شهدت العلاقة بين الإسلاميين والعروبيين، منذ نشأة هذين التيارين، درجة من الحساسية، تنزع نحو التصعيد حينًا، والمهادنة حينًا آخر، وذلك وفقًا لمسار الأحداث السياسية والتغيرات الاجتماعية المواكبة لسيرورتيهما، ولئن كان هذا الخلاف قد تأسس على (السياسة) قبل أي شيء آخر، أي نمتْ إرهاصاته الأولى على خلفية موقف كلا الطرفين من السلطنة العثمانية في أواخر عمرها، وكذلك موقفهما معًا من التعاطي من الدول الغربية؛ فإن المنحى العام لتصاعد الخلاف بات يكتسي طابعًا أيديولوجيًا، شيئًا فشيئًا، وبخاصة في مرحلة تبلور أفكار كلا التيارين، في مرحلة ما بعد الأربعينيات.
كان من الممكن للتباينات السياسية بين الطرفين أن تبقى محصورة في حقل السياسة، دون أن تمتد إلى القناعات الفكرية، وذلك بحكم ارتباط السياسة بالمصالح والمتغيرات، إلّا أن طبيعة المرحلة الممتدة منذ أواخر القرن التاسع عشر، حتى أواسط الأربعينيات من القرن العشرين، كانت غنية بالأحداث العاصفة والمصيرية، بالنسبة إلى العرب والمسلمين معًا، الأمر الذي جعل كلًّا من الجانبين، يمعن في تخندقه، ليقينه بأن ما استجدّ من أحداث -آنذاك- يؤكّد صحة وسلامة موقفه.
ولعل من أبرز تلك الأحداث التي أسهمت في تبلور التيارين الإسلامي والعروبي معًا:
1 – خسارة تركيا في الحرب العالمية الأولى، وتفكك السلطنة، وسقوط الولايات العربية في يد الاحتلال الغربي.
2 – نجاح الثورة البلشفية في روسيا، وكذلك قيام الثورات الاشتراكية في بعض بلدان العالم الثالث كالصين 1949، وكوبا 1959.
3 – تعرّض البلاد العربية للتجزئة، بعد معاهدة سايكس بيكو.
4 – الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
وحيال ما مرّ ذكره من أحداث، وجد القوميون أن الذات القومية يداهمها خطران: الخوف من الامّحاء والتلاشي، والوقوع تحت نير الاستعمار الغربي. وراح يؤرقهم هاجس مزدوج، إذ كيف يمكن الحفاظ على الذات القومية من الاختراق الاستعماري، مزامنةً مع ضرورة الانفتاح على الآخر (الغربي) ثقافيًا وحضاريًا؟ في حين وجد الإسلاميون أنفسهم ملزمين بالدفاع عن الإسلام في وجه عدوان غربي لم يروا فيه سوى عودة للصليبية من جديد، وكذلك في وجه غزو لا يطال الكيان المادي للأمة الإسلامية فحسب، بل يطال عمقها الحضاري والتاريخي معًا، أضف إلى ذلك أن المدّ الاستعماري الغربي حيال الوطن العربي -آنذاك- عزز في أذهان كثير من الإسلاميين موقفهم الرافض للنهج الإصلاحي الديني الذي دشنه إصلاحيو عصر النهضة (محمد عبده، رشيد رضا، وسواهم )، بل إن التدفّق الاستعماري الغربي ما هو -وفقًا لبعض الإسلاميين- إلا نتيجة للموقف المهادن الذي أبداه أسلافهم الإصلاحيون، وهكذا شهدت تلك المرحلة تبلور تيار إسلامي أكثر راديكاليةً، كان سيد قطب هو أول من أسس منطلقاته الجهادية.
لقد وجد كلا التيارين -القومي والإسلامي- في مرحلة الأربعينيات، كل عوامل التعبئة لنموّه واستمراره، إذ تزامن تبلور الفكر القومي مع صعود حركات التحرر في أكثر من قطر عربي، الأمر الذي أظهر فكرة القومية العربية على أنها حركة مقاومة للاستعمار، فضلًا عن كونها إطارًا جامعًا يهدف إلى مواجهة التجزئة التي أقامها الاستعمار داخل كيان الأمة الواحد، وكذلك يسعى إلى بعث أمجاد الأمة العربية والحيلولة دون تلاشي الذات القومية، الأمر الذي أكسب القوميين رصيدًا شعبيًا ظلّ في حالة صعود إلى نهاية الستينيات من القرن الماضي.
