياةَ معقدةٌ و السردَ الخطي ليس إلا وهمًا مريحًا لعقولنا البشرية الضعيفة .إن التدبيرَ الكونيَّ الإلهيَّ الذي تسير عليه مساراتُ الحياة لا تدركُه العقولُ البشرية ولو اجتمعت .والتفكيرَ المنظومي Systems Thinking و علمَ الأنظمة المعقدة Complex systems (هذا العلمُ الحديث الذي أفردنا له بحثًا سابقًا تحت عنوان :تحليلُ الأزمةِ السورية من خلال فهمِ آلية عمل أسراب طيور الزرزور), ما هو إلا مرحلةٌ متقدمةٌ لفهم واقعِنا وصناعة مستقبلنا ومستقبل أجيالنا القادمة.

ولفهم ماذا يُخطط لمصيرنا ومصيرِ شعوب العالم قاطبة -الذي نؤمن جميعًا بأنه بيد لله وحده-يكفينا ذكرُ مانشره موقع Axios الأمريكي يومَ الجمعة 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021 في تقرير تحدث فيه عن أن مسؤولي المخابرات الأمريكية الذين يعملون على حماية التقنياتِ المتقدمة، ضيّقوا نطاقَ تركيزِهم إلى خمسة قطاعاتٍ رئيسة ,وذلك من أجل القدرةِ على مواجهة الصين وروسيا.  حيث أشار التقريرُ إلى خمسة قطاعاتٍ رئيسةٍ لن تسمحَ الإدارةُ الأمريكية بالتنازل عن الريادة بها وهي: الذكاءُ الاصطناعي، و الحوسبةُ الكمومية، والتكنولوجيا الحيوية، وأشباهُ الموصلات والأنظمةُ ذاتية الإدارة. ربّما بالنسبة للقارئ هناك ثلاثةٌ من خمسة من هذه القطاعاتِ لا ندري عنها شيئًا لكن في الحقيقة إن هذه القطاعات هي أدواتُ التحكمِ المستقبلية بمصير البشرية شئنا أم لم نشأ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى