قد يبدو هذا العنوان مثيرا للدهشة. ولعل الكثير من التحليلات والآراء التي تتناقلها الأقلام والمواقع منذ ظهور الوباء؛ هي التي أملته وأملت معه كثيرا من الاستغراب والدهشة.
ففي مواجهة أي خطر داهم وكل خطر، يلجأ الإنسان المؤمن إلى الله. طبيعي وجميل ومريح. الخوف من جهة والعجز من جهة أخرى يدفعانه أكثر فأكثر نحو الاستغاثة بالله ورجائه العون والرحمة وتجاوز الخطر.
إلى هنا كل هذا طبيعي ويعبر عن إيمان الإنسان بالله: الرب الخالق القادر العليم الرؤوف الرحيم. ثم ينقسم المؤمنين بعد ذلك إلى أكثر من معسكر.
الأول: معسكر العاجزين وهم غالبا ممن يؤمنون بالخرافات الغيبية والتفكير الديني البدائي المبسط الذي لا يعرف التفكير او استخدام العقل ويتقبل اية معلومات او تحليلات لأية ظاهرة حياتية؛ بالقبول والرضى والترويج طالما أنها مغلفة بغلاف ديني وإن كان شكليا…دونما استعداد أو مقدرة على تمحيصها والتأكد من صوابيتها ومدى مطابقتها لصحيح الدين ومقتضيات الإيمان والعقل والعلم.
يكفيه أنها ” دينية ” تقحم الله في مادتها ومضمونها وإن كان بهدف تمريرها على الناس. فوق هذا لا يحاول هؤلاء حتى مجرد معرفة مصدر المعلومات أو التحليل ولو كان تضليلا.. عادة ما ينساق مثل هؤلاء خلف تصورات غيبية تجعل منهم مجرد عدد لا قيمة لهم ولا فعالية إذ يخرجون أنفسهم من دائرة الفعل الإنساني الذي يعطي للإنسان مضمونا حياتيا يميزه.
يغذي هؤلاء كم ضخم من الموروث المتراكم منذ عصور الانحطاط والذي أعيد إحياؤه خلال الخمسين سنة الأخيرة مع انطلاق ما سمي زورا “الجهاد”.. الذي أشرفت عليه أجهزة نظام الاحتكارات الربوية العالمية.
يشجع هذا المعسكر كل أعداء التحرر الإنساني في كل مكان من العالم. وعلى رأسهم أنظمة القهر والظلم والاستعباد. لأن من شأن تلك العقلية التي توجه هذا المعسكر أن تجعل من ناسه اتكاليين لا يسعون وراء تغيير تصنعه أيديهم وتضحياتهم بل يستمرون قاعدين منتظرين فرجا من السماء…يهربون من أية مواجهة مع قوى الظلم والظلامية. وهذا ما تريده هذه القوى المهيمنة وتسعى لتأبيده.
ناس هذا المعسكر غالبا ما يكونون من محدودي المعرفة او اليائسين والضعفاء والمهزومين..
الثاني: معسكر المؤمنين المتحررين من أوهام الغيبيات والعقل التبعي الاتكالي المنهزم؛
معسكر الذين يدركون معنى الحياة وقيمتها فلا يتهربون من تحمل تبعاتها ومسؤوليات إغنائها ومواجهة مشكلاتها بالعلم والعمل والإيمان.
يأخذون بالأسباب الموضوعية فيواجهون المخاطر بما يملكون من امكانيات وما توفره لهم ظروف حياتهم من إمكانيات وطاقات وعلم ومعرفة. وهم في خضم هذا كله يتمسكون بإيمانهم سائلين الله دائما أن يقوي عزائمهم ويعينهم وينصرهم. وما بين المعسكرين كثير من البشر التائهين الحائرين المترددين. يدفعهم عجزهم عن التغيير والفعل المؤثر، رغم إرادتهم ومحاولتهم، إلى الانتظار.
وفي مواجهة وباء الكورونا راح اتباع المعسكر الأول يرددون تفسيرات غيبية اتكالية تلقي مسؤولية كل شيء على الله. فهو الذي أرسل الوباء وهو الذي يوجهه ويتابع تحركاته وتعرجاته وإستهدافاته وهو الذي سوف يشفي الناس منه. تارة يقولون إنه أرسله عقابا للظالمين وانتقاما للضعفاء والمظلومين. وتارة يقولون إنه ابتلاء وآخرون يستبشرون به للإعلان عن قرب قيام الساعة إلى غير ذلك من المقولات الميتافيزيقية غير المحسوسة او يمكن إدراكها. في كل هذا اتكالية لا بل استسلام انهزامي أمام الخطر الوبائي. ليس المهم ما يقوله هؤلاء بل ما يفعلون. للأسف إنهم لا يفعلون شيئا بل يكتفون بالدعاء والانتظار. وهنا مقتل منهجهم وتهافت تصوراتهم الإيمانية التي تجعل منهم عديمي الجدوى على مستوى الحياة الإنسانية. وبالتالي يتركون الساحة لمن يحاولون بالعلم فهم الطبيعة التكوينية لأسباب المرض وإيجاد الدواء الشافي منه وهذا تماما ما يجسد إرادة الله حينما جعل الإنسان خليفة له في الأرض يعمرها ويحييها ويحميها. ومع التسليم التام بأن الله قادر على كل شيء وانه هو الذي يكتب مصائر الناس في دفاتر سجلاتهم لأنه العارف بكل شيء المدبر لكل أمر. إلا أنه لا يعني إعفاء الإنسان من مسؤولياته تجاه مشكلات حياته.. فالله جعل الإنسان خليفة له في الأرض بما يعني أنه السيد الحر المسيطر على أفعاله وظروف حياته ومسؤول عنها. هداه وأبان له طريق الخير وطريق الشر وطالبه بتحمل مسؤولياته وأنذره بأنه سوف يحاسبه على أعماله: ” فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ” كلام في منتهى الدقة والوضوح والتحديد.
بالعودة إلى وباء الكورونا ليس في وسع أحد أن يعرف حدود التدخل الإلهي في الأمر وليس هذا هو المهم وليس هذا هو النافع للناس المطلوب لإنقاذهم. بالعلم وبالعلم فقط على الإنسان أن يواجه خطرا يقضي على حياة آلاف البشر ويهدد ملايين آخرين. العلم الذي يستوجب العقل والتفكير والبحث والامكانيات الموظفة لذلك؛ تحت حماية السلطات والقوانين والتشريعات …
وطالما ان الوباء أصبح منتشرا متجاوزا حدود مكان معين ليعم اغلب بلاد الأرض فلم يعد ملحا الآن وفي مواجهته معرفة صلته المباشرة بالله كما ليس ملحا آنيا معرفة مقدار العفوية التلقائية الطبيعية في انتشاره؛ إلى مقدار الاصطناع والتدخل البشري المتعمد لغايات متعددة؛ بينة أو مخفية. هنا ننبه إلى ظاهرة تحمل الكثير من معاني التشفي غير المبرر وغير الموضوعي.. حيث ينبري البعض للهجوم على الدين من أساسه محملا التفكير الديني الإيماني مسؤولية ما يتناقله بعض أتباع المعسكر الأول من مقولات غيبية مبنية على ضلالات وأوهام. مستشهدين بتحليلات ساذجة بلهاء؛ لتوصيف المرض او تشخيصه أو لعلاجه تتردد في وسائط التواصل العنكبوتي منسوبة الى خلفيات دينية؛ فلا ينتبهون هم أنفسهم إلى مصدرها ومروجيها فيقعون في ذات الخطأ الذي وقع فيه مرددوها ومروجوها. وكم من تلك التحليلات والتوصيفات مجهولة المصدر تشاع وتعمم إمعانا في التضليل وتحريضًا على الانقسام والفتنة والتوتر. المهم والملح والآني هو التعاون الإنساني لإيجاد الدواء الشافي منه الحامي لمن تبقى من بشر مصابين أو مهددين. أما ما بعد الوباء ومن وماذا سيتغير فلذلك حديث آخر.