أما الإسلاميون فلم تكن مصادر التعبئة والحشد الأيديولوجي عسيرة المنال بالنسبة إليهم، حيث ضمنت لهم مرجعياتهم النصية المقدّسة ما يمكّنهم من الحديث بقوّة عن الالتزام بأوامر الله بإقامة الدولة وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، فضلًا عن عوامل أخرى عديدة، كظهور الشيوعية والاستعمار الغربي واستهدافهما للإسلام، وكذلك احتلال فلسطين الذي يعزز القناعة بالعداء لليهود، ليس بسبب احتلالهم للأرض فقط، بل بسبب نصّية العداء لهم قرآنيًا أيضًا.
من السياسة إلى الأيديولوجيا
اتّسمت مرحلة ما بعد الأربعينيات بتبلور الأيديولوجيا (العروبية، الإسلامية، الشيوعية)، وبدأ الاصطفاف الأيديولوجي يتأسس ليس على مجرد الآراء والقناعات الأوليّة فحسب، بل على نظريات فكرية وثقافية، تستقي مضامينها من المرجعيات المعرفية لكل طرف، فلم تعد العروبة -وفقًا للقوميين- مجرّد انتماء إلى كيان ما، ولم تعد -كذلك- مجرّد مواقف سياسية حيال حالة ما، بل أضحت نظرية متكاملة بنظر أصحابها، تتضمن مشروعًا نهضويًا يحمل تطلعات الأمة بالوحدة والنمو والازدهار والقوة، وكانت الترجمة العملية لتلك السيرورة هي ولادة أهم التنظيمات والأحزاب القومية في تلك الفترة (البعث – الناصرية). وبموازاة ذلك، بدأ التيار الإسلامي أكثر بلورةً مع الحضور الذي جسّده (الإخوان المسلمون) آنذاك، بتوجههم المنهجي الجهادي الذي أفصح عنه (سيد قطب) بكل وضوح.
وعلى الرغم من كثرة الأدبيات التي سطّر فيها الطرفان -القومي والإسلامي- سجالات وحوارات كثيرة، حاول فيها كلا الجانبين أن يبرهن على صوابيّة نظريته، فإن هذه الحوارات -على أهميتها- لم تكن تهدف إلى فهم كل طرف للطرف الآخر، بقدر ما كانت تنزع نحو إفحام الخصم، ولم يظهر في تلك الحوارات أيّ نزوع من كلا الجانبين، نحو التكاملية في مقاربة الحقائق، ولذلك غاب البعد المعرفي للحوار، وساد الخطاب الأيديولوجي الذي قلّما يُنتج أي مُنجز معرفي.
العقم الذي انتهى إليه سجال الأيديولوجيا ناتج -كما يرى كثيرون- عن أسباب تعود إلى ماهية الأيديولوجيا، باعتبارها تجسيدًا لمعتقدات وقناعات قارة في الذهن، وليست مجرّد أفكار خاضعة لنسبية الخطأ والصواب، أضف إلى ذلك أن مشروعية تصورات الطرفين -القومي والإسلامي- كانت متكافئة، ولكن غياب النزعة التكاملية في الفهم والمعرفة قد أبقى قناعات كلا الجانبين في حالة تنابذ.
شواغل مشتركة
على الرغم من التباين والتناحر بين العروبيين والإسلاميين -على مستوى الأيديولوجيا- منذ العقود الأولى في القرن العشرين حتى وقتنا الراهن، فإن ثمة سمات مشتركة بين الجانبين، منها ما يتعلق بطبيعة التفكير وآلياته، كاليقينية، والشمولية، والوثوقية، وهذه السمات تكاد تكون مشتركة لدى كل الأيديولوجيات ولا تنحصر لدى الإسلاميين والعروبيين فقط، وثمة سمات أخرى ذات صلة ليس بالتصورات فحسب، بل بآليات عمل كلٍّ من الإسلاميين والقوميين، إبان سعيهما معًا لتجسيد أهدافهما، ولعل من أبرز تلك السمات:
1 – المفهوم الإمبراطوري للدولة:
ثمة معايير متماثلة ثابتة لم تغادر المخيلة (العربية الإسلامية) في أي تصوّر لشكل وطبيعة الدولة، لعلّ أبرزها:
أ – اتساع الجغرافيا، باعتبارها مقياسًا لاتساع النفوذ، دون إعطاء أي أهمية أو اعتبار للخصائص النوعية لتلك الجغرافية، وأعني بذلك تجاهل المناخات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسكانية لكل (الأقاليم، المناطق، الأقطار) التي يمكن أن تنضوي في الدولة الواحدة. ولا شك في أن هذه النظرة تنبثق من إيلاء الأهمية للمشروع السياسي للدولة (المشروع)، دون إيلاء أي أهمية لمصالح الأقاليم أو البلدان الأخرى، وكما أن المسلمين ما يزالون يحتفظون بالصورة اللامعة للدولة الإسلامية الممتدة من الصين شرقًا حتى الأندلس غربًا، كذلك القوميون لن يرضوا دون أن تكون الدولة العربية ممتدة من المحيط إلى الخليج.
