هل تختلف الطبيعة البشرية، باختلاف المجتمعات، من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر؟ تردد على مسامعنا وأمام أعيننا كثيرًا أن “الإنسان هو الإنسان، في كل زمان ومكان”، وأن “الإنسان مرآة الإنسان”، وأن “الناس متساوون، كأسنان المشط”، وقد “وُلدوا أحرارًا”، وأن “الإنسان مستخلف في الأرض” ومسخّر له كل ما عليها وما في جوفها؛ لكن واقع الحال يقول إن للطبيعة البشرية الواحدة، بخصائصها وملكاتها واستعداداتها، أحوالًا مختلفة ومتباينة ومتفاوتة، إلا في الإنسانية، بمعنى الاشتراك في النوع أو الجنس على قدم المساواة، قبل الاشتراك في الأفكار والتصورات والمبادئ والقيم الإنسانية العامة.
وقد كنا نظن أننا نعرف الإنسان، الفرد الإنساني، (الأنثى والذكر)، من خلال ما يقوله، وما يفعله، بصفته فردًا مستقلًا، وكائنًا فريدًا، فتبيّن أن ما نعرفه من خلال الأقوال والأفعال يتعلق بالمجتمع الصغير والمجتمع الكبير، الذي ينتمي إليه الفرد، أكثر مما يتعلق بالفرد نفسه/ـا. ذلكم، بحكم الطابع الجمعي والاجتماعي للغة، والمعرفة والثقافة، والطابع الجمعي والاجتماعي للعمل وإنتاج الخيرات (والشرور) المادية والمعنوية. ومن ثم، تكون معرفة المجتمع هي أحد السبل الممكنة لمعرفة الإنسان بصورة موضوعية.
المجتمع والدولة مرآتان للطبيعة البشرية، التي تختلف أحوالها من حين إلى آخر ومن مكان إلى آخر، من حيث التبدِّي (من البداوة) والتحضُّر والتمدُّن. البداوة والحضارة والمدنية ثلاث حقب تاريخية، وثلاثة معايير، أو ثلاثة أطر مرجعية، أو “جمل مرجعية” لوصف ما هي عليه الطبيعة البشرية، هنا أو هناك، الطبيعة، التي من خصائصها أنها تنمو وتتطور.
لكن معرفة المجتمع تبدو جزئية وغير كافية، ولا تستقيم إلا بمعرفة صورته الكلية، وهي صورته الأخلاقية: الدولة، وهذه صورة رمزية بامتياز، من جهة، ومعرفة الطبيعة الأولية، بصفتها مصدر وجوده وشرط بقائه، من جهة ثانية، أي معرفة المكان – الزمان الذي ينسج كيان الإنسان، وأشكال وجوده، الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، وينسج المجتمع والدولة. هذا التعقيد الفائق، الذي لا بد من اختراقه واكتناه غوامضه وجلاء أسراره، لمعرفة الإنسان، لا يزودنا، هو الآخر، إلا بمعرفة ناقصة واحتمالات، ولكنها معرفة مفتوحة على مستقبل ممكن، وعلى “خصوبة اللامتوقع”، بحكم ما ينطوي عليه التعقيد من اضطراب أو اختلاج (كاوس) ملازم للطبيعة، وملازم للمجتمعات والدول وسائر المنظومات. معرفة الإنسان ناقصة، وسوف تظل كذلك.
ربما يكون التحليل الراجع (Flash back)، للمجتمع، انطلاقًا من حالته الحاضرة وبنيته الراهنة أكثر جدوى مما يسمى “التحليل التاريخي”، لأن التحليل الراجع يكشف أكثر من غيره عن طبيعة الأشياء ومنطق تحولاتها، وعن عوامل التحول وعوامل النمو الفعلية، وديناميات التأثر والتأثير أو الانفعال والفعل. وقد يكشف عن ممكنات لم تتحقق، ولم تتلاشَ، وهو المنهج الموضوعي، الذي يستبعد انحيازات الذات وأهواءها وأوهامها، منهج كلي، يستدعي مناهج فرعية، تقتضيها طبيعة الأشياء، ولا سيما منهج التحليل المقارن. ولاعتقادنا أيضًا بأن التاريخ هو، بالأحرى، تواريخ متوازية ومتراكبة ومتداخلة.
