لعل من مشكلات الدراسات المستقبلية في تطوير نماذجها، هو في كيفية إدراج المتغير، عندما يشكل هذا المتغير نقطة تحول في اتجاه معين للظاهرة. وكورونا هو متغير متوقع بدون استعداد لمواجهته، فكورونا كان متوقعاً ليس من العلماء فحسب بل ومن السياسيين أيضاً، لكن الخطط للمواجهة لم تتم لأسباب عدة.
بالعودة للتاريخ الإنساني يتبين أن العقل الإنساني عبر التطور التدريجي تمكن في خاتمة المطاف من استيعاب الصدمات الكبرى (وبائية، أم سياسية، أم اقتصادية، أم بيئية، أم غيرها)، وإعادة تكييف بُنياته بشكل يحافظ على الحياة الإنسانية، والدليل أن عدد سكان العالم لم يتوقف عن اتجاه التزايد في أي فترة من فترات التاريخ على الرغم من كل ما واجهته البشرية من أعوام رمادة أو حروب أو أمراض.
فتتراكم المعارف في مختلف العلوم والفنون وتجري غربلة النظريات والاكتشافات والإبقاء على بعضها أو تطوير البعض الآخر أو إحلال الجديد محل ما لم يعد مناسباً في الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة والأدب والفن…إلخ، ولم يتوقف هذا التطور والتراكم العلمي ولو للحظة واحدة على الرغم من كل التطورات المفاجئة وغير المفاجئة.
والعلاقة الجدلية بين الإنسان والإنسان، المجتمع والمجتمع الآخر، والعلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة وما وراءهما، وتتمثل هذه الجدلية في علاقة مزدوجة تتمظهر بالصراع أحياناً (بالحروب أو بالمظاهر الطبيعية السلبية من تلوث أو كوارث أو أوبئة وسواها)، وبالتصالح والانتفاع أحياناً أخرى بالتعاون أو جني الثمرات على اختلاف أنواعها من الطبيعة.
المشهد الدولي القادم بعد كورونا قد يدخل الاتجاهات الأعظم سابقة الذكر في بعض التعرج أو التلكؤ، وقد يفرز مظاهر لم تألفها البشرية، فالعقل البشري قلق بطبيعته ولن يستقر أمام أي جديد، بل سيلاحقه للفهم والتكيف بل والتوظيف، ولن تتراجع شبكات التواصل والاتصال بين الأفراد والمجتمعات، بل سيتم رتق أي فتق أصابها وعلى عجل، وأخيراً لن تتوقف ثنائية الصراع والمماحكة التاريخية بين الإنسان والإنسان وبينهما وبين الطبيعة وما ورائهما.
إن الفترة الزمنية التي سيصل فيها العالم إلى عقار يلجم انتشار الفيروس، وبالتالي امتصاص آثار التكلفة البشرية والاقتصادية، مسألة متروك تقرير مدتها بيد المختبرات العلمية، فإذا رافق الفيروس العالم حتى سنة 2021 كما ترى بعض التقارير كتقرير الصحة العامة البريطاني فإن التداعيات ستكون عميقة اقتصادياً وبشرياً، ولكن هناك مراكز علمية أكثر تفاؤلاً تتوقع الانتهاء من جذوة الوباء خلال أشهر قليلة.
ويبدو أن نتيجة الإحساس بالتداعيات الخطيرة على الجميع صرفت توجه الدول الكبرى باتجاه خبراء القطاع الصحي لمواجهة الأزمة، وهو ما قد يزيد من المنافسة بين هذه الدول من ناحية (خصوصاً شركات الأدوية، وما يترتب على ذلك من مكاسب تجارية وتعزيز القوة الناعمة للدولة)، لكنه قد يدفع باتجاه تكاتف الخبرات وتعاونها من خلال المشاركة في الاكتشافات ذات الصلة من ناحية أخرى. وهو الأمر الذي حثّ عليه عدد كبير من النخب العالمية، وتبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتأييد من 188 دولة والأرجح أن هذا التوجه ليس محصوراً في الأقطاب الدوليين فقط، خصوصاً أن الفيروس غير منحاز لأحد في حربه لا طبقياً ولا قومياً ولا دينياً…إلخ مما يجعله عدواً للجميع وهو ما يعزز، بقدر ما، المواجهة المشتركة، وهو ما تؤكده تقارير وتوقعات مسؤولي الصندوق الدولي من أن هناك علاقة ارتباط عكسي بين سرعة الوصول للعقار وبين عمق الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الناتجة عنه.
ولعل تبني أغلب البنوك المركزية لسياسات أكثر تيسيراً للسياسات النقدية يزيد من الحس التعاوني بين مختلف الدول دون أن ينفي بقاء قدر من التنافس أيضاً.