مشروع حيازة الجغرافيا، ثم إحكام السيطرة عليها، ينطلق من الدولة (النواة) التي هي غالبًا ما تكون عاصمة الخلافة عند الإسلاميين، تقودها حكومة ذات مركزية هرمية. ولعلّ خير من جسّد هذا التصور في الإرث النظري للقوميين هو الدكتور نديم البيطار، في كتابه (من التجزئة إلى الوحدة)، حيث يشيّد نظريته في بناء دولة الوحدة على ركيزتين اثنتين هما: (الإقليم القاعدة، الشخصية الكارزماتية)، وقد وجد الرجل لركيزتيه قرينتين تؤيدان طرحه الوحدوي آنذاك، وهما (مصر: الإقليم القاعدة)، (جمال عبد الناصر: الشخصية الكارزماتية).
ب – النظر إلى الدولة على أنها كيان يستمدّ مقوّمات قوّته وبقائه من قدرته على إخضاع المجتمع وإجباره على خدمة مشروعه السياسي – السلطوي في غالب الأحيان، أي إن قوة الدولة لا تتقوّم على تماسك وصلابة التماسك الاجتماعي وقدرتها على تلبية الحاجات المجتمعية، والتي تفضي إلى علاقة تفاعلية بين الجهتين، بل تتقوّم على انقياد المجتمع لمشيئة الدولة وتسخير طاقاته كلها لخدمتها، الأمر الذي يؤدي إلى نتيجتين حتميتين: انفصال الدولة عن المجتمع، ثم اختزال مشروع الدولة بمشروع السلطة.
ولم يعد ولاء الفرد للدولة -وفقًا لهذا المنظور- منبثقًا من شعور الأفراد بسعي الدولة للاستجابة إلى حاجاتهم وتطلعاتهم، بل من دأْب الدولة إلى امتثالهم أو انصياعهم لمشروع لا يرون فيه سوى أنه يجسّد مصالح من يحكمهم. ولعلّ هذا التصور العام لمفهوم الدولة ما زال يمتح من مرجعيات سالفة لم يعد بمقدورها الاستجابة لواقع مغاير لأزمانها الغابرة، وأعني بذلك النموذج الإمبراطوري للدولة، الذي ما زال يُعدّ النموذج الأرقى لجميع أنظمة الحكم ذات الأيديولوجيات الشمولية.
2 – تجاوز مفهوم (الوطنية)
يرى القوميون أن مفهوم (الوحدة العربية ) جاء ردًّا على واقع التجزئة الذي فرضته السياسات الاستعمارية على الوطن العربي، وبالتالي فإن جميع الكيانات أو الأقاليم التي كانت جسدًا واحدًا ثم تقطّعت إلى أوصال، بفعل الإرادات الاستعمارية الغربية، هي كيانات لا تحظى بشرعيتها (كدول قائمة بذاتها) من جانب معظم المفكرين القوميين، بل هي كيانات تجسّد حالة راهنة أو طارئة فرضها الاستعمار، وذلك ما أُطلق عليه في الأدبيات القومية بمصطلح (الدولة القطرية)، ومنذ ذلك الحين، اتسم هذا المصطلح بانطباع سلبي على الدوام، فالدولة القطرية باتت مصدر إيحاءات ذهنية ونفسية عديدة، فهي رمز للتجزئة والضعف والتخلف، بل باتت في نظر البعض مصدر الشرور والبلاء كافة، ولهذا فهي لا تستحق الاهتمام في بنائها وتطويرها، لأن هذا المسعى -كما يرى البعض- يجسد تكريسًا لما سعى إليه الاستعمار، فهي في أفضل حالاتها ليست أكثر من حالة راهنة، يجب تجاوزها إلى بناء كيان قومي موحّد تجتمع فيه الأوصال (الكيانات القطرية)، وذلك الكيان الموحد (الدولة العربية الواحدة) هو ما يستحق الاهتمام ويوجب التطوير.
ولعلّ ما يماثل هذا التصوّر قد لازم المشروع الإسلامي المُتَخيّل أيضًا، إذ لا يرى الإسلاميون أن طموحهم السياسي يمكن اختزاله ببناء دولة في بقعة جغرافية محددة من العالم، بل إن الدولة الإسلامية المنشودة هي التي ينضوي تحت لوائها المسلمون جميعًا، وليست التجارب الإسلامية في هذا البلد أو ذاك، إلّا حيّزًا جزئيًا، لن يكتمل إلّا بانتظامه أو التحامه بالأجزاء الأخرى، التي تشكّل جميعها دولة الإسلام.
لعلّ السمة المشتركة لكلا التصوّرين السابقين هي تجاهل ما هو واقعي ومحسوس ومعاش، واستمرار التفكير فيما هو مُتخيّل، وكذلك تجاهل الحقيقة القائلة: إنّ مشروعية أي حلم، إنما هي مشروطة بسلامة حوامله الواقعية الملموسة.
(الدولة القطرية) لدى القوميين، و(الولاية الإسلامية القائمة أو المُفترضة) لدى الإسلاميين، واللتان لا تجسّدان سوى واقع مذموم، وطارئ أو مؤقت لدى الطرفين، ما هما -في حقيقة الأمر- سوى الواقع الذي ضحّى به الطرفان، امتثالًا للحلم الذي تثبت الوقائع والمنطق معًا -يومًا بعد يوم- طوباويته وعدم جدواه.
فالكيانات الراهنة، في نظر الإسلاميين والقوميين، وهي في واقع الحال هذه الدول التي نعيش في أكنافها، لم تبدُ سوى دول مهترئة وهشة، ومبعث هشاشتها ليس بسبب عدم توحّدها، كما يوحي به خطاب الأيديولوجيات، بل بسبب افتقارها إلى مجمل النواظم القانونية والاجتماعية والأخلاقية التي تحدّد العلاقة فيما بين الأفراد بعضهم البعض، أو بين الفرد والدولة، وكذلك بسبب افتقار مواطني هذه الدول إلى الحصانة الإنسانية التي تتقوّم على الحريات بكل أشكالها، وعلى مبدأ المواطنة والديمقراطية وسيادة القانون، هذه الحصانة هي المؤسِّس الحقيقي لمفهوم الوطنية الذي سبّبَ غيابُه بروزَ مجمل التناقضات العرقية والطائفية والسياسية التي تستنزف طاقات الشعوب، فضلًا عن أن التجارب الوحدوية الأكثر نجاحًا عبر التاريخ، هي تلك التي تتأسس على وحدة المصالح وتكامل الاقتصاد وتلبية الحاجات المجتمعية، وليست تلك التي تتأسس على خطاب أيديولوجي مبعثه الدين والثقافة واللغة وحسب.
3 – التنظيمات والأحزاب العابرة للحدود
لعل السمة الأبرز بين الأيديولوجيات الشمولية جميعها هي تجاوزها لتموضعات الجغرافية المحلية، وسعيها نحو الامتداد والانتشار، وذلك وفقًا لمحدّداتها الفكرية والسياسية، ووفقًا لمعالم مشاريعها التي تسعى إلى تحقيقها، ولتحقيق هذا المسعى، كان لا بدّ من إيجاد حوامل مؤسساتية تعمل على تنظيم الآلية المناسبة لنشر الأفكار والترويج لها، ومن ثم تعمل على كيفية تنظيم واصطفاف الحواضن الشعبية لتلك الأفكار، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه: الأطر التنظيمية أو الحزبية، وسأكتفي بالإشارة الوجيزة إلى تجربتين حزبيتين: واحدة قومية، والأخرى إسلامية.
أ – حزب البعث العربي الاشتراكي
أُتيح لحزب البعث أن يقبض على السلطة في بلدين عربيين، هما سورية والعراق، وذلك من خلال انقلابين عسكريين: الأول في سورية (آذار 1963 وما يزال حاكمًا حتى الوقت الراهن، والثاني في العراق من تموز 1968، وكانت نهايته عام 2003 نتيجة الاحتلال الأميركي للعراق، وبسبب خلاف مستفحل بين قيادتي البلدين، إذ ادّعى كل واحد منهما حيازة الشرعية واتهم الآخر بالانزياح عنها، بات لكل قيادة منهما تنظيمات أو أحزاب فرعية في معظم البلدان العربية، وكان يُطلق على كل تنظيم من هذه التنظيمات (حزب البعث – القطر الفلاني)، إلّا أن جميع هذه التنظيمات القطرية تعمل وفقًا للبرنامج والنهج الذي ترسمه وتحدد ملامحه (القيادة القومية) التي تتموضع سواء في سورية أو العراق، ولعلّ ما هو مهمٌّ، في هذا السياق، هو الإشارة إلى أن مجمل النشاط الحزبي والحراك السياسي لتلك (التنظيمات القطرية)، لم تكن -في غالب الأحيان- بواعثه ومحركاته هي الواقع الاجتماعي لمجتمعاتهم المحلية، وكذلك لم تكن رؤاهم وتصوراتهم السياسية مستقاة أو مُستلهمة من احتياجات أبناء أو سكان بلدانهم المحليين، بل يمكن القول: إن جميع التنظيمات القطرية كانت تعمل وفقًا لما تمليه عليها مصالح القيادة الحاكمة، سواء في العراق أو سورية، فدمشق وبغداد هما قِبلتا البعثيين، فمن كان بعثيًا أردنيًا على سبيل المثال، فعليه أن ينظر للواقع الأردني من خلال المصلحة العراقية، وهكذا.
ب – الإخوان المسلمون
تؤكّد قوى الإسلام السياسي كافة، الجهادية منها والدعوية، أنها تستوحي أهدافها وغاياتها من مرجعيات نصية مقدّسة، كما تؤكد أن من مهامها تنفيذ أوامر الله على الأرض، ولئن اجتهدت هذه القوى في صياغة بعضٍ من شؤونها التنظيمية أو الإدارية، نتيجة حاجات تكتيكية تقتضيها ظروف العمل، فإن اجتهادها حول المسائل الأساسية، كالغايات والأهداف الكبرى والأولويات، يبقى مشروطًا بقرائن نصية. ولعل هذا الأمر يجعلنا ندرك، بيسرٍ، السبب أو العلّة التي تحدد آليات عمل الإخوان المسلمين وأولوياتهم التي يعلنونها، ذلك أن ما يعلنونه بوضوح، هو أن أولوياتهم تتوجه نحو عموم المسلمين، قبل أي صفة عرقية، أو مناطقية أو إقليمية، أولئك المسلمين الذين ينتشرون على امتداد الكرة الأرضية، وبهذا يكون برنامج الحزب أو التنظيم، ونشاطه وحراكه وأولوياته البرامجية غير مشروط بانبثاقها من الحيّز المحلّي أو الجغرافيا التي يتموضع فيها الحزب، بل هي عابرة لحدود الإقليم أو الدولة.
لعلّ السمة المشتركة بين القوميين والإسلاميين معًا، هي محاولة كل منهما تجاوز التخوم الوطنية، بل تجاهلها في كثير من الأحيان، باعتبارها حالة طارئة، بل غالبًا ما كان التمسّك بها يُعدّ انكفاءً عن الهدف الأكبر أو الأسمى.
الأيديولوجيا وثورات الربيع العربي
لعلّ ما هو ثابت أن ثورات الربيع العربي جسّدت مرحلة تحوّل تاريخي اجتاحت المنطقة العربية، وليست مجرّد حالة تغيير سياسي في هذا البلد أو ذاك، وبالتالي فرض هذا التحوّل الكبير استحقاقًا شديد الأهمية، كان على جميع القوى الاجتماعية والسياسية أن تبدي موقفًا عمليًا مما جرى، فكيف واجه الإسلاميون والقوميون هذا الاستحقاق؟
ينبغي التأكيد أن مجمل ثورات الربيع العربي لم تكن من هندسة الأحزاب والكيانات السياسية التقليدية أو الحديثة، وكذلك لم تحمل هذه الثورات شعارات الأحزاب وأهدافها المعهودة، بل انطلقت بفعل حراك شعبي جماهيري شبابي غير مقيّد ببرامج حزبية، وغير مرتهن لأي أيديولوجيا محددة، بل إن أكثر الأحزاب السياسية التقليدية لم تفلح بالتفاعل الإيجابي مع تلك الثورات، مما جعل التحاقها بالثورة -في أكثر من بلد عربي- عبئًا على الثورة، ومعطّلًا لسيرورتها في أغلب الأحيان.
لقد أحرز التيار الإسلامي، منذ ثمانينيات القرن الماضي فما بعد، صعودًا شعبيًا متناميًا، وذلك بفضل عاملين اثنين: الأول فشل التجارب اليسارية -القومية والشيوعية- وإخفاقها في تجسيد نماذج سلطوية ناجحة، وقادرة على الاستجابة لتطلعات المواطن الاجتماعية أو السياسية؛ والثاني المظلومية الناتجة عن استهداف الأنظمة القائمة والغرب معًا لمعظم التيارات الإسلامية.
وبهذا يكون سخط الإسلاميين العنيف على الأنظمة القائمة ومناهضتهم لها، يلقى كثيرًا من الاستجابة، ويتقاطع مع كثير مما في نفوس شعوب المنطقة العربية، علمًا أن هذا التقاطع يتقوّم في أغلبه على العداء للسلطات الحاكمة فقط، وليس على حوامل أخرى، الأمر الذي مهّد لهم -على المستوى الشعبي- حيازة حضور كبير في أنساق الثورات، وبخاصة في مصر وسورية، وبقدر ما كان هذا الحضور فرصةً تاريخية للإسلاميين للاندماج في المشروع الوطني، فإنه جسّد من جهة أخرى لحظةً فارقةً أثبتت -من الناحية الفعلية- عدم طواعية الأيديولوجيا الإسلامية، كما جسّدها الإسلاميون، لأن تكون حاملًا اجتماعيًا صالحًا للاندماج في حوامل المشروع الوطني، بل غالبًا ما بقيت تلك الأيديولوجيا حاجزًا منيعًا، يحول بين القوى الإسلامية وبين بقية أطياف الحراك الثوري الشعبي وما يحمله من تطلعات وأهداف، ولعلّنا لا نحتاج إلى الإفاضة في الحديث عن توجّه الإخوان المسلمين في الثورة السورية نحو استثمار المال في تكوين فصائل عسكرية مؤدلجة الشعارات والأهداف، وكذلك في استثمار الجانب الإغاثي وتوظيفه في الاستقطاب السياسي والميداني.
لقد أراد الإسلاميون أن تلتحف الثورة بعباءتهم الأيديولوجية، بحجة أن أكثرية السوريين هم من المسلمين، بل لم يتورع كثير منهم، عن اعتبار أن ثورة 2011 هي امتداد لثورة قام بها الإخوان المسلمون عام 1980.
ولئن تجسّد الدور الإسلامي في الثورة السورية، من خلال اعتلاء موجتها، ومن ثم إطلاق معاول الهدم في مفاصلها وأنساقها، فإن موقف العديد من القوى والأحزاب القومية قد تمثّل بالوقوف المعلَن لمناهضتها، والانحياز السافر إلى النظام الحاكم، وذلك بذريعة أن ما يجري هو استمرار للمؤامرة التي يحوكها الغرب على دول الممانعة والمقاومة، وما التدخل الدولي في الشأن السوري سوى امتداد لتلك المؤامرة، وفقًا لهؤلاء، ولعلّ اللافت في موقف تلك القوى أنها لم تكترث لطبيعة العنف الذي وصل إلى أقصى درجات الإجرام، الذي مارسته السلطة السورية بحق مواطنيها، فضلًا عن التداعيات الكارثية لذلك الإجرام، كالتشرد والنزوح واللجوء الذي طال أكثر من ثلث سكان سورية، وكذلك لم تكترث لاستنجاد نظام الأسد بكل قوى العدوان الدولية منها والإقليمية، بما في ذلك الاستنجاد بإسرائيل، مما يبعث على التساؤل: ما هي طبيعة المقاومة التي يجسدها الأسد بالنسبة إلى القوميين؟ وفي وجه من؟ ثمة ما يوجب القول: إن مجمل كلام العديد من القوى القومية على الديمقراطية ومراعاة الحقوق الإنسانية، وكذلك كلامهم عن مراجعات مستمرة لمنظوماتهم الفكرية والسياسية، في غالب الأحيان، يبقى كلامًا تنقصه المصداقية والانسجام، أي أنه خطاب يثبت أن المراجعات المزعومة لم تلامس عمق الأفكار المتجذرة في الدواخل، وكذلك لم تكن عاملًا يسهم في تحرير الإرادات بغية تجاوز ما تراكم من ردميات الأيديولوجيا، بل ظلت -في أحسن الأحوال- مجرّد خطاب يهدف إلى التبرير، أكثر مما يسعى إلى التغيير.
