الشعبوية حالة تعبيرية، ديماغوجية، ازدهرت بشكلٍ لافت للنظر في الزمن السياسي المعاصر، وظهرت وانتشرت، خصوصاً في المجتمعات الديمقراطية. ذلك أنّ الشعبويين يستغلّون مناخ الحرّيات في البلدان الحداثية، التعدّدية، المفتوحة لتحشيد الناس واستقطابهم بغرض المحافظة على مراكز النفوذ وصناعة القرار، أو بغرض الوصول إلى الحكم، فالسلوك الشعبوي، قولاً وممارسة، فعلٌ يقبل عليه الحاكم والمعارض، ويروم استمالة الناس وتشكيل رأي عام داعم لفكرة ما أو زعيم ما أو جماعة ما ونقض الآخر على كيْفٍ ما. وينبني الفعل الشعبوي أساساً على تقسيم المجتمع قسمين، هما “نحن” الصفوة العارفة، الطاهرة، الناجية، المتواضعة، القريبة من مشاغل الناس والواعدة بحلّ مشكلاتهم، و”هم” النخب العاجية، المتخلّفة، الفاسدة، الضالّة، المتعالية، البعيدة عن هموم الناس والعاجزة عن حلّ أزماتهم.
ويتأسّس الخطاب الشعبوي على نقض المنظومة السياسية أو العقدية السائدة أو التقليدية، وإعلاء مقولات السيادة الوطنية والهوية الذاتية والتمكين للشعب، وادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، والقدرة على إحداث التغيير الجذري، الشامل، وتحقيق الخلاص الجماعي، وذلك من خلال تحبيب الولاء للزعيم أو الجماعة والتأسيس للذات عبر تقويض الآخر. والناظر في المشهد السياسي التونسي بعد الثورة يتبيّن انتشار الشعبوية الحزبية، مع انتقال البلاد من الأحادية إلى التعدّدية ومن الدولة الشمولية/ القامعة إلى الدولة المعنية بالدمقرطة وضمان الحريات. ومعظم الأحزاب الفاعلة، بعد الثورة، تمارس الشعبوية بشكل أو بآخر، وتستحضر قواعدها وآلياتها لخدمة أجنداتها الحزبية المخصوصة.
الواقع أنّ ترويج خطاب شعبوي هو أعدل الأشياء قسمةً بين معظم الأحزاب التونسية عند التنافس على الفوز في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية، فكلّ حزبٍ يظهر في الزمن الانتخابي في مظهر القريب من الناس، ويقدّم قادة حملته التفسيرية وعوداً ورديةً جمّة للناس، ويدْعي أنّه الحزب الوطني المخلّص، والقادر على إحداث التغيير المنشود، وأنّ منافسيه ناقصو علم وخبرة، لا يدركون حاجيات المواطنين ويعيشون في أبراج عاجية، وأنّه الأجدر بتمثيل جمهور الناخبين في كرسي رئاسة الجمهورية، أو تحت قبة البرلمان. واللافت أنّ معظم الأحزاب ترفع شعاراتٍ ضبابية، ولا تقدّم برامج تفصيلية لكيفيات إدارة الشأن العام وحلّ أزمات البلاد، ولا تذكُر بشكل دقيق آليات تنفيذ برامجها إن وجدت، ولا مصادر تمويل مشاريعها الواعدة والمدى الزمني المطلوب لتحقيقها. ويندرج هذا الغموض المقصود ضمن استراتيجيات الخطاب الشعبوي الحزبي الذي يركّز على تقديم وعودٍ عامّة بالتغيير والإيهام بغد أفضل لدغدغة مشاعر الناس واستقطابهم، ويتحاشى الشعبوي الدخول في التفاصيل، وبيان آليات التنفيذ، لأنّه لا يملك تصوّراً شاملاً للراهن، ولا بدائل حقيقية للواقع. بل يُمعن في اللعب على وتر التخييل الجمْعي. كما أنّ قُرْب جلّ الأحزاب الشعبوية التونسية من المواطنين هو قرْب ظرفي/ مناسباتي/ انتهازي غالباً ما ينتهي بانتهاء الحملة الانتخابية. وفي مستوى رصد الأداء الشعبوي لأحزابٍ بارزةٍ في تونس بعد الثورة، يمكن الوقوف عند تجارب ثلاثة مكوّنات حزبية من مشارب أيديولوجية مختلفة: حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، والجبهة الشعبية ذات الخلفية اليسارية، القومية، والحزب الدستوري الحر سليل النظام الشمولي القديم.
لا يمكن أن ينكر الدارس الموضوعي أنّ حركة النهضة من أكثر الأحزاب التي كانت وما زالت ضحيّة قصف إعلامي مستدامٍ، قبل الثورة وبعدها، وتواجه حملاتٍ شعبويةً أيديولوجيةً مكثفةً تهدف إلى تحجيمها وتشويهها، وشيْطنتها على خلفية أنّها حركةٌ مدنيةٌ ذات مرجعية إسلامية. لكنّ ذلك لا يمنع من أنّ هذه الحركة ركبت بدورها موجة الشعبوية في بعض أنشطتها الحزبية والدعائية، فمعلومٌ أنّ حركة النهضة صعدت إلى سدّة الحكم إبّان الثورة وكسبت رصيداً شعبياً معتبراً في انتخابات2011 لأنّها روّجت خطاباً شعبوياً، استثمر في المظلومية، والتاريخ النضالي للجماعة. ووعدت الحركة بتحقيق نقلة نوعية اقتصادية شاملة، وإنصاف المظلومين، وإنفاذ العدالة، والقطع مع رموز النظام القديم، والانتصار للثورة، وقيم الإسلام والعروبة. واستقطبت كثيرين، حتى إنّ سلفيين صوّتوا لها، مرجّحين أنّها ستطبّق الشريعة وستجسّد في الواقع ما يُعرف بشعار “الإسلام هو الحل”. وبعد سنوات من إدارتها تجربة الحكم، تبيّن أنّ حركة النهضة كانت تمارس ما تسمّى استراتيجية الوعْد الشعبوي التي تنبني على تكثيف الحلم بالتغيير، ومخاطبة عواطف الجمهور المتلقي، من دون أن يعني ذلك تحويل تلك الأحلام إلى واقع، فوعودٌ كثيرة أعلنتها الحركة لم تتحقق، لذلك تركها السلفيون، لأنها لم تنخرط في مشروع تطبيق الشريعة، وأخونة المجتمع، وآثرت الالتزام بالقوانين الوضعية وتكريس نمط مجتمعي تعدّدي، يستحضر التديّن، من دون أن يفرضه على الناس. كما أنّ النزعة الثورية الشعبوية للحركة تراجعت بتطبيعها مع مؤسسة الحكم، وتقديمها تنازلاتٍ لصالح معسكر النظام القديم، فقد رفضت تمرير قانون تحصين الثورة، والعزل السياسي لرموز المنظومة الاستبدادية، فعاد هؤلاء إلى تعطيل مسار الانتقال الديمقراطي. وصدّقت على قانون المصالحة الإدارية/ الاقتصادية الذي وضع حدّاً للمتابعة القضائية لرجال أعمال وإداريين محسوبين على النظام القديم، ولم تبذل الجهد الكافي لتأسيس المحكمة الدستورية، ولم تضغط من أجل تطبيق مخرجات العدالة الانتقالية وإنصاف ضحايا الدولة القامعة. ومن ثمّة، استنزفت تجربة الحكم حركة النهضة، وكشفت تهافت وعْدها الشعبوي، وأدّى ذلك إلى تقلّص قاعدة مناصريها على التدريج في الشارع التونسي. ومن غير البعيد أن تستعيد طيْفاً من المتعاطفين معها، في حال حققت بعض وعودها المعلّقة.
وعلى سبيل الشعبوية، سمّى ائتلاف حزبي تكوّن من روافد حزبية يسارية وقومية نفسه “الجبهة الشعبية” (2012)، وهو اسم حمل طيّه ادّعاء تمثيل الشعب، والوصاية عليه، واستحضار مشاغله، والدفاع عن مطالبه، واحتكار الصوابية السياسية على كيْفٍ ما. ورفعت الجبهة شعارات تحقيق أهداف الثورة، والدفاع عن السيادة الوطنية، ووضع حدّ للمديونية الكريهة، ومواجهة الليبرالية الاقتصادية المتوحشة، وتكريس العدالة الانتقالية. واستثمرت الجبهة الشعبية في صورة زعيمها، حمّة الهمّامي، المعروف بنضاله الطويل ضدّ الدولة القامعة، ووظّفت المظلومية مدخلاً لكسب التعاطف الشعبي عقب مقتل اثنين من قيادييها في عمليات إرهابية (شكري بلعيد، محمد البراهمي)، وخاضت غمار الانتخابات التشريعية (2014)، وفازت بـ 15مقعداً في البرلمان. وبدل التركيز على تحويل شعاراتها إلى واقع معيش، ظلّت الجبهة اليسارية/ القومية المذكورة مسكونةً بهاجس شيطنة الإسلاميين عموماً، وحركة النهضة خصوصاً، وتحميلها مسؤولية تعثّر المسار الديمقراطي، وتدهور الاقتصاد، وظهور الإرهاب، معتمدةً في ذلك خطاباً شعبوياً، غير استدلالي، ينبني على التأسيس للذات، عبر تقويض الآخر بسبب غَيْريته الأيديولوجية والبرامجية. وظلّت الجبهة الشعبية على امتداد مدّتها النيابية (2014 – 2019) كتلة احتجاج شعبوي، ولم ترتق إلى أن تكون قوّة اقتراح وبناء في مستوى علاقتها بالحكومة القائمة والفرقاء السياسيين. وساهم الخطاب الشعبوي/ الديماغوجي للجبهة، والمفعم بالأحكام المعيارية وادّعاء امتلاك الحقيقة والإصرار على إدانة الآخرين واختراع أعداء حقيقيين حيناً، ووهميين حيناً آخر، في انحسار القاعدة الجماهيرية للجبهة الشعبية، واعتراها صراعٌ على الزعامة عجّل بحلّها. وأنتج ذلك كله خيْبةً جليّةً لليسار التونسي في الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2019.
أمّا الحزب الدستوري الحر فحزب شعبوي، يميني، متطرّف، تسلّل إلى التجربة الديمقراطية التونسية الناشئة بغرض هدْمها من الداخل. وتعتبر زعيمة الحزب، عبير موسي، الثورة التونسية مؤامرة، دُبّرت من الخارج، وتندرج ضمن ما تسمّيه “ربيع الخراب”، ولا تعترف بدستور2014 ومشروع الدمقرطة والعدالة الانتقالية. والغرض من هذا التوجّه استتباع أنصار الثورة المضادّة، وتأمين إفلات رموز النظام الدكتاتوري من العقاب. والخطاب الشعبوي/ الديماغوجي، المغلق للحزب، مسكون بهاجس الشدّ إلى الخلف، ونوستالجيا استعادة مثال الدولة البوليسية، الأحادية، ويعجّ بالتشكيك في المنجز الحقوقي والسياسي للثورة، وتزييف الحقائق، وتبخيس الديمقراطية والعمل على تنفير الناس منها. ويغتنم الحزب واقع حرّية التعبير في البلاد ليروّج خطاباً دعائياً مشحوناً بالكراهية وإقصاء الآخر، فقيادات الحزب لا تُعادي حركة النهضة فحسب، بل تعد بإرجاع أنصارها وقادتها في غياهب السجون.
ومن المفارقات أن موسي ترفع شعار استعادة هيْبة الدولة، ومراعاة مصالح تونس الخارجية، وفي الوقت نفسه، تُسيء لدول داعمة لتونس، مثل أميركا وقطر وتركيا. وتتعمّد تعطيل أشغال البرلمان، وهو المؤسسة التمثيلية السيادية العليا في البلاد، ولا تتردّد في ممارسة مختلف أنواع العنف الرمزي، والمعنوي، واللفظي، ضدّ المخالفين لها، إسلاميين كانوا أو قوميين أو ليبراليين أو مستقلّين، وتنعتهم بالخونة والعملاء، وعديمي الشرف والرجولة، فقط لأنّهم خالفوها الرأي، ورفضوا الانخراط في دوّامة حملاتها الشعبوية/ الإقصائية. ومن ثمّة، نحن إزاء حزب فوضوي، يضمر مقولة “أنا الحق ومن بعدي الطوفان”، ويعد الناس بتغيير وهمي، ليس في الحقيقة إلّا عودةً إلى أتون الدكتاتورية، والحكم الأحادي/ الرئاسوي البغيض.
أحرى بالشعبويين أن يدركوا أنّ “من حقّنا أن نحلم، لكن ليس من حقنا أن نجعل الواقع وهماً”، كما حدّث لينين. وإن لم يفعلوا، فستزداد الفجوة بين السياسيين وعموم المواطنين في السياق التونسي، ذلك أنّ الشعبوية هي تزييف للوعي وقفز على الواقع على نحوٍ ما.
المصدر: العربي الجديد