وبالنظر إلى السوابق التاريخية في تأثير الأوبئة على الاقتصاديات الدولية، نجد مثلاً أن السارس كلف دول شرق آسيا في سنة 2003 نحو 2% من إجمالي ناتجها القومي في حينه، بينما زلازل اليابان سنة 2011 كلفت اليابان ما يوازي 235 مليار دولار، وتوقف الإنتاج في بعض من أكبر شركاتها، وبقيت آثار الزلزال حتى سنة 2017، على الرغم من الإمكانيات الكبيرة لليابان على التكيف، ولا شك أن آثار الكورونا تفوق ذلك في حالة دول كثيرة.
أما في الجانب السياسي والعسكري فيدور نقاش بين الباحثين اليوم في موضوع التداعيات السياسية والعسكرية للكورونا، فهل أدت الأزمة إلى انكفاء الدولة عن انخراطها في الشأن الخارجي، دولياً أو إقليمياً، بشكل كبير أم أن الأمر خلاف ذلك؟ في هذه النقطة، يميل قدر غير يسير من الكتاب والباحثين إلى الاعتقاد بأن الكورونا قصم ظهر العولمة، وأن الانكفاء مرة أخرى نحو الدولة القومية، لكن الواقع أكد غير ذلك فبقيت التهديدات والحروب لكن بوطأة أخف.
أما الجانب الاقتصادي فلو نظرنا في أهم بورصات العالم سنجد أن نسبة الهبوط ترتفع لكن شركات أخرى مثل الشركات المرتبطة بالإنترنت (للترفيه أو لعقد الاجتماعات عن بعد أو التعليم عن بعد…إلخ) حققت مكاسب كبرى، فارتفعت أسهم بعضها بنسب كبيرة مثل: Zoom (+146.1%)، وNetflix (+29.4%) وAmazon (+26.4%). بينما نجد أن شركات الطيران تضررت بشكل كبير لأن أكثر من مئة دولة أوقفت رحلات الطيران.
ومن بين المؤشرات التي يبدو أن قدراً كبيراً من الإجماع عليه هو أن عمق الأزمة الناتجة عن الكورونا متباينة بين الدول أيضاً، فالاقتصاديات القوية خصوصاً للأقطاب الدوليين تمكنهم على الرغم من الخسارة من تحمل أعباء الأزمة، لكن ذلك لا ينفي أن بعضها قد يعرف حالة ركود اقتصادي قدرها صندوق النقد الدولي بنحو 3% خلال بقية سنة 2020، لكن الصندوق يتوقع بأن النمو الاقتصادي في سنة 2021 سيصل الى 5.8% عالمياً في حالة الوصول إلى علاج للكورونا.
في الدول النامية أو الفقيرة أو التي تعيش فترات عدم استقرار سياسي سيكون العبء عليها أكثر وطأة، فتدفق الأموال الخارجية نحوها تباطأ بقدر كبير، كما أن تكاليف المواجهة مع الفيروس من خلال النفقات الصحية وتعطل الأعمال يزيد الأمور سوءاً
وكذلك من الآثار الناجمة عن الوباء انحسار الطلب على النفط نتيجة الكورونا من ناحية والهبوط الكبير في عائدات النفط (العراق، والسعودية، وفنزويلا، والجزائر، وليبيا، والمكسيك، والإكوادور، ونيجيريا،…الخ) وبعض هذه الدول مثل المملكة العربية السعودية التي كانت تسعى إلى بناء اقتصاد متحرر من الاعتماد على النفط، وبدأت بمشروعات لكن لا يمكن إنجازها دون بيع النفط بسعر 80 دولار للبرميل بينما هو يراوح حالياً عند 20 دولار، وهناك دول عربية كانت تعتمد بشكل كبير على السياحة كأحد أهم مواردها الاقتصادية، لكن نهاية نيسان/ أبريل 2020 سجلت خسائر للقطاع السياحي لدول الشرق الأوسط تقدر بنحو 40 مليار دولار يضاف لها 14 مليار خسائر شركات الطيران، وهما قطاعان مهمان للدول المركزية مثل مصر وتركيا وإيران.
إن الهزة العميقة التي أحدثها فيروس الكورونا تنبه الدول النامية، ومنها الدول العربية، إلى ضرورة إدراك أن بناء التكتلات الإقليمية المبنية على أسس سليمة هي الدرع الواقي على المدى البعيد وأن حالة السلمية والتعاون ونبذ الخلافات والصراعات البينية هو الكفيل بتجاوز المخاطر التي نعيشها وسنعيشها بحال طال أمد الوباء أو تعرضنا لوباء من نوع آخر، والأبواق التي تذكي الصراعات وتلهبها هي أبواق شؤم ستنعكس آثارها على الشعوب.
المصدر: اشراق