التاريخ الذي وُصف بأنه “علم جميع العلوم”، لم يكن كذلك في أي وقت، لأنه تأسس على مفهوم اعتباطي لزمان خطي، مطلق، ومستقل عن المكان، ولأنه ملتبس بالذاكرة والتراث، أو بمعرفة ميِّتة وثقافة متفسخة. وهذا مما يزيد الأمور تعقيدًا، ويفوِّت علينا متعة الحكاية والسرد والتخييل، والتفسير والتأويل، التي نختبرها، و”المعرفة” التي نكتسبها، تحت عنوان “التاريخ”، وكلها ذات طابع ذاتي وتقديري، لا يمتّ إلى العلم والموضوعية بِصلة. التاريخ، بمعناه الشائع في ثقافتنا، هو تاريخ من يكتبونه، أو من يُكتب لهم، لتمجيدهم و”تخليدهم”، لا تاريخ من يصنعونه. وهو محكوم أيضًا بالطابع الاجتماعي للغة، والطابع الاجتماعي للمعرفة وشروط إنتاجها، بوجه عام. لذلك لا بد من وضع مفاهيم التاريخ والتاريخية والتاريخانية تحت السؤال من جديد، من أجل تصور موضوعي لتاريخ، يتأسس على اللاحتمية، واللايقين، و”وحدة” الزمان – المكان، وينفتح، من ثم، على إمكان الحقيقة، أو على حقيقة/ حقائق ممكنة على الدوام، لعالَم ممكن على الدوام. لقد أحال عبد الله العروي “مفهوم التاريخ” على المادة التاريخية، وثيقةً كانت هذه المادة، أم آثارًا وأوابد، أم آدابًا وفنونًا وعلومًا وتقنيات وعقائد أم أخبارًا ومرويات.. وهذا إرهاص بمعرفة تقوم على مبدأ الحرية، وتعدد التواريخ وتراكبها وتداخلها، وتنفي ما سمي “الحتمية التاريخية”، كما تنفي فكرة التزامن. التاريخ الفعلي، في أوجز تعريف، هو “تحقق ممكنات على حساب ممكنات أخرى”، بحسب المفكر السوري، إلياس مرقص.
فإن ما نعرفه عن العالم وعن أي شيء من أشيائه وأي ظاهرة من ظاهراته، هو ما كان عليه العالم أو الشيء وما كانت عليه الظاهرة قبل لحظة المعرفة. وهذا مما يضع المنهج التجريبي تحت السؤال أيضًا. فالعالم يمضي ونحن نذهب إلى المستقبل، في كل عمل نقوم به، وفي كل ما نفكر فيه؛ والمستقبل “موجة ممكنات” أو “غيمة ممكنات”، كأقواس قزح.
تريد هذه المقدمات أن تقول: إن مجتمعنا السوري، قبل عام 2011، الذي لم نبذل أي جهد لمعرفته، كما هو، كان شكل وجودنا الاجتماعي؛ فقد استجبنا، بصور مختلفة ونسب مختلفة، للهندسة الاجتماعية الفظة والمتوحشة، التي قسمت المجتمع قسمين: قسم “مؤمم”، هو مجتمع السلطة وجيشها ومخابراتها وإداراتها ومؤسساتها وحزبها ومنظماتها الشعبية وجبهتها الوطنية التقدمية، هذا القسم مملوك، بالمعنى الحرفي، أو بالمعنى العبدي، للسلطة، التي تملك الدولة، التي تملك الشعب.. وقسم مهمش ومُفقَر ومُذَل ومهان. والمجتمعان كلاهما موسومان بالخوف والطاعة. ومن ثم إن “دولة البعث” كانت شكل وجودنا السياسي وصورتنا الأخلاقية. فلا يستقيم أن نصف مجتمعنا بأنه “متخلف” أو “متأخر”، ونكون متقدمين وتقدميين، متحضرين ومتمدنين، ولا يستقيم أن نصف المجتمع بأنه مجتمع بطركي، ذكوري، ونكون ديمقراطيين وجندريين… إلى آخر المعزوفة، فكيف هي الحال منذ عام 2011 إلى اليوم، ولا سيما في المخيمات والملاجئ؟
إن تمزق النسيج الاجتماعي للمجتمعات السورية الصغيرة والمجتمع السوري الكبير أو المجتمع الكلي، الذي يتجلى في سلوك الأفراد وطبيعة العلاقات المتبادلة بينهم، هو نتيجة عاملين أساسيين من جملة عوامل مختلفة: أول هذين العاملين هو تدمير التنظيمات المجتمعية (تنظيمات المجتمع المدني، وتنظيمات المجتمع الأهلي المُوادِع أيضًا) التي تتوسط علاقة الفرد بالدولة وسلطتها السياسية، والثاني هو تدمير رأس المال الاجتماعي الوطني. هذان العاملان كلاهما مؤسسان على العلاقات الاجتماعية والإنسانية القائمة بالفعل بين الأفراد والجماعات، ويعينان معًا مبادئ إنتاج السلطة وآليات اشتغالها وأشكال ممارستها. فلا يمكن رتق التمزقات ورأب التصدعات الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية، من دون استقلال منظمات المجتمع المدني وحريتها وإعادة بناء جسور الثقة والتعاون والتعاضد بين الأفراد والجماعات، وهذا قد يستغرق وقتًا طويلًا، بحكم العلاقة بين تهتك النسيج الاجتماعي وتمزق شخصية الفرد بين مرجعيات مختلفة وهويات متخالفة. قد تحتاج سورية إلى وقت طويل حتى تنجز قطيعة كلية وشاملة، اجتماعية – اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية، مع نظام البعث وسلطة آل الأسد، وقد يظل تاريخ سورية محتجزًا ومتوقفًا على هذا الشرط.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة