الجماهير في تونس ما زالت تبحث عن «الأب»

أحمد نظيف

في كتابه البديع «الزحف المُقدس»، يفتتح المؤرخ المصري شريف يونس بصرخة بلسان أحد أبطال مسرحية غاليليو لبرتولد بريخيت: «تَعِسٌ ذلك البلد الذي يحتاج إلى بطل». وهي من القوالب التي علقت في ذهني بشدة، وأجدني أرددها بلا وعي دائماً. ومناسبة هذا التذكّر، التظاهرات التي ملأت الشوارع التونسية، دعماً وتأييداً للرئيس قيس سعيد، مع أن سعيد يملك بين يديه صلاحيات لم يملكها أي رئيس تونسي منذ رحيل زين العابدين بن علي عن السلطة عام 2011.

«الزحف المُقدس»، ليست مجرد استعارة، بل شعار رفعه العشرات من الأصدقاء على صفحاتهم في شبكات التواصل الاجتماعي تحشيداً ودعوةً الى المشاركة في التظاهرات. كان لافتاً ذلك الشعار بشحنته العاطفية الشديدة التوتر، لكنه يخفي وراءه حنيناً إلى «الأب القائد»، وإن بدا حنيناً لاواعياً ينكره أصحابه، رافعين حججاً عقلانية متماسكة للرد على كل مخالف. والحقيقة أن التونسيين عاشوا في حضن «الأب» ردحاً طويلاً من الزمن بكل ما يعينه ذلك الحضن من قدسية ومفارقة ورعاية، بوجوه مختلفة وشديدة التعقيد. فعند الهزيع الأخير من حقبة الاستعمار، تفطن الرئيس الحبيب بورقيبة باكراً إلى هذا الاستعداد اللاواعي لدى قطاعات واسعة من الأهالي لتسليم زمام أمرهم للأب القائد، مقابل الرعاية، في نوع من رفض الفطام. لذلك توجه مباشرةً بعد الاستقلال إلى المراهنة التاريخية على التغيير الفوقي، عبر جهاز الدولة، فقام بربط مشروع التحديث المجتمعي بالسلطوية الأبوية، مبرراً ذلك بقصور فهم الشعب عن إدراك لحظة التقدم التاريخي، معتبراً أن تأميم الصراع الاجتماعي وقمع الحركة الحرة للناس خارج سلطة الدولة السبيل الوحيد نحو الوحدة الوطنية، حتى أنه يتعجب في إحدى خطبه الكرنفالية، نهاية ستينات القرن الماضي، من وجود فكرة «المعارضة»، محذراً من أنها ستقود حتماً إلى انقسام المجتمع والاحتراب الأهلي. على الشاكلة نفسها الذي يتعجب فيها الأب من وجود عصيان داخل العائلة، فالمعارضة هنا ليست إلا نوعاً من «العقوق» بمعناه الأخلاقي والديني المقدس.

في الزحف المقدس يحلل يونس، معتمداً منهجاً صارماً، تظاهرات التنحي، التي أعقبت إعلان الرئيس المصري جمال الناصر تخليه عن السلطة بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967. وينتهي إلى أن هوس الجموع بفكرة «الخلاص والمُخلص» هو نوع من التخلي عن مسؤولية الذات أمام الفشل والأقدار. وهذه الجموع ستبقى دائماً تنتظر مخلصاً، المهدي أو المسيح أو السيد الرئيس القائد أو الأب، المهم أن يأتي الخلاص والمخلص، من دون أن تفكر يوماً في النظر إلى دواخل ذاتها والبحث عن الحلّ في الداخل. في داخل كل فرد. وإن كانت السياقات التاريخية تبدو شديدة الاختلاف بين لحظة حزيران 1967 والحالة التونسية الراهنة، إلا أنها تتطابق جوهرياً في زاوية تخلي الجموع عن مسؤوليتها وحريتها لفائدة أب يقودها نحو خلاصها، أي أنها تتعلق بأي قشة تنجيها من الغرق في بحر مسؤوليتها التي يجب أن تقوم بها هي نفسها. وهي في وجه آخر من وجوه هذه المأساة تلخص ما ذهب إليه إيرك فروم من أن «الإذعان والتسليم لسلطة قوية هو أحد السبل التى يستطيع بها الإنسان أن يهرب من شعوره بالوحدة والمحدودية! وفي فعل الاستسلام يفقد استقلاله وتكامله بوصفه فرداً ليكتسب الشعور بأن قوة مهيبة تحميه، بحيث يصبح جزءاً منها».

وهذا تماماً ما يحدث لهذه الجموع التي، وإن كانت كثيرة، فإنها تشعر بوحدة قاتلة ومحدودية في الحركة والتغيير، فتبحث لها عن قائد أو أب يقوم عنها بذلك الجهد المرير للخروج من وحدتها ومحدوديتها، من دون أن تخرج من دائرة الراحة التي تقيم فيها. وعلة كل ذلك هو الشعور المديد بالعجز، حيث فقدت هذه الجموع منذ زمن طويل الوعي بقدراتها الذاتية الخلاقة، بل إن هذا الفقد الخطير دفع بها في سياقات أخرى إلى التشبث بأي مخلص، يداعب مشاعرها وينفذ بشعاراته إلى مكامن حسها البسيط.

وهذا التعلق بالمخلّصين والآباء والقادة ليس حكراً على رؤوس السلطة السياسية المحلية، بل يمكن أن يصل إلى مراحل قصوية شديدة الحدة والتطرف، وهو ما عاشته قطاعات واسعة من المجتمعات العربية في أعقاب حوادث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، والتعاطي الأميركي مع الحوادث، حيث تحولت أفكار القاعدة والتيارات الجهادية إلى خطاب تغييري مهيمن يشكل خلاصاً لدى قطاعات واسعة من الشباب خاصةً، من الأوضاع التي تعيشها المنطقة على المستويين السياسي والاقتصادي، لا سيما أن هذا الخطاب يتسم بالشعبوية الطاغية، ويقدم حلولاً سحرية لجميع المشكلات في شكل شعارات، ويُبشر بـ«دولة الخلافة الفاضلة»، والأهم من ذلك أنه يناكف القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، حتى أن الشباب رأوا فيه عزاءً لما تعيشه دولهم من عجز تجاه أميركا، شبهه البعض بالخُصاء.

أذكر هنا، أمراً كان محل تندر وسخرية في المجالس الضيقة للطلبة في تونس، إذ كان بعض أنصار أحد تنظيمات اليسار القومي في تونس يعتبرون أسامة بن لادن مناضلاً فذاً ضد الإمبريالية الأميركية، الأمر الذي كان وما زال يعبّر عن حالة يأس كالحة يتعلق صاحبها برئيس منظمة إرهابية في خصومته مع أميركا.

وللإنصاف، كان ذلك الوعي «النائم مع الشيطان»، حالة عامةً في العالم العربي، فرجل الشارع العربي البسيط، كان يرى في الجهاديين القوة الوحيدة التي أخذت بثاراته من أميركا، وأن بن لادن عندما أسقط قضبان برجي التجارة قد عالج الخُصاء بالخُصاء، في استعارة لتشبيه الراحل جورج طرابيشي للأبوية التي يتميز بها التراث في نظر طائفة واسعة من المثقفين العرب. أجيال عديدة فتحت عينيها على حالة من العجز والتبعية والاحتلال العسكري المباشر، ولم تجد من يأخذ بثأرها. بدت الذات العربية والمسلمة، غارقةً في «وحل الهزيمة المركبة» عسكرياً ومعرفياً ونفسياً، وتبحث عن يد تمتد لها لتنقذها حتّى لو كانت يد الشيطان، حتى وإن كلفها الأمر أن يجعل ذلك عجلة تاريخها ترجع القهقرى.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى