شهد العامان الأخيران أحداث عنف متفرقة في أجزاء واسعة من إقليم دارفور غربي السودان، ورغم أن هذه الحوادث لم تجد في غالبها التغطية الإعلامية التي تستحقها، إلا أنها كانت من الخطورة، بحيث تهدد الأمن والاستقرار في الإقليم، بل في جميع المنطقة. أحد أسباب التعاطي البارد مع تلك الأحداث، التي راح ضحيتها العشرات من المدنيين، هو قناعة البعض بأن الإقليم في حالة حرب دائمة لا تتوقف، وأن هذه هي طبيعة سكانه الذين يبدون متعايشين مع حياة المنازعات القبلية وما يرتبط بها من غزو وكر وفر.
وجهة النظر هذه تجد من المثقفين من يساندها، معتبراً أن دارفور كانت على الدوام محلاً للنزاع القبلي الداخلي، وأن هذا التنازع هو ما كان يؤدي لتآكل السلطات التي حكمتها ولسقوطها في يد أعدائها، بالإضافة إلى كون هذه النظرة غير إنسانية، لأنها تعتبر أن مصيبة الموت قد تكون أكبر إذا وقعت على بعض الناس دون غيرهم، فإنها أيضاً تتجاوز الحقيقة الواضحة، وهي أن الإقليم دخل في حالة من الاضطراب العنيف الذي فرضته ظروف موضوعية فقط منذ بدايات عام2003 ، كما أنه دخل في حالة من الاستقرار النسبي مع نهايات عام 2016 حين بدأت الأمم المتحدة تقتنع بأن الأزمة لم تعد تستحق الوجود الأممي العسكري الكثيف، بالفعل كانت التوترات قد انحسرت، بشهادة المنظمات الأممية، لتبقى في شكل مواجهات بين سلطة مركزية وحركة متمردة وحيدة تسيطر على مساحة ضئيلة. كان من المأمول أن تنتهي الأزمة بشكل تام بعد تغيير نظام عمر البشير واستبداله بحكومة انتقالية تتبنى مشروعاً معاكساً، وتوجهات مناقضة لتوجهات السودان القديم، لكن الذي حدث كان اتفاق سلام باهت لم يحقق تطلعات مواطني الإقليم، ولم يشمل جميع القوى المؤثرة، ولم يكن حبر الاتفاق قد جف حتى تولّد عدد من الأزمات الصغيرة التي تسبب فيها العجز عن فهم متطلبات أصحاب المصلحة الحقيقيين، سواء في ما يتعلق بالتقسيمات الإدارية أو اختيارات الولاة والمسؤولين أو توزيع الثروة.
بالتوازي مع ذلك لم يساهم سقوط البشير، بما كان يمثله من مشروع إسلامي عروبي، وإعلان حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك لعلمانيتها وحيادها أمام كل الأديان واللغات، في تجسير الهوة بين المكونات العرقية المختلفة داخل الإقليم، فتجددت الصراعات وحوادث الاستهداف على الهوية، بل لم يعد الأمر في العهد الجديد مقتصراً على دارفور. ما يزال الخبراء والمحللون عاجزين عن تتبع أسباب تلك الردة إلى القبيلة والعرق، وهي ردة تتجاوز تلك التقسيمات الكلاسيكية بين العروبة والزنوجة، حيث وقعت أحداث مؤسفة بين أبناء عمومة من قبائل متجاورة، لكن الدلالة الأهم التي يمكن رؤيتها بسهولة هي فشل القراءة الغربية لأزمة دارفور، التي سادت لوقت طويل، وتم تبنيها بشكل متبادل بين دوائر صنع القرار العالمي وناشطين محليين. كلا الجانبين كان يرى أن مصلحته تكمن في تبني تلك السردية التي تختزل الصراع في صورة عرب بيض، يلاحقون أهل دارفور السود من أجل التصفية وتغيير الديموغرافيا عن طريق الاغتصاب، كانت تلك الدوائر ترى في هذه الرواية، على ما فيها من تبسيط وسذاجة، مادة مناسبة وذريعة جيدة قد تساهم في إضفاء مسوغ أخلاقي وتعاطف مع أي منحى للإطاحة بالرئيس العنيد، البشير، والمعادين للغرب من أركان حكمه. من جانب آخر كان كثير من الناشطين يرى أن بإمكانه بيع هذه القصة بسهولة في أسواق المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية، فيكفي مثلاً مقارنتها بما حدث في رواندا لاكتساب كثير من الدعم والتعاطف. بالفعل شهد العقدان الأولان من هذا القرن استفادة المئات من هذه السردية، سواء عن طريق الكسب الشخصي بالحصول على اللجوء السياسي، أو الإقامة في إحدى دول الغرب، أو عن طريق تأسيس منظمات، أو العمل بشكل مباشر مع مراكز غربية والتحول إلى ما يسمى بـ»المخبر المحلي» الذي ينحصر دوره في تثبيت ما يود «الآخر» أن يثبته من ادعاءات. هنا تصبح اللعبة شديدة الطرافة، فمن ناحية تعتمد المنظمات ودوائر صنع القرار، وتستشهد بما يقدمه هؤلاء المخبرون المحليون، ومن ناحية أخرى تخرج الدراسات والتقارير «الدولية» فيستشهد بها الناشطون.
مثلما اعترف كثير من الأمريكيين بعد خراب بغداد، بأن جميع مسوغات الحرب على العراق كانت كاذبة، وبأن المخابرات والجيش الأمريكي وقادة البيت الأبيض كانوا، في معظمهم، مقتنعين بأن لا علاقة يمكن أن تربط صدام حسين بتنظيم «القاعدة» أو بهجمات سبتمبر، مثل ذلك اعترف كثير منهم بأن ديباجة «الإبادة الجماعية» كانت مجرد مبالغة تهدف لجعل استهداف نظام البشير مبرراً. كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق الذي عاصر الأحداث وزار دارفور إبان احتدام الأزمة كان من المعترفين، حيث شرح في أحد لقاءاته العامة، أن أسباب استخدام مصطلح «الإبادة الجماعية» كانت داخلية متعلقة بانتخابات الكونغرس والتنافس الحزبي. هذا لا يعني بأي حال أنه لا توجد أزمة في الإقليم تعود جذورها إلى ما هو أبعد بكثير من عام 2003، كما لا يعفي ذلك الحكومات السابقة من ارتكاب أخطاء فاقمت الصراع ومنحته فرصة التدويل، لكن بالمقابل فإن اعتبار أن الغرب اهتم اهتماماً مكثفاً بإنسان غرب السودان بدوافع محايدة، يبدو شديد التبسيط، فالغرب ذاته ما يزال، يرفض تجريم الاحتلال الصهيوني وممارساته المتوحشة.
يبدو الأمر أشبه بالضغوط التي تمارس على الصين حالياً في ما يتعلق بقضية الإيغور، فمن ناحية لا يمكن تبرير ما تقوم به الصين تجاه الأقليات المسلمة، ومن ناحية أخرى لا يمكن فصل هذه الضغوط عن الإطار السياسي الذي يشهد تصاعد التنافس بين المحور الغربي من جهة والمحور الصيني الروسي من جهة أخرى.
في أزمة دارفور كان الباحثون الذين لا يفوتون فرصة لانتقاد كل ما هو عربي أو إسلامي من المستفيدين من تلك السردية عن الصراع بين العرب والأفارقة. أراد أولئك، وفيهم سودانيون وأجانب، القول إن ما يحدث لا ينفصل عن تاريخ الممالك الإسلامية الذي كان مبنياً على الرق وعلى التفريق بين الأعراق والتمييز ضد غير المسلمين. استفادت الحركة الصهيونية أيضاً من تدويل قضية دارفور، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، عبر تبنيها والإنفاق عليها، باعتبار أن ذلك يصب في مصلحة الكيان الذي كان يعاني من ضغوط شديدة وحملات شعبية واسعة لمقاطعته، خاصة إبان إعلانه الحرب والحصار على قطاع غزة. المفارقة هنا لا تكمن في اعتراف بنيامين نتنياهو بدعم حملة دارفور، أو في انطلاق تحالف «أنقذوا دارفور» من متحف الهولوكوست في نيويورك وإنما في توقيت تجريم الرئيس عمر البشير، ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه أحرار العالم عقوبة رادعة تلحق بالكيان الصهيوني عقب عدوانه غير الإنساني، واستخدامه أسلحة محرمة ضد الشعب الفلسطيني، كانت «محكمة الجنايات الدولية» تقود أنظار المشاهدين إلى اتجاه آخر، متجاهلة، إلى يومنا هذا، الموضوع الفلسطيني وغيره من الجرائم التي ارتكبتها القوى الأكبر التي يرفض بعضها الاعتراف بالمحكمة.
اليوم يبدو الوقت مناسباً لإعادة التفكير في كل ذلك، والبحث عن حلول حقيقية وشاملة عوضاً عن تكرار السرديات القديمة التي استنفدت أغراضها حتى عند من صنعوها.
كاتب سوداني
المصدر: القدس العربي