هل القَبَلِيَّةُ هي الحلُّ في سورية والبلدانِ العربيةِ؟

تحت عنوان “لماذا انتصرتِ القبائلُ الأفغانيةُ على الولايات المتحدة ؟”، كتب المؤرخُ الأميركيُّ جيريمي سوري Jeremi Suri في مقال بمجلة فورين بوليسي(Foreign Policy)  بتاريخ  16 اب 2021 عن أسباب الهزيمةِ التي تعرضت لها الولاياتُ المتحدةُ الأمريكية في أفغانستان على يد حركة طالبان، واصفًا شبكاتَ القرابةِ المُحكَمةِ الترابطِ بين طالبان – التي أغلبُ أفرادِها من قبيلة البشتون – بأنها ليست من مخلّفات الماضي بل هي شكل حديث وفعَّالٌ من أشكال التنظيم السياسي.

يقول سوميت غوها Sumit Guha مؤلف كتاب “القبيلة والدولة في آسيا عبر 25 قرنا (Tribe and State- in Asia Through Twenty-Five Centuries): “إن المناخَ والتضاريس الطبيعية (الطبوغرافيا) تتيحُ أشكالًا من التنظيم الاجتماعي تتسمُ بطابع رعوي ولا مركزي على أطراف الإمبراطوريات والدول” .ويضيف غوها Guha: “إن المجموعاتِ السكانيةَ في مناطق أفغانستان وما حولها تعتمدُ في معيشتها على شبكات القرابةِ والتكيُّفِ مع البيئة، وتقاومُ الدخلاء الأقوياء وتتكيفُ بشكل خلَّاق مع المتغيرات السياسية والاقتصادية”.هنا يؤكد غوها Guha أن القبائلَ ليست من بقايا ماضٍ مفقود بل هي أنماطٌ حيويةٌ وحديثة من التكيف مع التهديدات والمحفزات في عالمنا المعاصر.

يوضح المؤرخ الأميركي جيريمي سوري Jeremi Suri في مقاله أنه بينما تسعى الدولُ القويةُ لفرض قوانينِها وأهدافِها، تعملُ القبائلُ على التكيُّفِ معها ومقاومتِها بدهاء ملحوظ لِمَا تملكُه من ميزة نابعةٍ من أن البيئةَ السياسيةَ تحابي المجتمعاتِ الرعويةَ واللا مركزية.

منذ الأيام الأولى التي أعقبت هزيمة طالبان في آواخر عام 2001، أدرك صنَّاعُ السياسةِ الأميركية مدى صعوبةِ جمعِ البشتونِ والطاجيك والهزارا والعديد من القبائل الأخرى في اتحاد سياسيٍّ واحد. ويتوقع المؤرخ جيريمي سوري Jeremi Suri أن طالبانَ ستواجهُ على الأرجح مقاومةً في المستقبل من العديد من القبائل، ولا سيما في الشمال، لكنها لن تحاولَ إقامةَ دولةٍ مركزية بيروقراطية كتلك التي سعتِ الولاياتُ المتحدةُ لبنائها.

توماس فريدمان Thomas Loren Friedman كتب في عموده الأسبوعي بصحيفة “نيويورك تايمز” (The New York Times) كلاماً خطيراً بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان قائلاً: “نحن في بداية واحد من أكبر التحدياتِ الجيوسياسية التي يواجهُها العالمُ الحديثُ”.

لنقارب الآن الحالة الطالبانية مع الحالة السورية .في السيناريو السوري ،مع أنِّ ما بين 60 الى 70 في المائة من السكان السوريين ينتمون إلى عشيرة أو قبيلة-وفقاً لتقديرات ما قبل عام 2011- فإن التحولاتِ الهائلةَ التي شهدها المجتمعُ السوري في السنوات العشرِ الماضية قد حدَّت من تأثير العشائرِ والثقافة العشائرية على الحياة الخاصة والعامة. فعلى الرغم من أنّ جميعَ أطرافِ الصراع في الثورة السورية حاولتِ الاستفادةَ من الهويات القبلية، فإنّ تحويلَ الولاءاتِ والتغييرات الاجتماعية كان يعني في كثير من الأحيان محاربةَ الأقرباء القبليين لبعضهم بعضا. وتُعدّ هذه الميوعةُ في الولاءات سمةً أخرى يعدُها العديدُ من الأبحاث جزءاً من ثقافة العشائر العربية.فعلى سبيل المثال لا الحصر تبدّلت ولاءاتُ منطقةِ الجزيرة السورية بين النظامِ والمعارضةِ وداعش، فبحسب محللين يبدو من الطبيعي أن يُظهِرَ أبناءُ العشائر في المنطقة الولاءَ للجانب الذي يسيطرُ على أراضيهم. وهكذا فإنّ ولاءَ العشائرِ هنا قد تغيَّر مراراً وتكراراً من طرفٍ إلى آخر خلال العشر سنوات، كما أنّ المعاركَ قد نشبت بين أفرادِ العشيرِة نفسِها، وهو ما كان يصعبُ تصوُّرُ حدوثِه في السابق.

لقد تسببتِ الثورةُ السوريةُ منذ عشرِ سنواتٍ بعاصفة مزّقت مجتمعَ العشائرِ العربيةِ التي تتبع في غالبيتها المذهبَ الإسلامي السني. وفي الوقت نفسه، مثَّلتِ الثورةُ فرصةً لعشائر الأقلياتِ والديانات الأخرى، مثل العشائر الكردية والتركمانية والعلوية والدرزية والمسيحية، لإعادة حضورهم في المجال العام.وبسبب التهديداتِ الشائعة أو مصادر الدعم الجديدة، عادت هذه العشائرُ إلى الوجود مرة أخرى، وذلك مع تلقي الأكرادِ الدعمَ من حزب الاتحاد الديمقراطي، وكذلك حصولُ التركمان على دعم تركيا.

 تعمل أنقرةُ منذ فترة لا باسَ بها على تجميع كتلةٍ كبيرة من العشائر المؤيدةِ للمعارضة السورية في مجموعة موحدة يمكنُ الاعتمادُ عليها كحليف فاعل.لكن لا يبدو الوضعُ الشرقُ أوسطي يشبهُ التركيبةَ القبلية الأفغانية التي كما ذكرها سوميت غوها Sumit Guha بأنها تركيبةٌ سكانيةٌ تعتمدُ في معيشتها على شبكات القرابةِ والتكيف مع البيئة وتقاوم الدخلاء وتتكيفُ بشكل خلَّاق مع المتغيرات السياسية والاقتصادية، ففي بلادنا العربية مثل سوريا والعراق واليمن والخليج تم لسنوات طوال -بعد منتصف القرن الفائت – ربطُ القبيلة ونمطِ حياتها ومصالحها مع السلطة السياسية المركزية وساعد على ذلك مركزيةُ الدولةِ وطبيعةُ البنى الاقتصادية (الاقتصاد الاشتراكي، والاقتصاد النفطي) وبالتالي تحكم السلطةُ السياسيةُ المركزية المعترف بها دولياً بالثروة. لا يُبدي المحللون تفاؤلَهم باحتمال حصولِ البنية القبلية في الشرق الأوسط على غلّةٍ وفيرةٍ كتلك التي جنتها طالبان، إلا إذا نجحت تلك البنية في إيجاد حلول للمنافسة والحساسيات التقليدية التي تحكم العلاقاتِ فيما بينها – وحتى داخل العشيرة نفسها.

يذكر التاريخُ للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه حثّ القبائلَ العربية في الجزيرة على الانتقال والترحال إلى بلاد جديدة لتحمل معها الإسلام، ولتكونَ بمثابة قواعدَ أمامية أو ثغورٍ ومرابطَ للدفاع عن الدولة الإسلامية الفتية، ووعدها آنذاك بأن تحصلَ على نصيب من مدخول بيت المال. وكان ذلك بداية هجرات لقبائل عربية بكاملها من الجزيرة العربية إلى بلاد الرافدين ومصر وبلاد الشام، ومنها قبيلةُ عنزة. ويذكر التاريخُ أيضا أن بعضَ هذه القبائلِ العربية قد تشيعت قبل حوالي قرنين، وهو الأمر الذي يجعلُ الشيعةَ في العراق مقسمين بين شيعة عرب خالصة، وشيعة من أصول فارسية. وتلك بدورها واحدة من أسس الانقسام الموجودة تحت السطح بين شيعة العراق.

إنّ التأمل في خريطة توزعٍ كلَّ تلك القبائلِ وبطونها وأفخاذها وعشائرها المختلفة، يجعلنا ندرك أن القبيلة ما زالت تعيشُ في الوجدان الاجتماعي والحضاري للمجتمع العربي ككل، وما زالت لها سطوتُها، وما زال لها دورُها الذي لا تُسلطُ عليه الأضواءُ كثيرًا إلا في حالات محدودةٍ جدا، لعل أبرزَها الحالة اليمنية. ولعل ما جرى ويجري في العراق يوضح الصورة بعضَ الشيء، حيثُ أخذتِ الأمورُ منحى يمكنُ وصفُه بالعكسي بعد سقوط بغداد 2003. فبدلاً من تأكيد مفهومِ المواطنةِ العراقية، تم إعادةُ البناءِ السياسي وفقًا للحصص الطائفية والعرقية، (مفهوم المحاصصة السائد في لبنان وأصبح سائدًا في العراق)، وبدلًا من بناء المؤسسات العراقية بعد صدام وفقا لمفهوم الفرصِ المتكافئة، تمّ توزيعُ الحقائبِ بناءً على العلاقات القرابية والعشائرية والطائفية.

الخلاصة:

يقول ديفيد هيرست David Hirst الكاتبُ الصحافي البريطاني :”إنّ العقليةَ الحالمة التي تخوضُ بها الليبراليةُ الغربيةُ عملياتِها العسكريةَ في غرب آسيا والشرق الأوسط تعكسُ كثيرًا من سيكولوجية الإمبراطورية الغربية الآخذةِ في التلاشي، التي ما زالت تعيشُ حالةَ إنكار من ضمنها إنكارُ دورِها في الكارثة التي حلّت بأفغانستان.”

لكنّ سؤالَ البحثِ المحوري: هل يمكنُ لمفهوم القبيلة أن يصنعَ نجاحاتِ مثيلاتِها في أفغانستان؟ إنّ فشلَ قدرةِ القبيلة في مناطقنا العربية على صناعة التغيير، يمكن عزوه لكثير من الأسباب. فالنموذج “البعثي” الذي حكم سورية والعراق لأكثرَ من أربعة عقودٍ ، وبُـنِـي على تجربة سابقة للدولة الوطنيةِ المعاصرة منذ الاستقلال، واستند إلى صيغة مؤسسية ذات طابعٍ حديثٍ شكلاً، ثبت أنه لم يكنُ سوى شكلٍ فاقدٍ للمضمون. فقد كان هناك الرئاسةُ والوزارةُ والسلطةُ القضائية والحزبُ ومؤسساتٌ سياسية واجتماعية وثقافية أخرى لا حصر لها بما فيها غيرُ الحكومية. لكن في الوقت ذاته، كانتِ الطريقةُ التي تُدارُ بها كلُّ هذه الأطرِ المؤسسيةِ المعاصرةِ شكلًا، طريقة عشائرية وقبلية بالأساس، بل وطائفية وعرقية أيضًا، حيث استبعدت فئاتٍ وقُرِبَت فئاتٍ لأسباب طائفية وعرقية ومصلحية، وتم استخدامُ مركزية الدولة واقتصادها لزرع الفتن بين العشائر وفي داخل العشيرة نفسها.

بعبارة أخرى، الشرق الأوسطُ لم يكنْ سوى نموذج طائفي عرقي يستند إلى مفاهيمَ إقصائيةٍ بالأساس. والخوف الآن هو إعادةُ إنتاجِ النموذج ذاته. بمختصر القول لن يكونَ لمفهوم القبيلةِ المنهكِ في دولنا دورٌ إيجابيٌّ كما كان في أفغانستان. ومع الأسف هذا المفهومُ لا ينطبقُ فقط على الشرق الأوسط بل يتعداه الى مناطق عربية أخرى! فمن لم يكنْ لديه انقساماتٌ طائفية وعرقية واضحة كالحالة العراقية واللبنانية والسورية، يجد انقساماتٍ من نوع آخرَ تستندُ إلى المناطق، أو ما يعرف بالجهوية في بلدان المغرب العربي،والمحافظات والولايات، كما في مصر والسودان، والعشيرة كما في ليبيا وبلدان الخليج العربية. وفي العديد من الحالات، تمتزجُ كلُّ هذهِ العناصرِ على نحو فريد، بل وتتقاطع فيما بينها عبر أكثر من دولة “عربية حديثة”(بالمعنى الاصطلاحي لا الحقيقي للكلمة).وفي حال كهذا، يبدو المنطقُ مؤيدًا لافتراض أنّ الأصولَ القبليةَ الواحدة أو القريبة تدفعُ للتعاون والتكاتف، غير أنّ التجربةَ العربية أثبتت عكسَ المنطقِ دائما، وتلك بدورها غرابةٌ اجتماعيةٌ وثقافية أخرى يختصُّ بها العربُ دون غيرِهم من الأمم.

وهنا يبقى سؤال محوري علينا جميعاً مسؤولية تاريخية في الإجابة عليه -ولو على المستوى النظري التخطيطي في هذه المرحلة- وهو كيف نعيد بناء النسيج الاجتماعي ومفهوم الدولة في دولنا الرخوة التي تنزلق بسرعة لتغدو دولً فاشلة؟ طالبان قد تكون وجدت الحل ولو بعد حين ! فهل سنجده؟!!!