لعل الردّ الأمثل على تجليات الأيديولوجيا بفرعيها القومي والإسلامي معًا، هو مجمل الشعارات التي رددتها حناجر الحراك الشعبي في أغلب ثورات الربيع العربي، بدءًا من انبثاقها من حراك شبابي لم يكن محكومًا بتوجهات أي أجندة حزبية سابقة، ومرورًا بمطالب تمسّ الواقع الحياتي للمواطن، كالمطالبة بزوال الاستبداد وإحقاق الحريات بأشكالها كافة وتحسين الأوضاع الاقتصادية وتوفير فرص العمل.. إلخ، ولم يكن يشغل حراك الثورات التي انطلقت في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية والسودان، ما كان يعدّه القوميون والإسلاميون من أولويات النهضة، بل يمكن القول: إن ما جسّده حراك ثورات الربيع العربي هو ما كان غائبًا في الأطر الأيديولوجية السابقة، وأعني مسائل التنمية الاجتماعية، كالازدهار الاقتصادي ومعالجة البطالة والقضاء على الاستبداد، والعمل على إقرار الحريات بأشكالها كلها، وتحقيق مبدأ المواطنة والديمقراطية وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، ذلك أن هذه المسائل هي الركائز الأساسية التي ينهض عليها مفهوم (الدولة الوطنية).
لئن كان نظام الاستبداد والتوحّش له الدور الأبرز في تعزيز حالة الموات السياسي والثقافي، وكذلك في إنتاج مشاهد الخراب الاجتماعي التي حالت دون قيام شكل سليم للعلاقة بين الفرد والدولة، وكذلك أسهمت في تغييب المعنى الجوهري لمفهوم (الوطنية) الذي اختزله الحكّام بمفهوم (الولاء للسلطة)؛ فإن الكشوفات المعرفية لثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه الخصوص، ما زالت تكشف باستمرار عن المزيد من الرواسب التي تعزز مسعى الأنظمة المستبدّة، والمؤسف أن هذه الرواسب لا تكمن فقط فيما حفرته أنظمة الاستبداد، بل في تلافيف وأفكار العديد من القوى المناهضة للأنظمة أيضًا، وما حالة الإخفاق التي تواجهها قوى الثورة السورية -على سبيل المثال- والمتمثلة بعدم قدرة هذه المعارضة، بعد انقضاء ثماني سنوات من عمر الثورة، على إنجاز مشروع وطني جامع قادر على أن يكون بديلًا للنظام الحاكم، إلّا أحد تجليات العقم الذي بدا يتمظهر بأشكال شتى، لعل أشدّ أشكالها سطوعًا هو الصراع العلماني الإسلامي وتداعياته الفكرية والسياسية (الديمقراطية، المواطنة، حرية الاعتقاد، حقوق المرأة).
الحديث عن عقم الأيديولوجيا التقليدية، بتجلياتها وأنواعها، بات حديثًا دارجًا ومطروقًا في المنحى التعميمي، وكذلك الحديث عن ضرورة الشروع في تجديد آليات التفكير واستلهام المفاهيم العصرية والجديدة لبناء دولة المستقبل بات يحظى باهتمام واضح، إلّا أن الامتثال الحقيقي لهذه التصورات لم يغادر الحيّز الرغبوي لمعظم الأطر الحزبية أو التنظيمية، وانتقاله من حيّز الرغبة إلى حيّز الفعل يحتاج إلى إرادات تتماهى مع إرادات الأجيال التي أطلقت ثورات الربيع العربي، ولا تكتفي بالتماهي مع رواكدها الأيديولوجية فحسب.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة